فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير سورة آل عمران

هي مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى عند تفسير آية المباهلة منها، وقد ذكرنا ما ورد في فضلها مع سورة البقرة في أول تفسير ‏[‏سورة‏]‏ البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

‏{‏الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏}‏

وقد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ و‏{‏الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ عند تفسير آية الكرسي، وتقدم الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ في أول سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته، وتقدم أيضًا الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ في تفسير آية الكرسي‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏ يعني‏:‏ نزل عليك القرآن يا محمد ‏{‏بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا شك فيه ولا ريب، بل هو منزل من عند الله ‏[‏عز وجل‏]‏ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت، من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن العظيم عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ التَّوْرَاةَ‏}‏ أي‏:‏ على موسى بن عمران ‏[‏عليه السلام‏]‏ ‏{‏وَالإنْجِيلَ‏}‏ أي‏:‏ على عيسى ابن مريم‏.‏

‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذا القرآن‏.‏ ‏{‏هُدًى لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ في زمانهما ‏{‏وَأَنزلَ الْفُرْقَانَ‏}‏ وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره، ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك‏.‏

وقال قتادة والربيع بن أنس‏:‏ الفرقان هاهنا القرآن‏.‏ واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا؛ لتقدم ذكر القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ وهو القرآن‏.‏ وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد هاهنا بالفرقان‏:‏ التوراة فضعيف أيضًا؛ لتقدم ذكرها، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ جحدوا بها وأنكروها، وردّوها بالباطل ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏وَاللَّهُ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ منيع الجناب عظيم السلطان ‏{‏ذُو انْتِقَامٍ‏}‏ أي‏:‏ ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏

يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والأرض، ‏[‏و‏]‏ لا يخفى عليه شيء من ذلك‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ يخلقكم كما يشاء في الأرحام من ذكر وأنثى، ‏[‏و‏]‏ حسن وقبيح، وشقي وسعيد ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام‏.‏

وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله ‏[‏تعالى‏]‏ صوره في الرحم وخلقه، كما يشاء، فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى -عليهم لعائن الله- وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى‏:‏‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏

يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي‏:‏ بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى‏.‏ ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ أصلهالذي يرجع إليه عند الاشتباه ‏{‏وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏ أي‏:‏ تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد‏.‏

وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السلف عبارات كثيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ‏[‏أنه قال‏]‏ المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به‏.‏ وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومُقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، والسُّدِّي أنهم قالوا‏:‏ المحكم الذي يعمل به‏.‏

وعن ابن عباس أيضًا أنه قال‏:‏ المحكمات ‏[‏في‏]‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ والآيتان بعدها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ إلى ثلاث آيات بعدها‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، وحكاه عن سعيد بن جُبَيْر ‏[‏ثم‏]‏ قال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن إسحاق بن سُوَيْد أن يحيى بن يَعْمَر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية‏:‏ ‏{‏هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ فقال أبو فاختة‏:‏ فواتح السور‏.‏ وقال يحيى بن يَعْمَر‏:‏ الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام‏.‏

وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ يقول‏:‏ أصل الكتاب، وإنما سماهن أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ‏.‏

وقيل في المتشابهات‏:‏ إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به‏.‏ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ هي الحروف المقطعة في أوائل السور، قاله مقاتل بن حيان‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا‏.‏ وهذا إنما هو في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ هناك ذكروا‏:‏ أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار ثم حال الفجار، ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم‏.‏

وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، حيث قال‏:‏ ‏{‏مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه‏.‏

قال‏:‏ والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏}‏ أي‏:‏ ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ‏}‏ أي‏:‏ الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 59‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل والسدي‏:‏ يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة قالت‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ‏[‏فَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُولُو الألْبَابِ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏فإذا رأيتم الذين يُجَادِلُون فيه فهم الذين عَنَى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ‏.‏ هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، رحمه الله، من رواية ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، ليس بينهما أحد‏.‏

وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عُلَيَّة وعبد الوهاب الثقفي، كلاهما عن أيوب، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عنها‏.‏

ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، به‏.‏ وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن أيوب‏.‏ وكذا رواه غير واحد عن أيوب‏.‏ وقد رواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أيوب، به‏.‏

وتابع أيوب أبو عامر الخزاز وغيره عن ابن أبي مليكة، فرواه الترمذي عن بُنْدار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، فذكره‏.‏ وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه، عن حماد بن يحيى الأبَحّ، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة‏.‏ ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجُمَحِيّ، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به‏.‏ وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة‏:‏ حدثتني عائشةَ، فذكره‏.‏ وقد روى هذا الحديث البخاري، رحمه الله، عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم، عن القَعْنَبِيِّ، عن يزيد بن إبراهيم التُّسْتَريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ‏[‏هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ‏}‏ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ‏"‏ لفظ البخاري‏.‏ وكذا رواه الترمذي أيضًا، عن بندار، عن أبي داود الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري، به‏.‏ وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ولم يذكروا القاسم‏.‏ كذا قال‏.‏

ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السَّدُوسِيّ -ولقبه عارم- حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم فقال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحَمّاد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الذين يَتَّبِعُونَ ما تشابه منهُ فأولئك الذين سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية‏:‏ ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد حَذَّرَكُمُ اللهُ، فإذا رأيْتُمُوهم فَاعْرفُوهُمْ‏"‏‏.‏ ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن أبي غالب قال‏:‏ سمعت أبا أمامة يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هم الخوارج‏"‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏‏.‏‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏هم الخوارج‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن مردويه من غير وجه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة مرفوعا، فذكره‏.‏ وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصحابي، ومعناه صحيح؛ فإن أوّل بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَيْن، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخُوَيْصرة- بقر الله خاصرته- اعدل فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد خِبْتُ وخَسرْتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تَأمَنُونِي‏"‏‏.‏ فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية‏:‏ خالد بن الوليد- ‏[‏ولا بُعد في الجمع‏]‏ -رسول الله في قتله، فقال‏:‏ ‏"‏دَعْهُ فإنه يخرج من ضِئْضِئ هذا- أي‏:‏ من جنسه -قوم يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يَمْرُقُونَ من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجْرًا لمن قتلهم‏.‏

ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب، وقتلهم بالنَّهْروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحَلٌ كثيرة منتشرة، ثم نَبَعَت القَدَرَيّة، ثم المعتزلة، ثم الجَهْمِيَّة، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله‏:‏ ‏"‏وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فِرْقَةً، كلها في النار إلا واحدة‏"‏ قالوا‏:‏ ‏[‏من‏]‏ هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من كان على ما أنا عليه وأصحابي‏"‏ أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة‏.‏

وقال الحافظ أبو يَعْلَى‏:‏ حدثنا أبو موسى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه، عن حذيفة -أو سمعه منه- يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر‏:‏ ‏"‏إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر الدَّقَل، يَتَأوَّلُوْنَهُ على غير تأويله‏"‏‏.‏ ‏[‏لم‏]‏ يخرجوه‏.‏

‏[‏وقوله‏]‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ‏}‏ اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل‏:‏ على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أنحاء‏:‏ فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل‏.‏ ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نَهِيك، وغيرهم‏.‏

وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير‏:‏ حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا أخاف على أمّتي إلا ثلاث خلال‏:‏ أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ‏[‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ‏]‏ الآية، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه ‏"‏ غريب جدا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عمرو، أخبرنا هشام بن عمار، أخبرنا ابن أبي حاتم عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال‏:‏ كان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏"‏وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون‏:‏ آمنا به‏"‏ وكذا رواه ابن جرير، عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس‏:‏ أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله‏.‏ وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏"‏إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏"‏‏.‏ وكذا عن أبي بن كعب‏.‏ واختار ابن جرير هذا القول‏.‏

ومنهم من يقف على قوله‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا‏:‏ الخطاب بما لا يفهم بعيد‏.‏

وقد روى ابن أبي نجَِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله‏.‏ وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به‏.‏ وكذا قال الربيع بن أنس‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏}‏ الذي أراد ما أراد ‏{‏إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المُحْكَمَة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضًا، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر‏.‏

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال‏:‏ ‏"‏اللهم فَقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل‏"‏‏.‏

ومن العلماء من فصل في هذا المقام، فقال‏:‏ التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان، أحدهما‏:‏ التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ وقوله ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي‏:‏ حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ مبتدأ و‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ خبره‏.‏ وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ أي‏:‏ بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على‏:‏ ‏{‏وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏}‏ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ حالا منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ‏]‏ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا ‏[‏الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ‏]‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 8-10‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا‏.‏

وقوله إخبارًا عنهم أنهم ‏{‏يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالمتشابه ‏{‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ أي‏:‏ الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عوف الحِمْصَيّ، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا فياض الرَّقِّيّ، حدّثنا عبد الله بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنسًا، وأبا أمامة، وأبا الدرداء، رضي الله عنهم، قال‏:‏ حدثنا أبو الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم، فقال‏:‏ ‏"‏من بَرَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أَعَفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده قال‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال‏:‏ ‏"‏إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه‏"‏‏.‏

و‏[‏قد‏]‏ تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث، من طريق هشام بن عمار، عن ابن أبي حازم عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، به‏.‏

وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، عن أبي حازم، عن أبي سلمة قال‏:‏ لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نزل القرآن على سبعة أحرف، والمِرَاءُ في القرآن كفر -ثلاثًا- ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه‏"‏‏.‏

وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي‏:‏ ‏"‏لا أعلمه إلا عن أبي هريرة‏"‏‏.‏

وقال ابن المنذر في تفسيره‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب قال‏:‏ أخبرني نافع بن يزيد قال‏:‏ يقال‏:‏ الراسخون في العلم المتواضعون لله، المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم‏.‏ ‏[‏ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم المستقيمة‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم دعوا ربهم قائلين‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا‏}‏ أي‏:‏ لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم ‏{‏وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ‏}‏ أي‏:‏ من عندك ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا ‏{‏إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِي -وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب -قالا جميعًا‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن عبد الحميد بن بَهْرام، عن شهر بن حَوْشَب، عن أم سلمة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏ رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بَكَّار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحد ث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه‏:‏ ‏"‏اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏"‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه‏"‏‏.‏ فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله‏.‏ ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن مِنْهَال، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله، وزاد‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى قولي‏:‏ اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيْظ قلبي، وأجِرْنِي من مُضِلاتِ الفتن‏"‏‏.‏

ثم قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي، أخبرنا العباس بن الوليد الخلال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله، أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو‏:‏ ‏"‏يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك‏"‏، قلت‏:‏ يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏}‏‏.‏ غريب من هذا الوجه، ولكن أصله ثابت في الصحيحين، وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة‏.‏

وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه، من حديث أبي عبد الرحمن المقري -زاد النسائي وابن حبان‏:‏ وعبد الله بن وهب، كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد الله بن الوليد التُّجيبي، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال‏:‏ ‏"‏لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمة، اللهم زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏"‏ لفظ ابن مردويه‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مالك، عن أبي عبيد -مولى سليمان بن عبد الملك- عن عبادة بن نُسَيّ، أنه أخبره، أنه سمع قيس بن الحارث يقول‏:‏ أخبرني أبو عبد الله الصُنَابِحي، أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال‏:‏ فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ‏[‏وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏]‏ ‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وأخبرني عُبَادة بن نُسَيّ‏:‏ أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيس‏:‏ كيف أخبرتني عن أبي عبد الله الصنابحي فأخبره بما سمع أبا عبد الله ثانيا‏.‏

قال عمر‏:‏ فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت قبل ذلك لَعَلَى غير ذلك‏.‏ فقال له رجل‏:‏ على أي شيء كانأمير المؤمنين قبل ذلك‏؟‏ قال‏:‏ كنت أقرأ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم، عن مالك والأوزاعي، كلاهما عن أبي عبيد، به‏.‏ورواه الوليد أيضًا، عن ابن جابر، عن يحيى بن يحيى الغساني، عن محمود بن لبيد، عن الصُّنَابِحي‏:‏ أنه صلى خلف أبي بكر، رضي الله عنه، المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، يجهر بالقراءة، فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه، فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ‏[‏بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ أي‏:‏ يقولون في دعائهم‏:‏ إنك -يا ربنا- ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

يخبر تعالى عن الكفار أنهم وقود النار، ‏{‏يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 52‏]‏ وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، بل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 85‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏196‏:‏ 197‏]‏ كما قال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه ‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ حطبها الذي تسجر به وتوقد به، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ‏[‏أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏98‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا ابن لَهِيْعة، أخبرني ابن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس قالت‏:‏ بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فقال هل بلغت، اللهم هل بلغت‏.‏‏"‏ ثلاثًا، فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ نعم‏.‏ ثم أصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وَلَتَخُوضُنَّ البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه، ثم يقولون‏:‏ قد قرأنا وعلمنا، فمن هذا الذي هو خير منا، فهل في أولئك من خير‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فمن أولئك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أولئك منكم وأولئك هم وقود النار‏"‏‏.‏ وكذا رأيته بهذا اللفظ‏.‏

وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن هند بنت الحارث، امرأة عبد الله بن شداد، عن أم الفضل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال‏:‏ ‏"‏هل بلغت‏"‏ يقولها ثلاثا، فقام عمر بن الخطاب -وكان أوَّاها- فقال‏:‏ اللهم نعم، وحرصتَ وجهدتَ ونصحتَ فاصبر‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليظهرن الإيمان حتى يردّ الكفر إلى مواطنه، وليخوضنّ رجال البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن، فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون‏:‏ قد قرأنا، وقد علمنا، فمن هذا الذي هو خير منا‏؟‏ فما في أولئك من خير‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فمن أولئك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار‏"‏ ثم رواه من طريق موسى بن عبيد، عن محمد بن إبراهيم، عن بنت الهاد، عن العباس بن عبد المطلب بنحوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ كصنيع آل فرعون‏.‏ وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك، والضحاك، وغير واحد، ومنهم من يقول‏:‏ كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة‏.‏ والدأب -بالتسكين، والتحريك أيضًا كنَهْر ونَهَر-‏:‏ هو الصنع والشأن والحال والأمر والعادة، كما يقال‏:‏ لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس‏:‏

وقوفا بها صحبي على مطيهم *** يقولون‏:‏ لا تهلك أسى وتجمل

كدأبك من أم الحويرث قبلها *** وجارتها أم الرباب بمأسل

والمعنى‏:‏ كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها‏.‏

والمعنى في الآية‏:‏ أن الكافرين لا تغني عنهم الأولاد ولا الأموال، بل يهلكون ويعذبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه‏.‏

‏{‏‏[‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ‏]‏ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ شديد الأخذ أليم العذاب، لا يمتنع منه أحد، ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد، الذي ‏[‏قد‏]‏ غلب كل شيء وذل له كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 13‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد للكافرين‏:‏ ‏{‏سَتُغْلَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا، ‏{‏وَتُحْشَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ‏{‏إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قَيْنُقَاع وقال‏:‏ ‏"‏يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله ما أصاب قريشًا‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا‏؟‏ فأنزل الله في ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ‏}‏‏.‏

وقد رواه ابن إسحاق أيضًا، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس فذكره؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قد كان لكم -أيها اليهود القائلون ما قلتم -‏{‏آيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ دلالة على أن الله معز دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته، ومعل أمره ‏{‏فِي فِئَتَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ طائفتين ‏{‏الْتَقَتَا‏}‏ أي‏:‏ للقتال ‏{‏فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ وهم المسلمون، ‏{‏وَأُخْرَى كَافِرَةٌ‏}‏ وهم مشركو قريش يوم بدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ‏}‏ قال بعض العلماء -فيما حكاه ابن جرير‏:‏ يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي‏:‏ جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم‏.‏ وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسلمين، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا‏.‏ وهكذا كان الأمر، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ‏"‏أن المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي‏:‏ ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم‏.‏ وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا‏.‏ وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش، فقال‏:‏ كثير، قال‏:‏ ‏"‏كم ينحرون كل يوم‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏القوم ما بين التسعمائة إلى الألف‏"‏‏.‏

وروى أبو إسحاق السَّبِيعي، عن حارثة، عن علي، قال‏:‏ كانوا ألفًا، وكذا قال ابن مسعود‏.‏ والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم‏.‏ لكن وجه ابن جرير هذا، وجعله صحيحًا كما تقول‏:‏ عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجًا إلى ثلاثة آلاف، كذا قال‏.‏ وعلى هذا فلا إشكال‏.‏

لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال‏:‏ ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا‏}‏‏؟‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 44‏]‏ والجواب‏:‏ أن هذا كان في حال، والآخر كان في حال أخرى، كما قال السُّدِّي، عن ‏[‏مرة‏]‏ الطيب عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ‏[‏فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ‏]‏ الآية، قال‏:‏ هذا يوم بدر‏.‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ‏}‏‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة‏.‏ قال‏:‏ فأسرنا رجلا منهم فقلنا‏:‏ كم كنتم‏؟‏ قال‏:‏ ألفا‏.‏ فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي‏:‏ أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم، عز وجل‏.‏ ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر‏.‏

‏{‏لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ ليفرّق بين الحق والباطل، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ‏}‏ أي‏:‏ إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 15‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏

يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه، عليه السلام، قال مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء‏"‏‏.‏ فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، ‏"‏وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً‏"‏ وقوله، عليه السلام الدُّنْيَا مَتَاع، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ‏"‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ‏"‏ وقالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية‏:‏ من الخيل إلا النساء‏.‏

وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث‏:‏ ‏"‏تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ‏"‏

وحب المال -كذلك- تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح محمود عليه شرعًا‏.‏

وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال، وحاصلها‏:‏ أنه المال الجزيل، كما قالهالضحاك وغيره، وقيل‏:‏ ألف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ ألف ومائتا دينار‏.‏ وقيل‏:‏ اثنا عشر ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ ستون ألفا وقيل‏:‏ سبعون ألفا‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانون ألفا‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْف أوقيَّةٍ، كُلُّ أوقِيَّةٍ خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد ابن سلمة، به‏.‏ وقد رواه ابن جرير عن بُنْدار، عن ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم -هو ابن بَهْدَلة- عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفا، وهذا أصح‏.‏ وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر‏.‏ وحكاه ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة وأبي الدرداء، أنهم قالوا‏:‏ القنطار ألف ومائتا أوقية‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثني زكريا بن يحيى الضرير، حدثنا شبابة، حدثنا مَخْلَد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زِرّ بن حُبَيْش عن أبيّ بن كعب، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏القِنْطَارُ ألْفُ أوقِيَّةٍ ومائَتَا أوقِيَّةٍ‏"‏‏.‏

وهذا حديث منكر أيضًا، والأقربُ أن يكون موقوفا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة‏.‏ وقد روى ابن مَرْدُويَه، من طريق موسى بن عُبَيْدة الرَبَذِي عن محمد بن إبراهيم عن يحنَّش أبي موسى، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ قَرَأ مائة آيةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، ومَنْ قَرَأ مِائَةَ آيةٍ إِلَى ألْف أصْبَح لَهُ قِنْطار مِنْ أجْرٍ عندَ الله، القِنْطارُ مِنْهُ مِثلُ الجبَلِ العَظِيمِ‏"‏‏.‏ ورواه وَكِيع، عن موسى بن عُبَيدة، بمعناه وقال الحاكم في مستدركه‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتنِّيس حدثنا عَمْرو بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد، حدثنا حُمَيد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏القِنْطَارُ ألفا أُوقِيَّةٍ‏"‏‏.‏ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، هكذا رواه الحاكم‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الرَّقِّي، حدثنا عمرو ابن أبي سلمة، حدثنا زهير -يعني ابن محمد- حدثنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه- يعني يزيد الرَّقَاشي- عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ قنطار، يعني‏:‏ ‏"‏ألف دينار‏"‏‏.‏ وهكذا ‏[‏رواه‏]‏ ابن مَرْدُويه، ورواه الطبراني، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم، عن عَمْرو بن أبي سلمة، فذكر بإسناده مثله سواء‏.‏ وروى ابن جرير عن الحسن البصري مرسلا عنه وموقوفا عليه‏:‏ القنطار ألف ومائتا دينار‏.‏ وكذا رواه العَوْفي عن ابن عباس‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ من العرب من يقول‏:‏ القنطار ألف دينار‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ اثنا عشر ألفا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عارِم، عن حَمّاد، عن سعيد الجُرَيرِي عن أبي نضْرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال‏:‏ ‏[‏القنطار‏]‏ ملء مَسْك الثور ذهبا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ورواه محمد بن موسى الحرشي، عن حماد بن زيد، مرفوعا‏.‏ والموقوف أصح‏.‏

وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطَها أصحابُها معدَّة لسبيل الله تعالى، متى احتاجوا إليها غزَوا عليها، فهؤلاء يثابون‏.‏ وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الإسلام، فهذه على صاحبها وزْر‏.‏ وتارة للتعفف واقتناء نسلها‏.‏ ولم يَنْسَ حق الله في رقابها، فهذه لصاحبها ستْر، كما سيأتي الحديث بذلك ‏[‏إن شاء الله تعالى‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ‏[‏تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏]‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وأما ‏{‏الْمُسَوَّمَةِ‏}‏ فعن ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ المسومة الراعية، والمُطَهَّمة الحسَان، وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبْزَى، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، وأبي سِنَان وغيرهم‏.‏ وقال مكحول‏:‏ المسومة‏:‏ الغُرَّة والتحجيل‏.‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيْد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيج، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِي إلا يُؤذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْر يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ، يَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ إنَّكَ خَوَّلْتَنِي مِنْ خَوَّلْتَني من بَنِي آدَم، فاجْعَلنِي مِنْ أحَبِّ مَالِهِ وأهْلِهِ إليه، أوْ أحَب أهْلِه ومالِهِ إليهِ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالأنْعَامِ‏}‏ يعني‏:‏ الإبل والبقر والغنم ‏{‏وَالْحَرْث‏}‏ يعني‏:‏ الأرض المتخذة للغِرَاس والزراعة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا أبو نعامة العدوي، عن مسلم بن بُدَيل عن إياسِ بن زهير، عن سُويد بن هُبَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خَيْرُ مَالِ امرئ لَهُ مُهْرة مَأمُورة، أو سِكَّة مَأبُورة‏"‏ المأمورة الكثيرة النسل، والسّكَّة‏:‏ النخل المصطف، والمأبورة‏:‏ الملقحة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة ‏{‏وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ‏}‏ أي‏:‏ حسن المرجع والثواب‏.‏

وقد قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عُمَر بن سعد قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه‏:‏ لما أنزلت‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ‏}‏ قلت‏:‏ الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت‏:‏ ‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ‏[‏عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏]‏ ‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد للناس‏:‏ أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها، الذي هو زائل لا محالة‏.‏ ثم أخبر عن ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة؛ من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حِوَلا‏.‏

‏{‏وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ من الدَّنَس، والخَبَث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا‏.‏

‏{‏وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يحل عليهم رضوانه، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبدا؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة‏:‏ ‏{‏وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏ أي‏:‏ أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، ثم قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ أي‏:‏ يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 17‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ‏}‏

يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا‏}‏ أي‏:‏ بك وبكتابك وبرسولك ‏{‏فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الصَّابِرِين‏}‏ أي‏:‏ في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات ‏{‏وَالصَّادِقِينَ‏}‏ فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة ‏{‏وَالقَانِتِينَ‏}‏ والقنوت‏:‏ الطاعة والخضوع ‏{‏والْمُنفِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلات، ومواساة ذوي الحاجات ‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ‏}‏ دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن يعقوب، عليه السلام، لما قال لبنيه‏:‏ ‏{‏سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏98‏]‏ أنه أخرهم إلى وقت السحر‏.‏ وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن، من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر فيقولُ‏:‏ هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه‏؟‏ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له‏؟‏ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ‏؟‏‏"‏ الحديث وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على حدة فرواه من طرق متعددة‏.‏

وفي الصحيحين، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ‏}‏‏.‏

وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول‏:‏ يا نافع، هل جاء السَّحَر‏؟‏ فإذا قال‏:‏ نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن حُرَيْث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال‏:‏ سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول‏:‏ ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر، فاغفر لي‏.‏ فنظرت فإذا ابن مسعود، رضي الله عنه‏.‏

وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 20‏]‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏

شهد تعالى -وكفى به شهيدا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين- ‏{‏أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ‏}‏ شَهِيدًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏‏.‏

ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ‏}‏ وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام‏.‏

‏{‏قَائِمًا بِالْقِسْطِ‏}‏ منصوب على الحال، وهو في جميع الأحوال كذلك‏.‏

‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ تأكيد لما سبق ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ العزيز‏:‏ الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني جبير بن عَمْرو القرشي، حدثنا أبو سَعِيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفةَ يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏"‏وأَنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ يا رَبِّ‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، فقال‏:‏ حدثنا علي بن حسين، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، حدثنا عُمَر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏وأَنَا أشْهَدُ أيْ رَبِّ‏"‏‏.‏وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير‏:‏ حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي قالا حدثنا عَمَّار بن عمر بن المختار، حدثني أبي، حدثني غالب القطان قال‏:‏ أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كانت ليلة أردتُ أن أنْحَدِرَ قام فتهجد من الليل، فمر بهذه الآية‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏.‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ ثم قال الأعمش‏:‏ وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ قالها مرارا‏.‏ قلت‏:‏ لقد سمع فيها شيئا، فغدوت إليه فودعته، ثم قلت‏:‏ يا أبا محمد، إني سمعتك تردد هذه الآية‏.‏ قال‏:‏ أو ما بلغك ما فيها‏؟‏ قلت‏:‏ أنا عندك منذ شهر لم تحدثني‏.‏ قال‏:‏ والله لا أحدثك بها إلى سنة‏.‏ فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة قلت‏:‏ يا أبا محمد، قد مضت السنة‏.‏ قال‏:‏ حدثني أبو وائل، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَقُولُ الله عز وجل‏:‏ عَبْدِي عَهِدَ إلَيَّ، وأنَا أحَقُّ مَن وَفَّى بالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ‏[‏وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏ وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏

وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏.‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ بكسر إنه وفتح ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ‏}‏ أي‏:‏ شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام‏.‏ والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر، وكلا المعنيين صحيح‏.‏ ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم‏.‏

ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة، بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بُغْض البَعْض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقا، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ أي‏:‏ من جحد بما أنزل الله في كتابه فإن الله سيجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ‏}‏ أي‏:‏ جادلوك في التوحيد ‏{‏فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ أي‏:‏ فقل أخلصت عبادتي لله وحده، لا شريك له ولا ند ‏[‏له‏]‏ ولا ولد ولا صاحبة له ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَنِ‏}‏ على ديني، يقول كمقالتي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ‏[‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏]‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى آمرًا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه، والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين فقال‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ‏}‏ أي‏:‏ والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ‏}‏ أي‏:‏ هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي ‏{‏لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏ وما ذاك إلا لحكمته ورحمته‏.‏

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صَلوات الله وسلامه عليه، إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امتثالا لأمر الله له بذلك‏.‏ وقد روى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏"‏ رواه مسلم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً‏"‏‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مُؤَمِّل، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس، رضي الله عنه‏:‏ أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا فُلانُ، قُلْ‏:‏ لا إله إلا الله‏"‏ فَنَظَرَ إلَى أبيه، فَسَكَتَ أبوه، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ، فَقَالَ أبُوهُ‏:‏ أطِعْ أبا الْقَاسِم، فَقَالَ الْغُلامُ‏:‏‏:‏ أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ‏"‏ أخرجه البخاري في الصحيح إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث‏.‏