فصل: تفسير سورة اقرأ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير سورة اقرأ

وهي أول شيء نزل من القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت‏:‏ أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح‏.‏ ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه -وهو‏:‏ التعبد- الليالي ذواتَ العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال‏:‏ اقرأ‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال‏:‏ اقرأ‏.‏ فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ‏.‏ فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏ اقرأ‏.‏ فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ‏.‏ فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ قال‏:‏ فرجع بها تَرجُف بَوادره حتى دخل على خديجة فقال‏:‏ ‏"‏زملوني زملوني‏"‏‏.‏ فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع‏.‏ فقال‏:‏ يا خديجة، ما لي‏:‏ فأخبرها الخبر وقال‏:‏ ‏"‏قد خشيت علي‏"‏‏.‏ فقالت له‏:‏ كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق‏.‏ ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى ابن قُصي -وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ -فقالت خديجة‏:‏ أيّ ابن عم، اسمع من ابن أخيك‏.‏ فقال ورقة‏:‏ ابنَ أخي، ما ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أومخرجيَّ هُم‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال ورقة‏:‏ نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا‏.‏ ‏[‏ثم‏]‏ لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسولُ الله حقًا‏.‏ فيسكن بذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع‏.‏ فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل، فقال له مثل ذلك‏.‏

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى، فمن أراده فهو هناك محرر، ولله الحمد والمنة‏.‏

فأول شيء ‏[‏نزل‏]‏ من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم‏.‏ وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ وفي الأثر‏:‏ قيدوا العلم بالكتابة ‏.‏ وفيه أيضا‏:‏ ‏"‏من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يكن ‏[‏يعلم‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 19‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏

يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله‏.‏ ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ أي‏:‏ إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك‏:‏ من أين جمعته‏؟‏ وفيم صرفته‏؟‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو عُمَيس، عن عون قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ مَنهومان لا يشبعان، صاحب العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان،فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان‏.‏ قال ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ وقال للآخر‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏منهومان لا يشبعان‏:‏ طالب علم، وطالب دنيا‏"‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، أو ‏{‏أَمَرَ بِالتَّقْوَى‏}‏ بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ أي‏:‏ أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء‏.‏

ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا‏:‏ ‏{‏كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ‏}‏ أي‏:‏ لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد ‏{‏لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ أي‏:‏ لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها‏.‏

‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ‏}‏ أي‏:‏ قومه وعشيرته، أي‏:‏ ليدعهم يستنصر بهم، ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلبُ‏:‏ أحزبُنا أو حزبه‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه‏.‏ فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏لئن فعله لأخذته الملائكة‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ تابعه عمرو بن خالد، عن عبيد الله -يعني ابن عمرو- عن عبد الكريم‏.‏ وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق، به وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زكريا بن عَدِيّ، عن عبيد الله بن عمرو، به‏.‏

وروى أحمد، والترمذي وابن جرير -وهذا لفظه- من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال‏:‏ يا محمد، ألم أنهك عن هذا‏؟‏ -وَتَوعَّده- فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال‏:‏ يا محمد، بأي شيء تهددني‏؟‏ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا‏!‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا إسماعيل بن زيد أبو يزيد، حدثنا فُرَات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير أيضا‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه‏.‏ فأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏[‏خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏]‏‏}‏ حتى بلغ هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقيل‏:‏ ما يمنعك‏؟‏ قال‏:‏ قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، حدثنا نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفِّرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته، قال‏:‏ فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال‏:‏ فقيل له‏:‏ ما لك‏؟‏ فقال‏:‏ إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وأنزل الله -لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا-‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقد رواه أحمد بن حنبل، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، من حديث معتمر بن سليمان، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَلا لا تُطِعْهُ‏}‏ يعني‏:‏ يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، ‏{‏وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ كما ثبت في الصحيح -عند مسلم- من طريق عبد الله بن وهب، عن

عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء‏"‏‏.‏

وتقدم أيضًا‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في‏:‏ ‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ‏}‏ و‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ آخر تفسير سورة ‏"‏اقرأ‏"‏‏.‏

تفسير سورة القدر

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏

يخبر الله تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي قال الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3‏]‏ وهي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

قال ابن عباس وغيره‏:‏ أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال تعالى مُعَظِّما لشأن ليلة القدر، التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدّاني عن يوسف بن سعد قال‏:‏ قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال‏:‏ سَوّدتَ وجوهَ المؤمنين -أو‏:‏ يا مسود وجوه المؤمنين- فقال‏:‏ لا تؤنبني، رحمك الله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أريَ بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ يا محمد، يعني نهرًا في الجنة، ونزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ يملكها بعدك بنو أمية يا محمد‏.‏ قال القاسم‏:‏ فعددنا فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يومًا ولا تنقص يومًا‏.‏

ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وابن مهدي‏.‏ قال‏:‏ وشيخه يوسف بن سعد -ويقال‏:‏ يوسف بن مازن- رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث، على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه‏.‏

وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه، من طريق القاسم بن الفضل، عن يوسف بن مازن، به وقول الترمذي‏:‏ إن يوسف هذا مجهول -فيه نظر؛ فإنه قد روى عنه جماعة، منهم‏:‏ حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد‏.‏ وقال فيه يحيى بن معين‏:‏ هو مشهور، وفي رواية عن ابن معين ‏[‏قال‏]‏ هو ثقة‏.‏ ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل، عن عيسى بن مازن، كذا قال، وهذا يقتضي اضطرابًا في هذا الحديث، والله أعلم‏.‏ ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدًا، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزّي‏:‏ هو حديث منكر‏.‏

قلت‏:‏ وقول القاسم بن الفضل الحُدّاني إنه حسب مُدّة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص، ليس بصحيح؛ فإنّ معاويةَ بن أبي سفيان، رضي الله عنه، استقل بالملك حين سَلّم إليه الحسن بن علي الإمرة سنةَ أربعين، واجتمعت البيعة لمعاوية، وسمي ذلك عام الجماعة، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها، لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريبًا من تسع سنين، لكن لم تَزُل يدهم عن الإمرة بالكلية، بل عن بعض البلاد، إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة، وذلك أزيد من ألف شهر، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير، وعلى هذا فتقارب ما قاله الصحة في الحساب، والله أعلم‏.‏

ومما يدلّ على ضَعف هذا الحديث أنَّه سِيقَ لذم دولة بني أمية، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق؛ فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذَم أيامهم، فإنّ ليلة القدر شريفة جدًا، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر، فكيف تُمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة، بمقتضى هذا الحديث، وهل هذا إلا كما قال القائل‏:‏

ألَم تَرَ أنّ السيف ينقُصُ قَدْرُه *** إذا قِيل إنّ السيف أمضَى مِن العَصَا

وقال آخر‏:‏

إذا أنتَ فَضَّلتَ امرأ ذا بَرَاعَة *** عَلى نَاقص كَانَ المديحُ منَ النَّقص

ثم الذي يفهم من ولاية الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية، والسورة مكية، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها‏؟‏‏!‏ والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا مسلم -يعني ابن خالد- عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لَبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، قال‏:‏ فَعَجب المسلمون من ذلك، قال‏:‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام بن سلم، عن المثنى بن الصباح، عن مجاهد قال‏:‏ كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب، حدثني مسلمة بن عُلَيّ، عن علي بن عروة قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل، عبدوا الله ثمانين عامًا، لم يَعْصوه طرفة عين‏:‏ فذكر أيوب، وزكريا، وحزْقيل بن العجوز، ويوشع بن نون -قال‏:‏ فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل فقال‏:‏ يا محمد، عَجِبَتْ أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة، لم يَعْصُوه طرفة عين؛ فقد أنزل الله خيرًا من ذلك‏.‏ فقرأ عليه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك‏.‏ قال‏:‏ فَسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ بَلَغني عن مجاهد‏:‏ ليلةُ القدر خير من ألف شهر‏.‏ قال‏:‏ عَمَلها، صيامها وقيامها خير من ألف شهر‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد‏:‏ ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس في تلك الشهور ليلة القدر‏.‏ وهكذا قال قتادة بن دعامة، والشافعي، وغير واحد‏.‏ وقال عمرو بن قيس الملائي‏:‏ عمل فيها خير من عمل ألف شهر‏.‏

وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر -وليس فيها ليلة القدر- هو اختيارُ ابن جرير‏.‏ وهو الصواب لا ما عداه، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رِباطُ ليلة في سبيل الله خَيْر من ألف ليلة فيما سواه من المنازل‏"‏‏.‏ رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة، ونية صالحة‏:‏ ‏"‏أنه يُكتَبُ له عمل سنة، أجر صيامها وقيامها‏"‏ إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابَة، عن أبي هُريرة قال‏:‏ لما حضر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خَيرَها فقد حُرم‏"‏‏.‏ ورواه النسائي، من حديث أيوب، به‏.‏

ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تَقَدَّم من ذنبه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ أي‏:‏ يكثر تَنزلُ الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحِلَق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له‏.‏

وأما الروح فقيل‏:‏ المراد به هاهنا جبريل، عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام‏.‏ وقيل‏:‏ هم ضرب من الملائكة‏.‏ كما تقدم في سورة ‏"‏النبأ‏"‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ سلام هي من كل أمر‏.‏

وقال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سَلامٌ هِيَ‏}‏ قال‏:‏ هي سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى‏.‏

وقال قتادة وغيره‏:‏ تقضى فيها الأمور، وتقدر الآجال والأرزاق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ قال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا هُشَيْم، عن أبي إسحاق، عن الشعبي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ قال‏:‏ تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد، حتى يطلع الفجر‏.‏

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏"‏من كل امرئ سلام هي حتى مطلع الفجر‏"‏‏.‏

وروى البيهقي في كتابه ‏"‏فضائل الأوقات‏"‏ عن عليٍّ أثرًا غريبًا في نزول الملائكة، ومرورهم على المصلين ليلة القدر، وحصول البركة للمصلين‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار أثرًا غريبًا عجيبًا مطولا جدًا، في تنزل الملائكة من سدرة المنتهى صحبة جبريل، عليه السلام، إلى الأرض، ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا عمران -يعني القطان- عن قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هُريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر‏:‏ ‏"‏إنها ليلة سابعة -أو‏:‏ تاسعة -وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى‏"‏‏.‏

وقال الأعمش، عن المِنهَال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ‏}‏ قال‏:‏ لا يحدث فيها أمر‏.‏

وقال قتادة وابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏سَلامٌ هِيَ‏}‏ يعني هي خير كلها، ليس فيها شر إلى مطلع الفجر‏.‏ ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد‏:‏

حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح، حدثنا بَقِيَّة، حدثني بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن عبادة بن الصامت‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر‏:‏ تسع أو سبع، أو خامسة، أو ثالثة، أو آخر ليلة‏"‏‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بَلْجَة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة سجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب يُرمَى به فيها حتى تصبح‏.‏ وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ‏"‏‏.‏ وهذا إسناد حسن، وفي المتن غرابة، وفي بعض ألفاظه نكارة‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي، حدثنا زَمْعَة، عن سلمة بن وَهْرام، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر‏:‏ ‏"‏ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء‏"‏‏.‏

وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها، وهي في العشر الأواخر، من لياليها ليلة طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمرًا، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها‏"‏‏.‏

فصل‏[‏في ليلة القدر‏]‏

اختلف العلماء‏:‏ هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة، أو هي من خصائص هذه الأمة‏؟‏

على قولين‏:‏

قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري‏:‏ حدثنا مالك‏:‏ أنه بلغه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله -أو‏:‏ ما شاء الله من ذلك- فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر وقد أسند من وجه آخر‏.‏

وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقد نقله صاحب ‏"‏العُدّة‏"‏ أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء، فالله أعلم‏.‏ وحكى الخطابي عليه الإجماع ‏[‏ونقله الرافعي جازمًا به عن المذهب‏]‏ والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، عن عكرمة بن عمار‏:‏ حدثني أبو زُمَيل سِمَاك الحَنَفي‏:‏ حدثني مالك بن مَرْثَد بن عبد الله، حدثني مَرْثَد قال‏:‏ سألت أبا ذر قلت‏:‏ كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر‏؟‏ قال‏:‏ أنا كنت أسأل الناس عنها، قلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضان هي أو في غيره‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بل هي في رمضان‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت‏؟‏ أم هي إلى يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بل هي إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ في أي رمضان هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏التمسوها في العشر الأول، والعشر الأواخر‏"‏‏.‏ ثم حَدّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحَدّث، ثم اهتبلت غفلته قلت‏:‏ في أي العشرين هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها‏"‏‏.‏ ثم حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اهتبلت غفلته فقلت‏:‏ يا رسول الله، أقسمت عليك بحقي عليك لَمَا أخبرتني في أي العشر هي‏؟‏ فغضب علي غضبًا لم يغضب مثله منذ صحبته، وقال‏:‏ ‏"‏التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها‏"‏‏.‏ ورواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى بن سعيد القطان، به‏.‏

ففيه دلالة على ما ذكرناه، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة ‏[‏بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية، على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعدُ من قوله، عليه السلام‏:‏ ‏"‏فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم‏"‏؛ لأن المراد رفعُ عِلْم وقتها عينًا‏.‏ وفيه دلالة على أنها ليلة القدر يختص وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور، لا كما رُوي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة، من أنها توجد في جميع السنة، وترجى في جميع الشهور على السواء‏.‏

وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال‏:‏ ‏"‏باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان‏"‏‏:‏ حدثنا حُمَيد بن زَنْجُويه النسائي أخبرنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، حدثني موسى بن عقبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر، فقال‏:‏ ‏"‏هي في كل رمضان‏"‏‏.‏

وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا داود قال‏:‏ رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه‏.‏

وقد حكي عن أبي حنيفة، رحمه الله، رواية أنها ترجى في جميع شهر رمضان‏.‏

وهو وجه ‏[‏حكاه‏]‏ الغزالي، واستغربه الرافعي جدًا‏.‏

فصل‏:‏ ثم قد قيل‏:‏ إنها في أول ليلة من شهر رمضان، يحكى هذا عن أبي رَزِين‏.‏ وقيل‏:‏ إنها تقع ليلة سبع عشرة‏.‏ وروى فيه أبو داود حديثًا مرفوعًا عن ابن مسعود‏.‏ وروي موقوفًا عليه، وعلى زيد بن أرقم، وعثمان بن أبي العاص‏.‏

وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي، ويحكى عن الحسن البصري‏.‏ ووجهوه بأنها ليلة بدر، وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشر من شهر رمضان، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر، وهو اليوم الذي قال الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة تسع عشرة، يحكى عن علي وابن مسعود أيضًا، رضي الله عنهما‏.‏‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة إحدى وعشرين؛ لحديث أبي سعيد الخدري قال‏:‏ اعتكف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏في‏]‏ العشر الأوَل من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن الذي تطلب أمامك‏.‏ فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال‏:‏ ‏[‏إن‏]‏ الذي تطلب أمامك‏.‏ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان، فقال‏:‏ ‏"‏من كان اعتكف معي فليرجع، فإني رأيت ليلة القدر، وإني أنسيتها، وإنها في العشر الأواخر وفي وِتْر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء‏"‏‏.‏ وكان سقف المسجد جريدًا من النخل، وما نَرى في السماء شيئًا، فجاءت قَزَعَة فَمُطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏في صبح إحدى وعشرين‏"‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وهذا الحديث أصح الروايات‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة ثلاث وعشرين؛ لحديث عبد الله بن أنيس في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد، فالله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة أربع وعشرين، قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، عن الجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليلة القدر ليلة أربع وعشرين‏"‏ إسناده رجاله ثقات‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حَبِيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن بلال قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليلة القدر ليلة أربع وعشرين‏"‏‏.‏

ابن لهيعة ضعيف‏.‏ وقد خالفه ما رواه البخاري عن أصبغ، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن أبي عبد الله الصنابحي قال‏:‏ أخبرني بلال -مؤذنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنها أول السبع من العشر الأواخر، فهذا الموقوف أصح، والله أعلم‏.‏ وهكذا رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، وجابر، والحسن، وقتادة، وعبد الله بن وهب‏:‏ أنها ليلة أربع وعشرين‏.‏ وقد تقدم في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا‏:‏ ‏"‏إن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ تكون ليلة خمس وعشرين؛ لما رواه البخاري، عن عبد الله بن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى‏"‏‏.‏ فَسَّره كثيرون بليالي الأوتار، وهو أظهر وأشهر‏.‏ وحمله آخرون على الأشفاع كما رواه مسلم عن أبي سعيد، أنه حمله على ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها تكون ليلة سبع وعشرين؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنها ليلة سبع وعشرين‏"‏‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان‏:‏ سمعت عبدة وعاصمًا، عن زِرّ‏:‏ سألت أبيّ بن كعب قلت‏:‏ أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول‏:‏ من يُقِم الحَولَ يُصبْ ليلة القدر‏.‏ قال‏:‏ يرحمه الله، لقد علم أنها في شهر رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين‏.‏ ثم حلف‏.‏ قلت‏:‏ وكيف تعلمون ذلك‏؟‏ قال‏:‏ بالعلامة -أو‏:‏ بالآية- التي أخبرنا بها، تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها، أعني الشمس‏.‏

وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي، عن عبدة، عن زِرّ، عن أبي، فذكره، وفيه‏:‏ فقال‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- والله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها‏.‏

وفي الباب عن معاوية، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنها ليلة سبع وعشرين‏.‏ وهو قول طائفة من السلف، وهو الجَادّة من مذهب أحمد بن حنبل، رحمه الله، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا‏.‏ وقد حُكِيَ عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن، من قوله‏:‏ ‏{‏هِيَ‏}‏ لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة، والله أعلم‏.‏

وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة وعاصم‏:‏ أنهما سمعا عكرمة يقول‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ دعا عمر بن الخطابأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقلت لعمر‏:‏ إني لأعلم -أو‏:‏ إني لأظن- أي ليلة القدر هي‏؟‏ فقال عمر‏:‏ أي ليلة هي‏؟‏ ‏[‏فقلت‏]‏ سابعة تمضي -أو‏:‏ سابعة تبقى- من العشر الأواخر‏.‏ فقال عمر‏:‏ ومن أين علمت ذلك‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ فقلت‏:‏ خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، وإن الشهر يدور على سبع، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع‏.‏‏.‏‏.‏لأشياء ذكرها‏.‏ فقال عمر‏:‏ لقد فطنت لأمر ما فطنا له‏.‏ وكان قتادة يَزيد عن ابن عباس في قوله‏:‏ ويأكل من سبع، قال‏:‏ هو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا ‏[‏وَقَضْبًا‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏عبس‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏ وهذا إسناد جيد قوي، ونصٌ‏}‏ غريب جدًا، والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها تكون في ليلة تسع وعشرين‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا سعيد بن سلمة، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عُمرَ بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏في رمضان، فالتمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتْر إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، ‏[‏أو تسع وعشرين‏]‏ أو في آخر ليلة‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود -وهو‏:‏ أبو داود الطيالسي- حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي ميمونة عن أبي هريرة‏.‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر‏:‏ ‏"‏إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به‏.‏

وقيل‏:‏ إنها تكون في آخر ليلة، لما تقدم من هذا الحديث آنفًا ولما رواه الترمذي والنسائي، من حديث عُيَينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث، أو آخر ليلة‏"‏‏.‏ يعني‏:‏ التمسوا ليلة القدر‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وفي المسند من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر‏:‏ ‏"‏إنها آخر ليلة‏"‏‏.‏

فصل ‏[‏ثان في ليلة القدر‏]‏

قال ‏[‏الإمام‏]‏ الشافعي في هذه الروايات‏:‏ صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا للسائل إذ قيل له‏:‏ ألتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية‏؟‏ يقول‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ وإنما ليلة القدر ليلة مُعَيَّنة‏:‏ لا تنتقل‏.‏ نقله الترمذي عنه بمعناه‏.‏ وروي عن أبي قِلابَة أنه قال‏:‏ ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر‏.‏

وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة نص عليه مالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والمزني، وأبو بكر بن خُزَيمة، وغيرهم‏.‏ وهو محكي عن الشافعي -نقله القاضي عنه، وهو الأشبه -والله أعلم‏.‏

وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن عُمر‏:‏ أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان مُتحريها فَلْيَتَحرها في السبع الأواخر‏"‏‏.‏

وفيها أيضًا عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تَحَرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان‏"‏ ولفظه للبخاري‏.‏

ويحتج للشافعي أنها لا تنتقل، وأنها معينة من الشهر، بما رواه البخاري في صحيحه، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فَتَلاحى رجلان من المسلمين، فقال‏:‏ ‏"‏خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة‏"‏‏.‏

وجه الدلالة منه‏:‏ أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين، لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة، إذا لو كانت تنتقل لما علموا تَعيُّنها إلا ذلك العام فقط، اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏فتلاحى فلان وفلان فرفعت‏"‏‏:‏ فيه استئناس لما يقال‏:‏ إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع، وكما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن العبد ليُحْرَم الرزقَ بالذَّنْبِ يُصِيبه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏فرفعت‏"‏ أي‏:‏ رفع علم تَعينها لكم، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود، كما يقوله

جهلة الشيعة؛ لأنه قد قال بعد هذا‏:‏ ‏"‏فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏وعسى أن يكون خيرًا لكم‏"‏ يعني‏:‏ عدم تعيينها لكم، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طُلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها، فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط‏.‏ وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر‏.‏ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، عز وجل‏.‏ ثم اعتكف أزواجهُ من بعده‏.‏ أخرجاه من حديث عائشة‏.‏

ولهما عن ابن عمر‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر‏.‏ أخرجاه‏.‏ ولمسلم عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره‏.‏

وهذا معنى قولها‏:‏ ‏"‏وشد المئزر‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك‏:‏ اعتزال النساء‏.‏ ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين، لما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سُرَيج، حدثنا أبو مَعْشَر، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شَدَّ مئزره، واعتزل نساءه‏.‏ انفرد به أحمد‏.‏

وقد حكي عن مالك، رحمه الله، أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء، لا يترجح منها ليلة على أخرى‏:‏ رأيته في شرح الرافعي، رحمه الله‏.‏

والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر‏.‏ والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء‏:‏ ‏"‏اللهم، إنك عَفُوٌّ تحب العفو، فاعف عني‏"‏؛ لما رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد -هو ابن هارون- حدثنا الجريري -وهو سعيد بن إياس- عن عبد الله بن بُريدة، أن عائشة قالت‏:‏ يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولي‏:‏ اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني‏"‏‏.‏وقد رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، من طريق كَهْمَس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت إن علمْتُ أي ليلة القدر، ما أقول فيها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولي‏:‏ اللهم، إنك عَفُو تحب العفو، فاعف عني‏"‏‏.‏ وهذا لفظ الترمذي، ثم قال‏:‏ ‏"‏هذا حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏ وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال‏:‏ ‏"‏هذا صحيح على شرط الشيخين‏"‏ ورواه النسائي أيضًا من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن مَرثَد، عن سليمان بن بُرَيدة عن عائشة قالت‏:‏ يا رسول الله، أرأيتَ إن وافقتُ ليلة القدر، ما أقول فيها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولي‏:‏ اللهم إنك عَفُو تحب العفو، فاعف عني‏"‏‏.‏

ذكر أثر غريب ونبأ عجيب، يتعلق بليلة القدر، رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم، عند تفسير هذه السورة الكريمة فقال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطواني، حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا موسى بن سعيد -يعني الراسبي- عن هلال أبي جبلة، عن أبي عبد السلام، عن أبيه، عن كعب أنه قال‏:‏ إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة، مما يلي الجنة، فهي على حَدّ هواء الدنيا وهواء الآخرة، عُلوها في الجنة، وعروقها وأغصانها من تحت الكرسي، فيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلا الله، عز وجل، يعبدون الله، عز وجل، على أغصانها في كل موضع شعرة منها ملك‏.‏ ومقام جبريل، عليه السلام، في وسطها، فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة قَدْر مع الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى، وليس فيهم ملك إلا قد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين، فينزلون على جبريل في ليلة القدر، حين تغرب الشمس، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك، إما ساجد وإما قائم، يدعو للمؤمنين والمؤمنات، إلا أن تكون كنيسة أو بيعة، أو بيت نار أو وثن، أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبَث، أو بيت فيه سكران، أو بيت فيه مُسكر، أو بيت فيه وثن منصوب، أو بيت فيه جرس مُعَلّق، أو مبولة، أو مكان فيه كساحة البيت، فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات، وجبريل لا يدع أحدًا من المؤمنين إلا صافحه، وعلامة ذلك مَن اقشعر جلدهُ ورقّ قلبه ودَمعَت عيناه، فإن ذلك من مصافحة جبريل‏.‏

وذكر كعب أنه من قال في ليلة القدر‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، ثلاث مرات، غَفَر الله له بواحدة، ونجا من النار بواحدة، وأدخله الجنة بواحدة‏.‏ فقلنا لكعب الأحبار‏:‏ يا أبا إسحاق، صادقًا‏؟‏ فقال كعب وهل يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ في ليلة القدر إلا كل صادق‏؟‏ والذي نفسي بيده، إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق، حتى كأنها على ظهره جبل، فلا تزال الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر‏.‏ فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى من الشمس، فيبسط جناحيه -

وله جناحان أخضران، لا ينشرهما إلا في تلك الساعة- فتصير الشمس لا شعاع لها، ثم يدعو مَلَكًا فيصعد، فيجتمع نور الملائكة ونور جناحي جبريل، فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة، فيقيم جبريل ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك، في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين والمؤمنات، ولمن صام رمضان احتسابًا، ودعاء لمن حَدث نفسه إن عاش إلى قابل صام رمضان لله‏.‏ فإذا أمسوا دخلوا السماء الدنيا، فيجلسون حلقًا ‏[‏حلقا‏]‏ فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا، فيسألونهم عن رجل رجل، وعن امرأة امرأة فيحدثونهم حتى يقولوا‏:‏ ماذا فعل فلان‏؟‏ وكيف وجدتموه العامَ‏؟‏ فيقولون‏:‏ وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدًا ووجدناه العام مبتدعًا، ووجدنا فلانا مبتدعًا ووجدناه العام عابدًا قال‏:‏ فيكفون عن الاستغفار لذلك، ويقبلون على الاستغفار لهذا، ويقولون‏:‏ وجدنا فلانا وفلانا يذكران الله، ووجدنا فلانًا راكعًا، وفلانًا ساجدًا، ووجدناه تاليا لكتاب الله‏.‏ قال‏:‏ فهم كذلك يومهم وليلتهم، حتى يصعدون إلى السماء الثانية، ففي كل سماء يوم وليلة، حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى، فتقول لهم سدرة المنتهى‏:‏ يا سكاني، حدثوني عن الناس وسموهم لي‏.‏ فإن لي عليكم حقًا، وإني أحبُّ من أحبَّ الله‏.‏ فذكر كعب الأحبار أنهم يَعدُون لها، ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم‏.‏ ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول‏:‏ أخبرني بما أخبرك سكانك من الملائكة‏.‏ فتخبرها، قال‏:‏ فتقول الجنة‏:‏ رحمة الله على فلان، ورحمة الله على فلانة، اللهم عجِّلهم إليَّ، فيبلغ جبريل مكانه قبلهم، فيلهمه الله فيقول‏:‏ وجدت فلانًا ساجدًا فاغفر له‏.‏ فيغفر له، فيسمعُ جبريلُ جميعَ حملة العرش فيقولون‏:‏ رحمة الله على فلان، ورحمة الله على فلانة، ومغفرته لفلان، ويقول يا رب، وجدت عبدك فلانًا الذي وجدته عام أول على السُنَّة والعبادة، ووجدته العام قد أحدث حدثًا وتولى عما أمر به‏.‏ فيقول الله‏:‏ يا جبريل، إن تاب فأعتبني قبل أن يموت بثلاث ساعات غفرت له‏.‏ فيقول جبريل‏:‏ لك الحمد إلهي، أنت أرحم من جميع خلقك، وأنت أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم، قال‏:‏ فيرتج العرش وما حوله، والحجب والسموات ومن فيهن، تقول‏:‏ الحمد لله الرحيم، الحمد لله الرحيم‏.‏

قال‏:‏ وذكر كعب أنه من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان ألا يعصي الله، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏ليلة القدر‏"‏ ‏[‏ولله الحمد والمنة‏]‏‏.‏

تفسير سورة لم يكن

وهي مدنية‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد -وهو ابن سلمة- أخبرنا علي -هو ابن زيد- عن عمار بن أبي عمار قال‏:‏ سمعت أبا حَيَّة البدري -وهو‏:‏ مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري- قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏"‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ‏"‏ إلى آخرها، قال جبريل‏:‏ يا رسول الله، إن ربك يأمرك أن تقرئها أُبَيًا‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي‏:‏ ‏"‏إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة‏"‏‏.‏ قال أبي‏:‏ وقد ذكرت ثم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فبكى أبي‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب‏:‏ ‏"‏إن الله أمرني أن أقرأ عليك‏:‏ ‏"‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏"‏ قال‏:‏ وسمانى لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فبكى‏.‏ ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث شعبة، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا سفيان، حدثنا أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبْزَى، عن أبيه، عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، وقد ذُكرتُ هناك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فقلت له‏:‏ يا أبا المنذر، فَفَرحت بذلك‏.‏ قال‏:‏ وما يمنعني والله يقول‏:‏ ‏"‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏ قال مؤمل‏:‏ قلت لسفيان‏:‏ القراءة في الحديث‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ تفرد به من هذا الوجه‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي‏:‏ ‏"‏إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقرأ‏:‏ ‏"‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ‏"‏ قال‏:‏ فقرأ فيها‏:‏ ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال، فأعطيه لسأل ثانيًا، ولو سأل ثانيًا فأعطيه لسأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب‏.‏ وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره‏.‏ ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، عن شعبة، به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن خليد الحلبي، حدثنا محمد بن عيسى الطباع، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن جده، عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا المنذر، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بالله آمنت، وعلى يدك أسلمت، ومنك تعلمت‏.‏ قال‏:‏ فرد النبي صلى الله عليه وسلم القول‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، أذكرت هناك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، باسمك ونسبك في الملأ الأعلى‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فاقرأ إذًا يا رسول الله‏.‏ هذا غريب من هذا الوجه، والثابت ما تقدم‏.‏ وإنما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة تثبيتًا له، وزيادة لإيمانه، فإنه -كما رواه أحمد والنسائي، من طريق أنس، عنه ورواه أحمد وأبو داود، من حديث سليمان بن صُرَد عنه ورواه أحمد عن عفان، عن حماد، عن حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عنه ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه كان قد أنكر على إنسان، وهو‏:‏ عبد الله بن مسعود، قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأهما، وقال، لكل منهما‏:‏ ‏"‏أصبت‏"‏‏.‏ قال أبي‏:‏ فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية‏.‏ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، قال أبي‏:‏ فَفضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فرقًا‏.‏ وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف‏.‏ فقلت‏:‏ ‏"‏أسأل الله معافاته ومغفرته‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ على حرفين‏.‏ فلم يزل حتى قال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف‏.‏ كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه وألفاظه في أول التفسير‏.‏ فلما نزلت هذه السورة الكريمة وفيها‏:‏ ‏"‏رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏"‏ قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار، لا قراءة تعلم واستذكار، والله أعلم‏.‏

وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة، وكان فيما قال‏:‏ أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏فإنك آتيه، ومُطوَّف به‏"‏‏.‏ فلما رجعوا من الحديبية، وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم سورة ‏"‏الفتح‏"‏، دعا عمر بن الخطاب وقرأها عليه، وفيها قوله‏:‏ ‏"‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ‏"‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏، كما تقدم‏.‏

وروى الحافظ أبو نُعَيم في كتابه ‏"‏أسماء الصحابة‏"‏ من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني‏:‏ حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم، عن ابن شهاب، عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني، حدثني فُضَيل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله ليسمع قراءة ‏"‏ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏"‏ فيقول‏:‏ أبشر عبدي، فوعزتي لأمكننه لك في الجنة حتى ترضى‏"‏‏.‏

حديث غريب جدًا‏.‏ وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير، من طريق الزهري، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن نَظير المزني -أو‏:‏ المدني -عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله ليسمع قراءة ‏"‏ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏"‏ ويقول‏:‏ أبشر عبدي، فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والآخرة، ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏

أما أهل الكتاب فهم‏:‏ اليهود والنصارى، والمشركون‏:‏ عَبَدةُ الأوثان والنيران، من العرب ومن العجم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لم يكونوا ‏{‏مُنْفَكِّينَ‏}‏ يعني‏:‏ منتهين حتى يتبين لهم الحق‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ أي‏:‏ هذا القرآن؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ ثم فسر البينة بقوله‏:‏ ‏{‏رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وما يتلوه من القرآن العظيم، الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى، في صحف مطهرة كقوله‏:‏ ‏{‏فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 13 -16‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة‏:‏ عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ؛ لأنها من عند الله، عز وجل‏.‏

قال قتادة‏:‏ ‏{‏رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً‏}‏ يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ مستقيمة معتدلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ يعني بذلك‏:‏ أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا، بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافًا كثيرًا، كما جاء في الحديث المروي من طرق‏:‏ ‏"‏إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ من هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما أنا عليه وأصحابي‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ كقوله ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ حنفاء، أي‏:‏ مُتَحنفين عن الشرك إلى التوحيد‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة ‏"‏الأنعام‏"‏ بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏

‏{‏وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ وهي أشرف عبادات البدن، ‏{‏وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج‏.‏ ‏{‏وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ أي‏:‏ الملة القائمة العادلة، أو‏:‏ الأمة المستقيمة المعتدلة‏.‏

وقد استدل كثير من الأئمة، كالزهري والشافعي، بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏

يخبر تعالى عن مآل الفجار، من كفرة أهل الكتاب، والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة‏:‏ أنهم يوم القيامة ‏{‏فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين، لا يحولون عنها ولا يزولون ‏{‏أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ‏}‏ أي‏:‏ شر الخليقة التي برأها الله وذرأها‏.‏

ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار -الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بأبدانهم- بأنهم خير

البرية‏.‏

وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء، على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة؛ لقوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ‏.‏

‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم، ‏{‏وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ فيما منحهم من الفضل العميم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏ أي‏:‏ هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه، وقد علم أنه إن لم يره فإنه يراه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا أبو معشر، عن أبي وهب -مولى أبي هريرة- عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بخير البرية‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما كانت هَيْعَة استوى عليه‏.‏ ألا أخبركم بخير البرية‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏رجل في ثُلَّة من غنمه، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة‏.‏ ألا أخبركم بشر البرية‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الذي يَسأل بالله، ولا يُعطي به‏"‏‏.‏ آخر تفسير سورة ‏"‏لم يكن‏"‏‏.‏

تفسير سورة إذا زلزلت

وهي مكية‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثنا عياش بن عباس، عن عيسى بن هلال الصَّدفي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقرئني يا رسول الله‏.‏ قال له‏:‏ ‏"‏اقرأ ثلاثا من ذات الر‏"‏‏.‏ فقال له الرجل‏:‏ كبر سني واستد قلبي، وغَلُظ لساني‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاقرأ من ذات حم‏"‏، فقال مثل مقالته الأولى‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏اقرأ ثلاثا من المسبحات‏"‏، فقال مثل مقالته‏.‏ فقال الرجل‏:‏ ولكن أقرئني -يا رسول الله- سورة جامعة‏.‏ فأقرأه‏:‏ ‏"‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا ‏"‏ حتى إذا فرغ منها قال الرجلُ‏:‏ والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليها أبدًا‏.‏ ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أفلح الرويجل‏!‏ أفلح الرويجل‏!‏‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏عَلَيّ به‏"‏‏.‏ فجاءه فقال له‏:‏ ‏"‏أمرْتُ بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة‏"‏‏.‏ فقال له الرجل‏:‏ أرأيت إن لم أجد إلا مَنيحَة أنثى فأضحي بها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند الله، عز وجل‏"‏‏.‏

وأخرجه أبو داود والنسائي، من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا محمد بن موسى الحَرشي البصري‏:‏ حدثنا الحسن بن سلْم بن صالح العجلي، حدثنا ثابت البُناني، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ ‏"‏ إِذَا زُلْزِلَتِ ‏"‏ عدلَت له بنصف القرآن‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم ‏.‏

وقد رواه البزار عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحسن بن سلم عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏"‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏"‏ تَعدلُ ثلث القرآن، و‏"‏ إِذَا زُلْزِلَتِ ‏"‏ تَعدلُ ربع القرآن‏"‏‏.‏ هذا لفظه‏.‏

وقال الترمذي أيضا‏:‏ حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا يمان بن المغيرة العنزي، حدثنا عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ‏"‏ إِذَا زُلْزِلَتِ ‏"‏ تَعْدلُ نصف القرآن، و‏"‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏"‏ تعدل ثلث القرآن، و‏"‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏"‏ تعدل ربع القرآن‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ غريب، لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا عقبة بن مُكَرَّم العَمّي البصري، حدثني ابن أبي فُدَيْك، أخبرني سلمة بن وردان، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه‏:‏ ‏"‏هل تزوجت يا فلان‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏أليس معك ‏"‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏"‏‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ثلث القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أليس معك ‏"‏ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏"‏‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ربع القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أليس معك ‏"‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏"‏‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ربع القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أليس معك ‏"‏ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ ‏"‏‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ربع القرآن‏"‏ تزوج، ‏[‏تزوج‏]‏ ‏.‏ ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي، لم يروهن غيره من أصحاب الكتب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا‏}‏ أي‏:‏ تحركت من أسفلها‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏ يعني‏:‏ ألقت ما فيها من الموتى‏.‏ قاله غير واحد من السلف‏.‏ وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ وكقوله ‏{‏وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وقال مسلم في صحيحه‏:‏ حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هُرَيرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تَقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول‏:‏ في هذا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول‏:‏ في هذا قَطَعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول‏:‏ في هذا قُطِعت يدي، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا‏}‏ أي‏:‏ استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة، وهو مستقر على ظهرها، أي‏:‏ تقلبت الحال، فصارت متحركة مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين، وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ أي‏:‏ تحدث بما عمل العاملون على ظهرها‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن المبارك -وقال الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، واللفظ له‏:‏ حدثنا سُوَيد بن نصر، أخبرنا عبد الله -هو ابن المبارك- عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن أبي سليمان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أتدرون ما أخبارها‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول‏:‏ عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها‏"‏‏.‏ ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب‏.‏

وفي معجم الطبراني من حديث ابن لَهِيعة‏:‏ حدثني الحارث بن يزيد -سمع ربيعة الجُرَشي-‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا، إلا وهي مُخبرة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ قال البخاري‏:‏ أوحى لها وأوحى إليها، ووحى لها ووحى إليها‏:‏ واحد وكذا قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَوْحَى لَهَا‏}‏ أي‏:‏ أوحى إليها‏.‏ والظاهر أن هذا مُضَمَّن ‏[‏بمعنى‏]‏ أذن لها‏.‏

وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ قال‏:‏ قال لها ربها‏:‏ قولي، فقالت‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أَوْحَى لَهَا‏}‏ أي‏:‏ أمرها‏.‏ وقال القُرَظي‏:‏ أمرها أن تنشق عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا‏}‏ أي‏:‏ يرجعون عن مواقف الحساب، ‏{‏أَشْتَاتًا‏}‏ أي‏:‏ أنواعًا وأصنافًا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ يتصدعون أشتاتًا فلا يجتمعون آخر ما عليهم‏.‏ وقال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏أَشْتَاتًا‏}‏ فرقا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ليعملوا ويجازوا بما عملوه في الدنيا، من خير وشر‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السَّمان عن أبي هُرَيرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل لثلاثة‏:‏ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طَيلها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنَّت شَرَفا أوشرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر‏.‏ ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر‏.‏ ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء، فهي على ذلك وزر‏"‏‏.‏ فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر، فقال‏:‏ ‏"‏ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏

ورواه مسلم، من حديث زيد بن أسلم، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، عن صعصعة بن معاوية -عم الفرزدق-‏:‏ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ قال‏:‏ حسبي‏!‏ لا أبالي ألا أسمع غيرها‏.‏

وهكذا رواه النسائي في التفسير، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب، عن أبيه، عن جرير ابن حازم، عن الحسن البصري قال‏:‏ حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق، فذكره‏.‏

وفي صحيح البخاري، عن عَدي مرفوعا‏:‏ ‏"‏اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، ولو بكلمة طيبة‏"‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط‏"‏ وفي الصحيح أيضا‏:‏ ‏"‏يا نساء المؤمنات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة‏"‏ يعني‏:‏ ظلفها‏.‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏ ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة، وقالت‏:‏ كم فيها من مثقال ذرة‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير‏:‏ حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل‏:‏ أن عائشة أخبرته‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا‏"‏‏.‏ ورواه النسائي وابن ماجة، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك، به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو الخطاب الحساني، حدثنا الهيثم بن الربيع، حدثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال‏:‏ كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ فرفع أبو بكر يده وقال‏:‏ يا رسول الله، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة‏"‏‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه ‏[‏عن‏]‏ أبي الخطاب، به‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏

حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب قال‏:‏ في كتاب أبي قِلابة، عن أبي إدريس‏:‏ أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره‏.‏ ورواه أيضًا عن يعقوب، عن ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي قلابة‏:‏ أن أبا بكر، وذكره‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حُيَي ابن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا‏}‏ وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما يبكيك يا أبا بكر‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يبكيني هذه السورة‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر الله لكم، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن ‏[‏محمد بن‏]‏ المغيرة -المعروف بعلان المصري- قالا حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني، حدثنا ابن لَهِيعة، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما أنزلت‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إني لراء عملي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ تلك الكبار الكبار‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ الصغار الصغار‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ واثُكلَ أُمي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أبشر يا أبا سعيد؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها -يعني إلى

سبعمائة ضعف -ويضاعف الله لمن يشاء، والسيئة بمثلها أو يغفر الله، ولن ينجو أحد منكم بعمله‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة‏"‏ قال أبو زُرْعَة‏:‏ لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ وذلك لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون‏:‏ ما هذا بشيء‏.‏ إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه‏.‏ وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير‏:‏ الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون‏:‏ إنما وعد الله النار على الكبائر‏.‏ فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ وزن أصغر النمل ‏{‏خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ في كتابه، ويَسُرُّه ذلك‏.‏ قال‏:‏ يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة‏.‏ وبكل حسنة عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا، بكل واحدة عشر، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة، دخل الجنة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه‏"‏‏.‏ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صَنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها‏.‏

‏[‏آخر تفسير سورة ‏"‏إذا زلزلت‏"‏‏]‏ ‏[‏ولله الحمد والمنة‏]‏