فصل: تفسير الآيات رقم (130 - 132)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏130 - 132‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏

يقول تبارك وتعالى رَدًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جَرد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78، 79‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26، 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120 -122‏]‏، ولهذا وأمثاله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي‏:‏ عن طريقته ومنهجه‏.‏ فيخالفها ويرغب عنها ‏{‏إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ أي‏:‏ ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حَداثة سنّه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين السعداء -فترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طُرُقَ الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا‏؟‏ أم أي ظلم أكبر من هذا‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ وقال أبو العالية وقتادة‏:‏ نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله وخالفوا ملَّة إبراهيم فيما أخذوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67، 68‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ‏}‏ أي‏:‏ وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله ‏[‏أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله‏:‏ ‏{‏أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏]‏‏.‏ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏ وقد قرأ بعض السلف ‏"‏ويعقوب‏"‏ بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادعى القشيري، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح؛ والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 27‏]‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏ وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت‏:‏ يا رسول الله، أي مسجد وضع أول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المسجد الحرام‏"‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بيت المقدس‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أربعون سنة‏"‏ الحديث‏.‏ فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس -وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه -وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم، وأيضًا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه‏.‏ فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه‏.‏ وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفّق له ويسر عليه‏.‏ ومن نوى صالحًا ثبت عليه‏.‏ وهذا لا يعارض ما جاء، في الحديث ‏[‏الصحيح‏]‏ ‏"‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا بَاعٌ أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‏.‏ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏"‏؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث‏:‏ ‏"‏فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 -10‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133 - 134‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام -بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ‏}‏ وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه‏.‏

قال النحاس‏:‏ والعرب تسمي العم أبًا، نقله القرطبي؛ وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق -حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري‏:‏ ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي‏:‏ أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ أي‏:‏ نُوَحِّدُه بالألوهية، ولا نشرك به شيئا غيره ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مطيعون خاضعون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وسلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏ والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ أي‏:‏ مضت ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعودنفعهُ عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم‏:‏ ‏{‏وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ يعني‏:‏ إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط ‏[‏ولهذا جاء، في الأثر‏:‏ من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال عبد الله بن صُوريا الأعورُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد‏.‏ وقالت النصارى مثل ذلك‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا‏}‏ وقوله ‏{‏بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ ‏"‏ أي‏:‏ لا نريد ما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية، بل نتبع ‏{‏مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ أي‏:‏ مستقيما‏.‏ قاله محمد بن كعب القرظي، وعيسى بن جارية‏.‏

وقال خَصِيف عن مجاهد‏:‏ مخلصًا‏.‏ وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ حاجًّا‏.‏ وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية، والسدي‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلا‏.‏

وقال مجاهد، والربيع بن أنس‏:‏ حنيفًا، أي‏:‏ متبعًا‏.‏ وقال أبو قلابة‏:‏ الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الحنيفية‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ يدخل فيها تحريمُ الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله، عز وجل والختانُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏

أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلّهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150، 151‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عُمَر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبْرَانيَّة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تُكَذبوهم، وقولوا‏:‏ آمنا بالله وما أنزل إلينا ‏"‏‏.‏

وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم، عن سعيد بن يَسار عن ابن عباس، قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى الركعتين اللتين قبل الفجر بــ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا‏}‏ الآية، والأخرى بــ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال أبو العالية والربيع وقتادة‏:‏ الأسباط‏:‏ بنو يعقوب اثنا عشر رجلا؛ ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسمّوا الأسباط‏.‏

وقال الخليل بن أحمد وغيره‏:‏ الأسباط في بني إسرائيل، كالقبائل في بني إسماعيل؛ وقال الزمخشري في الكشاف‏:‏ الأسباط‏:‏ حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر، وقد نقله الرازي عنه، وقرره ولم يعارضه‏.‏ وقال البخاري‏:‏ الأسباط‏:‏ قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله تعالى من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏ وقال القرطبي‏:‏ وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون‏.‏ وقيل‏:‏ أصله من السبط، بالتحريك، وهو الشجر، أي‏:‏ هم في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويبين لك هذا‏:‏ ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، حدثنا أبو نجيد الدقاق، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة‏:‏ نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والسبط‏:‏ الجماعة والقبيلة، الراجعون إلى أصل واحد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقُوا بكتبه كلّها وبرسله‏.‏ وقال سليمان بن حبيب‏:‏ إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن محمد بن مُصْعب الصوري، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن مَعْقل بن يسار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسَعْكمُ القرآن‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137 - 138‏]‏

‏{‏فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ‏{‏بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ‏}‏ أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم ‏{‏فَقَدِ اهْتَدَوْا‏}‏ أي‏:‏ فقد أصابوا الحق، وأرشدوا إليه ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ عن الحق إلى الباطل، بعد قيام الحجة عليهم ‏{‏فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ فسينصرك عليهم ويُظْفِرُك بهم ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قرئ على يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، حدثنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نُعَيم، قال‏:‏ أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحفَ عثمان بن عفان ليصلحه‏.‏ قال زياد‏:‏ فقلت له‏:‏ إن الناس يقولون‏:‏ إن مصحفه كان في حجره حين قُتِل، فوقع الدم على ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ فقال نافع‏:‏ بَصُرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ دين الله وكذا روي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك‏.‏

وانتصاب ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ‏}‏ إما على الإغراء كقوله ‏{‏فِطْرَتَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ الزموا ذلك عليكموه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ وقال سيبويه‏:‏ هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ‏}‏ كقوله ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه، من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أن نبي الله قال‏:‏ ‏"‏إن بني إسرائيل قالوا‏:‏ يا موسى، هل يَصْبُغ ربك‏؟‏ فقال‏:‏ اتقوا الله‏.‏ فناداه ربه‏:‏ يا موسى، سألوك هل يَصْبُغ ربك‏؟‏ فقل‏:‏ نعم، أنا أصبُغ الألوان‏:‏ الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صَبْغي‏"‏‏.‏ وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً‏}‏‏.‏

كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعًا، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه، إن صح إسناده، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139 - 141‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد، واتباع أوامره وترك زواجره ‏{‏وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ‏}‏ المتصرف فينا وفيكم، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له‏!‏ ‏{‏وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نحن برآء منكم، وأنتم بُرَآء منا، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم ‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ وقال ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏‏[‏وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ‏]‏ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏ أي‏:‏ نحن برآء منكم كما أنتم برآء منا، ونحن له مخلصون، أي في العبادة والتوجه‏.‏

ثم أنكر تعالى عليهم، في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ بل الله أعلم، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ الآية والتي بعدها‏[‏آل عمران‏:‏ 67،68‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم‏:‏ إن الدين ‏[‏عند الله‏]‏ الإسلامُ، وإن محمدا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِد الله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏فيه‏]‏ تهديد ووعيد شديد، أي‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ علمه محيط بعملكم، وسيجزيكم عليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ أي‏:‏ قد مضت ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ‏{‏وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر الله واتباع رسله، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142 - 143‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏

‏[‏قيل المراد بالسفهاء هاهنا‏:‏ المشركون؛ مشركو العرب، قاله الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ أحبار يهود، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ المنافقون، قاله السدي‏.‏ والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا أبو نُعَيم، سمع زُهَيراً، عن أبي إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستَّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم‏.‏ فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال‏:‏ أشهد بالله لقد صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبَل مكة، فدارُوا كما هم قبل البيت‏.‏ وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ انفرد به البخاري من هذا الوجه‏.‏ ورواه مسلم من وجه آخر‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ فقال رجال من المسلمين‏:‏ وَددْنا لو عَلمْنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ وقال السفهاء من الناس، وهم أهل الكتاب‏:‏ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال‏:‏ فَوُجّه نحو الكعبة‏.‏ وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود‏:‏ ‏{‏مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏ فأنزل الله ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة، أمَره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ أي‏:‏ نحوه‏.‏ فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا‏:‏ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

وقد جاء في هذا الباب أحاديثُ كثيرة، وحاصلُ الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمِرَ باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يُصَلِّي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تَعَذَّر الجمعُ بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره؛ على قولين، وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام‏.‏ والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، فاستمرَّ الأمرُ على ذلك بضعة عَشَرَ شهراً، وكان يكثر الدعاءَ والابتهالَ أنْ يُوَجَّه إلى الكعبة، التي هي قبلة إبراهيم، عليه السلام، فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجِّه إلى البيت العتيق، فخطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس، وأعلمهم بذلك‏.‏ وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء‏.‏ ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى‏:‏ أنها الظهر‏.‏ وأما أهل قُبَاء، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما جاء في الصحيحين، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها‏.‏ وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة‏.‏

وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، والله أعلم‏.‏

ولما وقع هذا حصل لبعض الناس -من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود -ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالوا‏:‏ ‏{‏مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا‏؟‏ فأنزل الله جوابهم في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ‏}‏ أي‏:‏ الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثمَّ وجه الله، و‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ أي‏:‏ الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه، حيثما وجَّهَنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه -وأمتِه عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم، خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل، عليه السلام، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، عن علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عُمَر بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب -‏:‏‏"‏إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام‏:‏ آمين‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ يقول تعالى‏:‏ إنما حَوّلناكم إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شُهَداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل‏.‏ والوسط هاهنا‏:‏ الخيار والأجود، كما يقال‏:‏ قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي‏:‏ خيرها‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي‏:‏ أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يدعى نوح يوم القيامة فيقال له‏:‏ هل بلَّغت‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيدعى قومه فيقال لهم‏:‏ هل بلغكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح‏:‏ من يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته‏"‏ قال‏:‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏‏.‏

قال‏:‏ الوسط‏:‏ العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم‏.‏ رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش، ‏[‏به‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يجيء النبي يوم القيامة ‏[‏ومعه الرجل والنبي‏]‏ ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه، فيقال ‏[‏لهم‏]‏ هل بلغكم هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فيقال له‏:‏ هل بلغت قومك‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقال ‏[‏له‏]‏ من يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته فيدعى بمحمد وأمته، فيقال لهم‏:‏ هل بلغ هذا قومه‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيقال‏:‏ وما علمكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا‏"‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏عدلا ‏{‏لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏عدلا‏"‏‏.‏

وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن نهاس‏:‏ حدثني مكتب لنا عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ أنا وأمَّتي يوم القيامة على كَوْم مُشرفين على الخلائق‏.‏ ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منَّا‏.‏ وما من نبي كَذَّبه قومه إلا ونحن نشهدُ أنه قد بلغ رسالةَ ربه، عز وجل‏.‏وروى الحاكم، في مستدركه وابن مَرْدُويَه أيضاً، واللفظ له، من حديث مصعب بن ثابت، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ شهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جنازة، في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ والله -يا رسولَ الله -لنعم المرءُ كان، لقد كان عفيفا مسلما وكان وأثنوا عليه خيراً‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنت بما تقول‏"‏‏.‏ فقال الرجل‏:‏ الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وجبت‏"‏‏.‏ ثم شَهِد جنازة في بني حَارِثة، وكنتُ إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ يا رسولَ الله، بئس المرءُ كان، إن كان لفَظّاً غليظاً، فأثنوا عليه شراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم‏:‏ ‏"‏أنت بالذي تقول‏"‏‏.‏ فقال الرجل‏:‏ الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وجبت‏"‏‏.‏

قال مصعب بن ثابت‏:‏ فقال لنا عند ذلك محمد بن كَعْب‏:‏ صدقَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏

ثم قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبي الأسود أنه قال‏:‏ أتيتُ المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرض، فهم يموتون موتاً ذَريعاً‏.‏ فجلست إلى عمر بن الخطاب، فمرّت به جنازة، فَأثْنِيَ على صاحبها خير‏.‏ فقال‏:‏ وجبت وجَبَت‏.‏ ثم مُرّ بأخرى فَأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال عمر‏:‏ وجبت ‏[‏وجبت‏]‏‏.‏ فقال أبو الأسود‏:‏ ما وجبت يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ قلت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيّما مسلم شَهِد له أربعة بخير أدخله الله الجنة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقلنا‏.‏ وثلاثة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وثلاثة‏"‏‏.‏ قال، فقلنا‏:‏ واثنان‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏واثنان‏"‏ ثم لم نسأله عن الواحد‏.‏ وكذا رواه البخاري، والترمذي، والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات، به‏.‏

قال ابن مَرْدويه‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، حدثنا أبو قِلابة الرقاشي، حدثني أبو الوليد، حدثنا نافع بن عمر، حدثني أمية بن صفوان، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبيه، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّباوَة يقول‏:‏ ‏"‏يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم‏"‏ قالوا‏:‏ بم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بالثناء الحسن والثناء السَّيِّئ، أنتم شهداء الله في الأرض‏"‏‏.‏ ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون‏.‏ ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، وعبد الملك بن عمر وشريح، عن نافع عن ابن عمر، به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حالُ من يَتَّبعك ويُطيعك ويستقبل معك حيثما توجهتَ مِمَّن ينقلب على عَقبَيْه، أي‏:‏ مُرْتَدّاً عن دينه ‏{‏وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً‏}‏ أي‏:‏ هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي‏:‏ وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنُوا بتصديق الرسُول، وأنَّ كلَّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرْية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء ، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكّاً، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124،125‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ولهذا كان مَن ثَبَتَ على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيثُ أمره الله من غير شك ولا رَيْب، من سادات الصحابة‏.‏ وقد ذهب بعضُهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا القبلتين‏.‏

وقال البخاري في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سُفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال‏:‏ بينا الناسُ يصلون الصبح في مسجد قُباء إذ جاء رجل فقال‏:‏ قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها‏.‏ فتوجهوا إلى الكعبة‏.‏ وقد رواه مسلم من وجه آخر، عن ابن عمر‏.‏ ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده‏:‏ أنهم كانوا ركوعاً، فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوع‏.‏ وكذا رواه مسلم من حديث حَمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، مثله، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ورسوله، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل، رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، عن البراء، قال‏:‏ مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس‏:‏ ما حالهم في ذلك‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه‏]‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حَدّثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعه إلى القبلة الأخرى‏.‏ أي‏:‏ لَيُعْطيكم أجرَهما جميعا‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كُلَّما وجدت صبيًا من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تَدُور على، ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أترون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ألا تطرحه‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا‏:‏ ‏{‏مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ‏[‏يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏

وروى ابن مَرْدريه من حديث القاسم العُمَري، عن عمه عُبيد الله بن عمر، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ إلى الكعبة إلى الميزاب، يَؤُم به جبرائيل عليه السلام‏.‏

وروى الحاكم، في مستدركه، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال‏:‏ رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام، بإزاء الميزاب، فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏ قال‏:‏ نحو ميزاب الكعبة‏.‏ ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن هُشَيْم، عن يعلى بن عطاء، به‏.‏

وهكذا قال غيره، وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله‏:‏ إن الغرض إصابة عين القبلة‏.‏ والقول الآخر وعليه الأكثرون‏:‏ أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق، عن عمير بن زياد الكندي، عن علي، رضي الله عنه، ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال‏:‏ شطره‏:‏ قبله‏.‏ ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏

وهذا قول أبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم‏.‏ وكما تقدم في الحديث الآخر‏:‏ ما بين المشرق والمغرب قبلة‏.‏

‏[‏وقال القرطبي‏:‏ روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ‏"‏‏]‏‏.‏

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين‏:‏ حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال‏:‏ أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكَّة، فداروا كما هم قبل البيت‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء ‏[‏قال‏]‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِب أن يحوَّل نحو الكعبة، فنزلت‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ‏[‏فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏]‏ فصرف إلى الكعبة‏.‏

وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ كنا نَغْدُو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنمر على المسجد فنصلي فيه، فمررنا يومًا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر -فقلت‏:‏ لقد حَدث أمر، فجلست، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏ حتى فرغ من الآية‏.‏ فقلت لصاحبي‏:‏ تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى، فتوارينا فصليناهما‏.‏ ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ‏.‏

وكذا روى ابن مَرْدويه، عن ابن عمر‏:‏ أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صَلاةُ الظهر، وأنها الصلاة الوُسطى‏.‏ والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسين بن إسحاق التَّسْتَري، حدثنا رجاء بن محمد السقطي، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إبراهيم بن جعفر، حدثني أبي، عن جدته أم أبيه نُوَيلة بنت مسلم، قالت‏:‏ صَلَّينا الظهر -أو العصر -في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء مَنْ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساءُ مكان الرجال، والرجالُ مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام‏.‏ فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أولئك رجال يؤمنون بالغيب‏"‏‏.‏

وقال ابن مردويه أيضًا‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا قيس، عن زياد بن علاقة، عن عُمَارة بن أوس قال‏:‏ بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس، ونحن ركوع، إذ أتى مناد بالباب‏:‏ أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة‏.‏ قال‏:‏ فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوَّل هو والرِّجال والصبيان، وهم ركوع، نحو الكعبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ أمَرَ تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض، شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شَيء، سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قَالبُه، وقَلْبُه نحو الكعبة‏.‏ وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها‏.‏

مسألة‏:‏ وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية لقوله‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ينظر المصلي في قيامه إلى صدره‏.‏ وقال شريك القاضي‏:‏ ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ واليهودُ -الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أن الله تعالى سَيُوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّته، وما خصه الله تعالى به وشَرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏