فصل: تفسير الآيات رقم (208 - 209)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏208 - 209‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله‏:‏ أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك‏.‏

قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والضحاك، وعكرمة، وقتادة، والسُّدّي، وابن زيد، في قوله‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ‏}‏ يعني‏:‏ الإسلام‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس، وأبو العالية، والربيعُ بن أنس‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ‏}‏ يعني‏:‏ الطاعة‏.‏ وقال قتادة أيضًا‏:‏ الموادعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَافَّةً‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيَّان، وقتادة والضحاك‏:‏ جميعًا، وقال مجاهد‏:‏ أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر‏.‏

وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم، كعبد الله بن سلام، وثعلبة وأسَد بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا، وأن يقوموا بالتوراة ليلا‏.‏ فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها‏.‏ وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام‏.‏

ومن المفسرين من يجعل قوله‏:‏ ‏{‏كَافَّةً‏}‏ حالا من الداخلين، أي‏:‏ ادخلوا في الإسلام كلكم‏.‏ والصحيح الأول، وهو أنَّهم أمروا ‏[‏كلهم‏]‏ أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا أحمد بن الصباح، أخبرني الهيثم بن يمان، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثني محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً‏}‏ -كذا قرأها بالنصب -يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً‏}‏ يقول‏:‏ ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي‏:‏ اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان فــ ‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 169‏]‏، و‏{‏إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ قال مُطَرِّف‏:‏ أغش عباد الله لعَبِيد الله الشيطان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ أي‏:‏ عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ، فاعلموا أن الله عزيز ‏[‏أي‏]‏ في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يَغلبه غالب‏.‏ حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس‏:‏ عزيز في نقمته، حكيم في أمره‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏

يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كُلّ عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21 -23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه‏:‏ ‏"‏أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا، من آدم فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد، صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاؤوا إليه قال‏:‏ أنا لها، أنا لها‏.‏ فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيُشفّعه الله، ويأتي في ظُلَل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكَرُوبيّون ، قال‏:‏ وينزل الجبار، عز وجل، في ظُلَل من الغمام والملائكةُ، ولهم زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون‏:‏ سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سُبّوح قدوس، رب الملائكة والروح، قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه أبدًا أبدًا‏"‏‏.‏

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم؛ فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن مسروق، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فَصْل القضاء، وينزل الله في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت عبد الجليل القَيْسي، يحدّث عن عبد الله بن عمرو‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ‏}‏ الآية، قال‏:‏ يهبط حين يهبط، وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف حِجَاب، منها‏:‏ النور، والظلمة، والماء‏.‏ فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا أبي‏:‏ حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد قال‏:‏ سألت زهير بن محمد، عن قول الله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ‏}‏ قال‏:‏ ظلل من الغمام، منظوم من الياقوت مكلَّل بالجوهر والزبَرْجَد‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد ‏{‏فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ‏}‏ قال‏:‏ هو غير السحاب، ولم يكن قَطّ إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ‏}‏‏[‏قال‏]‏‏:‏ يقول‏:‏ والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجيء فيما يشاء -وهي في بعض القراءة‏:‏ ‏"‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظُلَل من الغمام‏"‏ وهي كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏211 - 212‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

يقول تعالى مُخْبرًا عن بني إسرائيل‏:‏ كم قد شاهدوا مع موسى ‏{‏مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كَيَدهِ وعصاه وفَلْقه البحر وضَرْبه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المَنّ والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يَدَيه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبَدلوا نعمة الله ‏[‏كفرًا‏]‏ أي‏:‏ استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ كما قال إخبارًا عن كفار قريش‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رُضُوا بها واطمأنّوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عَنْ مصارفها التي أمروا بها مما يُرْضِي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومَنْشَرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى علّيين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أي‏:‏ يرزق من يشاء من خَلْقه، ويعطيه عطاء كثيرًا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ابن آدم، أَنْفقْ أُنْفقْ عليك‏"‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا‏"‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 39‏]‏، وفي الصحيح أن مَلَكين ينزلان من السماء صَبيحة كل يوم، يقول أحدهما‏:‏ اللهم أعط منفقًا خلفًا‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ اللهم أعط مُمْسكا تلفًا‏.‏ وفي الصحيح ‏"‏يقول ابن آدم‏:‏ مالي، مالي‏!‏ وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لَبسْتَ فأبليتَ، وما تصدقت فأمضيت‏؟‏ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‏"‏‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يَجمَعُ من لا عقل له‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، أخبرنا هَمَّام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق‏.‏ فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏.‏ قال‏:‏ وكذلك هي في قراءة عبد الله‏:‏ ‏"‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا‏"‏‏.‏

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث بُنْدَار عن محمد بن بشار‏.‏ ثم قال‏:‏ صحيح ولم يخرجاه‏.‏

وكذا روى أبو جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب‏:‏ أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏"‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ قال‏:‏ كانوا على الهدى جميعًا، ‏"‏فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين‏"‏ فكان أول نَبي بعث نوحًا‏.‏ وهكذا قال مجاهد، كما قال ابن عباس أولا‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ يقول‏:‏ كانوا كفارًا، ‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ‏}‏

والقول الأول عن ابن عباس أصح سندًا ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم، عليه السلام، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحًا، عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏أي‏:‏ من بعد ما قامت عليهم الحجج وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا مَعْمَر، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أوّلُ الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا له فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى‏"‏‏.‏ ثم رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد‏.‏ فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة‏.‏ واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة‏.‏ واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في إبراهيم، عليه السلام، فقالت اليهود‏:‏ كان يهوديًا، وقالت النصارى‏:‏ كان نصرانيًا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك‏.‏ واختلفوا في عيسى، عليه السلام، فكذّبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك‏.‏

وقال الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهودًا على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أنّ رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم‏.‏

وفي قراءة أبي بن كعب‏:‏ ‏"‏وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏"‏، وكان أبو العالية يقول‏:‏ في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بعلمه، بما هداهم له‏.‏ قاله ابن جرير‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ منْ خلقه ‏{‏إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ وله الحكم والحجة البالغة‏.‏ وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول‏:‏ ‏"‏اللهم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏ وفي الدعاء المأثور‏:‏ اللهم، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا ووفّقنا لاجتنابه، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إمامًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ‏}‏ قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ‏}‏ وهي‏:‏ الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب‏.‏

قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان‏:‏ ‏{‏الْبَأْسَاءُ‏}‏ الفقر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالضَّرَّاءُ‏}‏ السّقم‏.‏

‏{‏وَزُلْزِلُوا‏}‏ خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، ألا تستنصر لنا‏؟‏ ألا تدعو الله لنا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون‏"‏‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1 -3‏]‏‏.‏

وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة، رضي الله عنهم، في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا‏}‏

ولما سأل هرقلُ أبا سفيان‏:‏ هل قاتلتموه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فكيف كان الحرب بينكم‏؟‏ قال‏:‏ سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه‏.‏ قال‏:‏ كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ سنتهم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يستفتحون على أعدائهم، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلُها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ وفي حديث أبي رَزين‏:‏ ‏"‏عَجب ربّك من قُنُوط عباده، وقُرْب غيثه فينظر إليهم قَنطين، فيظل يضحك، يعلم أنّ فرجهم قريب‏"‏ الحديث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ‏}‏

قال مُقَاتل بن حَيّان‏:‏ هذه الآية في نفقة التطوّع‏.‏ وقال السدي‏:‏ نَسَختها الزكاة‏.‏ وفيه نظر‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ يسألونك كيف ينفقون‏؟‏ قاله ابن عباس ومجاهد، فبين لهم تعالى ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ اصرفُوها في هذه الوجوه‏.‏ كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك‏"‏‏.‏ وتلا ميمون بن مِهْرَان هذه الآية، ثم قال‏:‏ هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارًا، ولا تصاوير الخشب، ولا كُسوة الحيطان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مهما صَدَرَ منكم من فعل معروف، فإن الله يعلَمُه، وسيجزيكم على ذلك أوفرَ الجزاء؛ فإنه لا يظلم أحدًا مثقالَ ذَرّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ‏}‏

هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين‏:‏ أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام‏.‏

وقال الزهري‏:‏ الجهادُ واجب على كلّ أحد، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا ثَبَت في الصحيح ‏"‏من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية‏"‏ ‏.‏ وقال عليه السلام يوم الفتح‏:‏ ‏"‏لا هجرة، ولكن جهاد ونيَّة، إذا استنفرتم فانفروا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ شديد عليكم ومشقة‏.‏ وهو كذلك، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع مشقة السفر ومجالدَة الأعداء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذرَاريهم، وأولادهم‏.‏

‏{‏وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ‏}‏ وهذا عام في الأمور كلّها، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة‏.‏ ومن ذلك القُعُود عن القتال، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلكم ترشدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏217 - 218‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثني الحَضْرَمي، عن أبي السَّوار، عن جُنْدَب بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح ‏[‏أو عبيدة بن الحارث‏]‏ فلما ذهب ينطلق، بَكَى صَبَابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَلَس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره ألا يقرأالكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال‏:‏ لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك‏.‏ فلما قرأ الكتابَ استرجع، وقال‏:‏ سمعًا وطاعة لله ولرسوله‏.‏ فخبَّرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، وبقي بقيَّتُهم، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه، ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى‏.‏ فقال المشركون للمسلمين‏:‏ قتلتم في الشهر الحرام‏!‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ الآية‏.‏

وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة، وكانوا سَبْعَة نفر، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي، وفيهم عَمَّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة، وسعد بن أبي وَقَّاص، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي -حليف لبني نَوْفل -وسُهَيل بن بيضاء، وعامر بن فُهيرة، وواقد بن عبد الله اليَرْبوعي، حليف لعمر بن الخطاب‏.‏ وكتب لابن جحش كتابًا، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل فلما نزل بطن مَلَل فتح الكتاب، فإذا فيه‏:‏ أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة‏.‏ فقال لأصحابه‏:‏ مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص، فإنني مُوص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص، وعتبة، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران يطلبانها، وسار ابنُ جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، وعبد الله بن المغيرة‏.‏ وانفلت ‏[‏ابن‏]‏ المغيرة، ‏[‏فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة‏]‏ وقُتِل عَمْرو، قتله واقد بن عبد الله‏.‏ فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حتى ننظر ما فعل صاحبانا‏"‏ فلما رجع سعد وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون وقالوا‏:‏ إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب‏.‏ فقال المسلمون‏:‏ إنما قتلناه في جمادى -وقيل‏:‏ في أول رجب، وآخر ليلة من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب‏.‏ فأنزل الله يُعَيِّر أهل مكة‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ وذلك أنّ المشركين صَدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَدوه عن المسجد ‏[‏الحرام‏]‏ في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل‏.‏ فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ‏}‏ من القتال فيه‏.‏ وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عَمْرو بن الحضرمي، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأوّل ليلة من رجب‏.‏ وأنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه‏.‏ وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ وغير ذلك أكبر منه‏:‏ صَدّ عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام، وإخراجُ أهله منه، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه‏.‏

وهكذا روى أبو سَعد البقَّال، عن عكرمة، عن ابن عباس أنها أنزلت في سَريَّة عبد الله بن جحش، وقتْل عمرو بن الحضرمي‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ نزل فيما كان من مصاب عَمْرو بن الحضرمي‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، رحمه الله، في كتاب السيرة له، أنَّه قال‏:‏ وبعث -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم -عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب، مَقْفَله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا‏.‏ وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين‏.‏ ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف‏:‏ أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم‏:‏ عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعُكَّاشة بن محْصن بن حُرْثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليف لهم‏.‏ ومن بني نَوفل بن عبد مناف‏:‏ عتبة بن غَزْوَان بن جابر، حليف لهم‏.‏ ومن بني زُهرة بن كلاب‏:‏ سعد بن أبي وقاص‏.‏ ومن بني عدي بن كعب‏:‏ عامر بن ربيعة، حليف لهم من عَنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع، أحد بني تميم، حليف لهم‏.‏ وخالد بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث، حليف لهم‏.‏ ومن بني الحارث بن فِهْر‏:‏ سُهَيل بن بيضاء‏.‏

فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه‏:‏ ‏"‏إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، ترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم‏"‏‏.‏ فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال‏:‏ سمعًا وطاعة‏.‏ ثم قال لأصحابه‏:‏ قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشًا، حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم‏.‏ فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد‏.‏

فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بِمَعْدن، فوق الفُرْع، يقال له‏:‏ بُحْران أضلّ سعد بنأبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يَعْتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش، فيها‏:‏ عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كَيسان، مولى هشام بن المغيرة‏.‏

فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنُوا وقالوا‏:‏ عُمَّار، لا بأس عليكم منهم‏.‏ وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم‏:‏ والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر الحرام‏.‏ فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم، وأخْذ ما معهم‏.‏ فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم‏.‏ وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش‏:‏ أن عبد الله قال لأصحابه‏:‏ إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما قدموا على رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام‏"‏‏.‏ فوقَّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا‏.‏ وقالت قريش‏:‏ قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال‏.‏ فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة‏:‏ إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان‏.‏

وقالت‏:‏ يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله‏:‏ عمرو‏:‏ عمرت الحرب، والحضرمي‏:‏ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله‏:‏ وقدت الحرب‏.‏ فجعل الله عليهم ذلك لا لهم‏.‏

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، ‏{‏وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ أي‏:‏ قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل‏:‏‏{‏وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا‏}‏ أي‏:‏ ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان -فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم‏.‏ فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم‏.‏

فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا‏.‏ وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرًا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طَمعُوا في الأجر، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطَى فيها أجر المجاهدين ‏[‏المهاجرين‏]‏‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ والحديث في هذا عن الزهري، ويزيد بن رُومان، عن عروة‏.‏

وقد روى يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قريبًا من هذا السياق‏.‏ وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه، نحو ذلك‏.‏

وروى شعيب بن أبي حَمزة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضًا، وفيه‏:‏ فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا‏:‏ أيحلّ القتالُ في الشهر الحرام‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ‏[‏قِتَالٍ فِيهِ‏]‏ الآية‏.‏ وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب ‏"‏دلائل النبوة‏"‏‏.‏

ثم قال ابن هشام عن زياد، عن ابن إسحاق‏:‏ وقد ذكر عن بعض آل عبد الله ‏[‏بن جحش‏]‏ أن الله قسم الفيء حين أحلَّه، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه، وخمسًا إلى الله ورسوله‏.‏ فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وهي أول غنيمة غنمها المسلمون‏.‏ وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله، والحكم بن كَيْسان أول من أسر المسلمون‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، في غزوة عبد الله بن جحش، ويقال‏:‏ بل عبد الله بن جحش قالها، حين قالت قريش‏:‏ قد أحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرجال‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ هي لعبد الله بن جحش‏:‏

تَعُدّون قَتْلا في الحرام عظيمةً *** وأعظم منه لو يَرى الرشد راشد

صدودُكمُ عما يقول محمد *** وكفر به والله راءٍ وشاهد

وإخراجُكمْ من مسجد الله أهلَه *** لئلا يُرَى لله في البيت ساجد

فإنَّا وإن عَيَّرْتمونا بقتله *** وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد

سَقَيَنْا من ابن الحضرميّ رماحَنَا *** بنخلةَ لمَّا أوقَدَ الحربَ واقد

دما وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا *** ينازعه غُلٌّ من القدّ عاند