فصل: تفسير الآيات رقم (21 - 22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏

هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا، التي بلغتهم إياها الرسل، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ‏}‏ وهذا هو غاية الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري، نزيل مكة، حدثني أبو حفص عمر بن حفص -يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري- حدثنا محمد بن حمزة، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَر‏"‏‏.‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبَا عُبَيَدَةَ، قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَة وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ‏"‏‏.‏ وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص، عن ابن حُمَيْر، عن أبي الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، به‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلم له عن أبي عبيدة غير هذه الطريق، ولم نسمع أحدا سمى أبا الحسن هذا الذي روى عنه محمد بن حمير‏.‏ وقال الحافظ ابن حجر‏:‏ ‏"‏فيه أبو الحسن مولى بني أسد وهو مجهول‏"‏‏.‏

وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة، فقال‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ موجع مهين‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 25‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولَّوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يوما‏.‏ وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏أي غرهم في دينهم‏]‏ أي‏:‏ ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطانا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله، ومحاسبهم عليه، ومجازيهم به؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ لا شك في وقوعه وكونه ‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 27‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، معظما لربك ومتوكلا عليه، وشاكرًا له ومفوضًا إليه‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ أي‏:‏ لك الملك كله ‏{‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن‏.‏

وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏[‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏]‏ أي‏:‏ أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

قال الله تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ‏[‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ‏]‏ الآية ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ أي‏:‏ نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة والحجة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ‏[‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا‏]‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏ وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ‏"‏إسحاق بن أحمد‏"‏ من تاريخه عن المأمون الخليفة‏:‏ أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية، فعرب له، فإذا هو‏:‏ باسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك‏.‏ ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ‏}‏ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان‏.‏ وهكذا في فصول السنة‏:‏ ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ‏}‏ أي‏:‏ تخرج الحبَّة من الزرع والزرع من الحبة، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء ‏{‏وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أي‏:‏ تعطي من شئت من المال ما لا يَعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل‏.‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا جعفر بن جسْر بن فَرْقَد، حدثنا أبي، عن عَمْرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اسْم اللهِ الأعْظَمَ الَّذي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فِي هَذِهِ الآيةِ مِنْ آلِ عِمْرانَ‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏[‏تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏

نهى الله، تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏144‏]‏ وقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ‏[‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏]‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏

‏[‏وقال تعالى‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏ أي‏:‏ إلا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال‏:‏ ‏"‏إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ‏"‏‏.‏

وقال الثوري‏:‏ قال ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس‏:‏ إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس‏.‏ ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ‏[‏وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏]‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ قال الحسن‏:‏ التقية إلى يوم القيامة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ أي‏:‏ يحذركم نقمته، أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏ أي‏:‏ إليه المرجع والمنقلب، فيجازي كل عامل بعمله‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي حسين، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون ‏[‏بن مِهْران‏]‏ قال‏:‏ قام فينا معاذ ابن جبل فقال‏:‏ يا بني أود، إني رسول رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد ‏[‏إلى الله‏]‏ إلى الجنة أو إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 30‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏

يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآناث واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وهو ‏{‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ قدرته نافذة في جميع ذلك‏.‏

وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإنْ أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ‏[‏وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا‏]‏ الآية، يعني‏:‏ يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ أي‏:‏ يخوفكم عقابه، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ‏}‏

قال الحسن البصري‏:‏ من رأفته بهم حذرهم نفسه‏.‏ وقال غيره‏:‏ أي‏:‏ رحيم بخلقه، يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏

هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ‏"‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء‏:‏ ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ وقال الحسن البصري وغيره من السلف‏:‏ زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنافِسي، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وَهَلِ الدِّينُ إلا الْحُبُّ والْبُغْضُ‏؟‏ قَالَ الله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ قال أبو زُرْعَة‏:‏ عبد الأعلى هذا منكر الحديث‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله ببركة سفارته‏.‏

ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ خالفوا عن أمره ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ‏}‏ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء -بل المرسلون، بل أولو العزم منهم- في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ ‏[‏إن شاء الله تعالى‏]‏‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ ‏"‏يروي عن يحيى بن أبي كثير ما ليس من حديثه، لا يجوز الاحتجاج به بحال‏"‏‏.‏ وقال العقيلي‏:‏ ‏"‏جاء بأحاديث منكرة ليس منها شيء محفوظ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏

يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة‏.‏

واصطفى نوحا، عليه السلام، وجعله أول رسول ‏[‏بعثه‏]‏ إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، سرا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به‏.‏

واصطفى آل إبراهيم، ومنهم‏:‏ سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا‏:‏ هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام‏.‏ قال محمد بن إسحاق بن يَسار رحمه الله‏:‏ هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السلام‏.‏ فعيسى، عليه السلام، من ذرية إبراهيم، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، إن شاء الله وبه الثقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35 - 36‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏

امرأة عمران هذه أم مريم ‏[‏بنت عمران‏]‏ عليها السلام وهي حَنَّة بنت فاقوذ، قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكانت امرأة لا تحمل، فرأت يوما طائرًا يَزُقُّ فرخه، فاشتهت الولد، فدعت الله، عز وجل، أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها، فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون ‏{‏مُحَرَّرًا‏}‏ أي‏:‏ خالصا مفرغا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس، فقالت‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ أي‏:‏ السميع لدعائي، العليم بِنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرا أم أنثى‏؟‏ ‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم، وأن ذلك من تمام قولها، وقُرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل ‏{‏وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى‏}‏ أي‏:‏ في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى ‏{‏وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ‏}‏ فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق؛ لأنه شرع منقبلنا، وقد حكي مقررًا، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏"‏وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ وَلَد سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِي إبْرَاهِيمَ‏"‏‏.‏ أخرجاه وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه، حين ولدته أمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَنَّكه وسماه عبد الله وفي صحيح البخاري‏:‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، وُلِدَ لي وَلَد، فما أُسمِّيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏اسْم وَلدِك عَبْد الرَّحْمَنِ‏"‏ وثبت في الصحيح أيضًا‏:‏ أنه لما جاءه أبو أسَيد بابنه ليُحنّكه، فذَهَل عنه، فأمر به أبوه فَرَدّه إلى منزلهم، فلما ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سَمّاه المنذر‏.‏

فأما حديث قتادة، عن الحسن البصري، عن سَمُرَة بن جُنْدُب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كُلُّ غُلامٍ رَهِين بِعقِيقتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُسَمَّى وَيحْلَقُ رَأْسُهُ‏"‏ فقد رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي بهذا اللفظ، ويروي‏:‏ ‏"‏ويُدَمَّى‏"‏، وهو أثبت وأحفظ والله أعلم‏.‏ وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقّ عن ولده إبراهيم يوم سابعه وسماه إبراهيم‏.‏ فإسناده لا يثبت، وهو مخالف لما في الصحيح ولو صح لَحُمِل على أنه أشْهَرَ اسمَه بذلك يومئذ، والله أعلم‏.‏

وقوله إخبارًا عن أم مريم أنها قالت‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ أي‏:‏ عَوَّذتها بالله، عز وجل، من شر الشيطان، وعوذت ذريتها، وهو ولدها عيسى، عليه السلام‏.‏ فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد الرزَّاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا مَسَّه الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلّ صَارخًا مِنْ مَسِّهِ إيَّاهُ، إلا مَرْيَم َوابْنَهَا‏"‏‏.‏ ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ أخرجاه من حديث عبد الرزاق‏.‏ ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بَقِيَّة، ‏[‏عن الزبيدي‏]‏ عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه‏.‏ ورَوَى من حديث قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا مِنْ مَوْلُود إلا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيطانُ عَصْرَةً أو عَصْرَتَيْن إلا عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَمَرْيمََ‏"‏‏.‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏‏.‏

ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة‏.‏ ورواه مسلم، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة‏.‏ ورواه وهب أيضًا، عن ابن أبي ذئب، عن عَجْلان مولى المِشْمَعَلِّ، عن أبي هريرة‏.‏ ورواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأصل الحديث‏.‏ وهكذا رواه الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، الأعرج قال‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كُلُّ بني آدَمَ يَطْعنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِه حِينَ تَلِدهُ أمُّهُ، إلا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَاب‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه ‏{‏وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا، ويَسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ وفي قراءة‏:‏ ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية، أي جعله كافلا لها‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة‏.‏ وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سَنَةُ جَدْب، فكفل زكريا مريم لذلك‏.‏ ولا منافاة بين القولين‏.‏ والله أعلم‏.‏

وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا صالحًا؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير ‏[‏وغيرهما‏]‏ وقيل‏:‏ زوج أختها، كما ورد في الصحيح‏:‏ ‏"‏فإذا بِيحيى وعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ‏"‏، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا تَوسُّعا، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمَْزَةَ أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال‏:‏ ‏"‏الخَالَةُ بِمَنزلَةِ الأمِّ‏"‏‏.‏

ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها، فقال‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا‏}‏ قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، وإبراهيم النخَعيّ، والضحاك، وقتادة، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفي، والسُّدِّي ‏[‏والشعبي‏]‏ يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف‏.‏ وعن مجاهد ‏{‏وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا‏}‏ أي‏:‏ علما، أو قال‏:‏ صحفًا فيها علم‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، والأول أصح، وفيه دلالة على كرامات الأولياء‏.‏ وفي السنة لهذا نظائر كثيرة‏.‏ فإذا رأى زكريا هذا عندها ‏{‏قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ يقول من أين لك هذا‏؟‏ ‏{‏قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا سَهْل بن زنْجَلة، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا عبد الله ابن لَهِيعَة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيامًا لم يَطْعَمْ طعاما، حتى شَقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا، فأتى فاطمة فقال‏:‏ ‏"‏يا بُنَيَّة، هَلْ عِنْدَكِ شَيْء آكُلُهُ، فَإِنَّي جَائِع‏؟‏‏"‏ فقالت‏:‏ لا والله بأبي أنتَ وأمّي‏.‏ فلما خَرَج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جَفْنَةٍ لها، وقالت‏:‏ والله لأوثرن بهذا رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ على نفسي ومن عندي‏.‏ وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حَسَنا أو حُسَينا إلى رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ فرجع إليها فقالت له‏:‏ بأبي وأمي قد أتى الله بشيء فخَبَّأتُه لك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هَلُمِّي يا بُنيَّة‏"‏ قالت‏:‏ فأتيته بالجفنة‏.‏ فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا، فلما نظرَتْ إليها بُهِتتْ وعرفَتْ أنها بركة من الله، فحمدَت الله وصلَّت على نَبِيِّهِ، وقدّمَتْه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما رآه حمد الله وقال‏:‏ ‏"‏مِنْ أيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَية‏؟‏‏"‏ فقالت يا أبت، ‏{‏هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ فحمد الله وقال‏:‏ ‏"‏الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَكِ -يا بُنَيّة- شبيهَةِ بسيدةِ نِساء بَنيِ إسْرَائيلَ، فَإنَّها كَانَتْ إذَا رَزَقَهَا اللهُ شَيْئًا فَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ‏:‏ ‏{‏هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَلِي ثم أكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي، وفاطمة، وحسن، وحسين، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعًا حتى شبعوا‏.‏ قالت‏:‏ وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 41‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏

لما رأى زكريا، عليه السلام، أن الله تعالى يرزق مريم، عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، و‏[‏إن‏]‏ كان شيخا كبيرا قد ‏[‏ضعف و‏]‏ وَهَن منه العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفيا، وقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ‏}‏ أي‏:‏ من عندك ‏{‏ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ أي‏:‏ ولدا صالحا ‏{‏إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ‏}‏ أي‏:‏ خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته‏.‏ ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى‏}‏ أي‏:‏ بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى‏.‏ قال قتادة وغيره‏:‏ إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس‏.‏ وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس، والضحاك، وغيرهم في هذه الآية‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بعيسى ابن مريم؛ قال الربيع بن أنس‏:‏ هو أول من صدق بعيسى ابن مريم، وقال قتادة‏:‏ وعلى سننه ومنهاجه‏.‏ وقال ابن جُرَيْج‏:‏ قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم‏:‏ إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى‏:‏ تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى، وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام، وهكذا قال السدي أيضا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا‏}‏ قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وغيرهم‏:‏ الحكيم وقال قتادة‏:‏ سيدًا في العلم والعبادة‏.‏ وقال ابن عباس، والثوري، والضحاك‏:‏ السيد الحكيم المتقي وقال سعيد بن المسيب‏:‏ هو الفقيه العالم‏.‏ وقال عطية‏:‏ السيد في خلقه ودينه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو الذي لا يغلبه الغضب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو الشريف‏.‏ وقال مجاهد وغيره هوالكريم على الله، عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَحَصُورًا‏}‏ رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، وعطية العَوْفي أنهم قالوا‏:‏ هو الذي لا يأتي النساء‏.‏ وعن أبي العالية والربيع بن أنس‏:‏ هو الذي لا يولد له‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو الذي لا ولد له ولا ماء له‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس في الحَصُور‏:‏ الذي لا ينزل الماء، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال‏:‏ حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي، حدثني سعيد بن سليمان، حدثنا عبادة -يعني ابن العوام- عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن ابن العاص -لا يدري عبد الله أو عمرو- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا وَحَصُورًا‏}‏ قال‏:‏ ثم تناول شيئا من الأرض فقال‏:‏ ‏"‏كان ذكره مثل هذا‏"‏‏.‏

ثم قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول‏:‏ ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا وَحَصُورًا‏}‏ ثم أخذ شيئا من الأرض فقال الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة‏.‏ فهذا موقوف وهو أقوى إسنادًا من المرفوع، بل وفي صحة المرفوع نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء‏:‏ اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ‏{‏حَصُورًا‏}‏ ليس كما قاله بعضهم‏:‏ إنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا‏:‏ هذه نقيصة وعيب ولا تليق بالأنبياء، عليهم السلام، وإنما معناه‏:‏ أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها، وقيل‏:‏ مانعا نفسه من الشهوات‏.‏ وقيل‏:‏ ليست له شهوة في النساء‏.‏

وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها‏:‏ إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل، كيحيى، عليه السلام‏.‏ ثم هي حق من أقدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة علياء، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة، بتحصينهن وقيامه عليهن، واكتسابه لهن، وهدايته إياهن‏.‏ بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال‏:‏ ‏"‏حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ‏"‏‏.‏

هذا لفظه‏.‏ والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره‏:‏ أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال‏:‏ ‏{‏هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً‏}‏ كأنه قال‏:‏ ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏[‏وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج، عن سلمان بن القمري، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه، إن شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين‏"‏، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال‏:‏ ‏"‏كان ذكره مثل هذه القذاة‏"‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى كقوله تعالى لأم موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏فلما تحقق زكريا، عليه السلام، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر ‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ‏}‏ أي الملك‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة أستدل بها على وجود الولد مني ‏{‏قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا‏}‏ أي‏:‏ إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 10‏]‏ ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال، فقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ‏}‏ وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم، إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 44‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏

هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم، عليها السلام، عن أمر الله لهم بذلك‏:‏ أن الله قد اصطفاها، أي‏:‏ اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهرها من الأكدار والوسواس واصطفاها ثانيًا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين‏.‏قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خَيْرُ نِسَاءٍ رَكبْن الإبلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أحْناهُ عَلَى وَلَدٍ في صِغَرِهِ، وأرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، ولمَْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ‏"‏‏.‏ لم يخرجوه من هذا الوجه، سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حُمَيد كلاهما عن عبد الرزاق به‏.‏

وقال هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام، به مثله‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا أبو بكر بن زَنْجَوِيْه، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قَالَ حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ‏.‏‏"‏ تفرد به الترمذي وصححه‏.‏

وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه قال‏:‏ كان ثابت البُنَاني يحدث عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أرْبَع، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بَنْتُ رَسُولِ اللهِ ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ رواه ابن مردويه‏.‏

وروى ابن مردويه من طريق شعبة، عن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا ثَلاث‏:‏ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا آدم العسقلاني، حدثنا شُعْبة، حدثنا عمرو بن مُرَّة، سمعت مُرَّة الهَمْداني بحديث عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ‏"‏‏.‏ وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن شعبة به ولفظ البخاري‏:‏ ‏"‏كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ‏"‏‏.‏

وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام، في كتابنا‏:‏ ‏"‏البداية والنهاية‏"‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

ثم أخبر تعالى عن الملائكة‏:‏ أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله ‏[‏تعالى‏]‏ بها من الأمر الذي قدره وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولدًا من غير أب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عَمْرو بن الحارث‏:‏ أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ‏"‏‏.‏ ورواه ابن جرير من حديث ابن لهيعة، عن دَرّاج، به، وفيه نكارة

وقال مجاهد‏:‏ كانت مريم، عليها السلام، تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو‏:‏ طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ‏}‏ بل قال الحسن‏:‏ يعني اعبدي لربك ‏{‏وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ كوني منهم‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها، رضي الله عنها‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي -وفيه مقال-‏:‏ حدثنا علي بن بحر بن بَرّي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي‏}‏ قال‏:‏ سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها ‏.‏

وذكر ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا ضَمْرة، عن ابن شَوْذَب قال‏:‏ كانت مريم، عليها السلام، تغتسل في كل ليلة‏.‏

ثم قال تعالى لرسوله ‏[‏عليه أفضل الصلوات والسلام‏]‏ بعدما أطلعه على جلية الأمر‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ نقصه عليك ‏{‏وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما كنت عندهم يا محمد فَتُخْبرهم عنهم معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك كأنك كنت حاضرا وشاهدًا لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن القاسم بن أبي بَزَّة، أنه أخبره عن عكرمة -وأبي بكر، عن عكرمة- قال‏:‏ ثم خَرَجَتْ بها -يعني أم مريم بمريم- تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى، عليهما السلام -قال‏:‏ وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحَجَبَة من الكعبة- فقالت لهم‏:‏ دُونكم هذه النَّذِيرة فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي‏؟‏ فقالوا هذه ابنة إمامنا -وكان عمران يؤمهم في الصلاة- وصاحب قرباننا فقال زكريا‏:‏ ادفعوها إليَّ‏:‏ فإن خالتها تحتي‏.‏ فقالوا‏:‏ لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فَقَرَعَهُم زكريا، فكفلها‏.‏ وقد ذكر عكرمة أيضًا، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، وغير واحد -دخل حديث بعضهم في بعض- أنهم دخلوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم ‏[‏فيه‏]‏ فأيهم ثبت في جَرْية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ثبت‏.‏ ويقال‏:‏ إنه ذهب صُعُدًا يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم، وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه سائر النبيين ‏[‏والمرسلين‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 47‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏

هذه بشارة من الملائكة لمريم، عليها السلام، بأن سيوجد منها ولد عظيم، له شأن كبير‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي‏:‏ بقوله له‏:‏ ‏"‏كن‏"‏ فيكون، وهذا تفسير قوله‏:‏ ‏{‏مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه ‏{‏اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا، يعرفه المؤمنون بذلك‏.‏

وسمي المسيح، قال بعض السلف‏:‏ لكثرة سياحته‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه كان مسيح القدمين‏:‏ ‏[‏أي‏]‏ لا أخْمَص لهما‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه ‏[‏كان‏]‏ إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ نسبة له إلى أمه، حيث لا أب له ‏{‏وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزل عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منحه به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه، أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا‏}‏ أي‏:‏ يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، في حال صغره، معجزة وآية، و‏[‏في‏]‏ حال كهوليته حين يوحي الله إليه بذلك ‏{‏وَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ في قوله وعمله، له علم صحيح وعمل صالح‏.‏

قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن محمد بن شرحبيل، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا تَكَلَّمَ مَوْلُود فِي صِغَرِهِ إلا عِيسَى وصَاحِبَ جُرَيْج‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قَزْعَة، حدثنا الحسين -يعني المروزي- حدثنا جرير -يعني ابن حازم- عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لمَْ يَتَكَّلَمْ فِي المهدِ إلا ثَلاثَة، عِيسى، وصَبِيٌّ كَانَ فِي زَمَنِ جُرَيْج، وصبيٌّ آخَرُ‏"‏‏.‏

فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك، عن الله، عز وجل، قالت في مناجاتها‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ‏}‏ تقول‏:‏ كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بَغيا‏؟‏ حاشا لله‏.‏ فقال لها الملك -عن الله، عز وجل، في جواب هذا السؤال-‏:‏ ‏{‏كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء‏.‏ وصرح هاهنا بقوله‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏"‏يفعل‏"‏ كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق؛ لئلا يبقى شبهة، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ أي‏:‏ فلا يتأخر شيئًا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏ أي‏:‏ إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 51‏]‏

‏{‏وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏

يقول تعالى -مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى، عليه السلام- أن الله يعلمه ‏{‏الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة‏.‏ والحكمة تقدم الكلام على تفسيرها في سورة البقرة‏.‏

‏{‏وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ‏}‏ فالتوراة‏:‏ هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران‏.‏ والإنجيل‏:‏ الذي أنزله الله على عيسى عليهما السلام، وقد كان ‏[‏عيسى‏]‏ عليه السلام، يحفظ هذا وهذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏و‏]‏ يجعله رسولا إلى بني إسرائيل، قائلا لهم‏:‏ ‏{‏أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ وكذلك كان يفعل‏:‏ يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخُ فيه، فيطير عيانًا بإذن الله، عز وجل، الذي جعل هذا معجزة يَدُلّ على أن الله أرسله‏.‏

‏{‏وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ‏}‏ قيل‏:‏ هو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلا‏.‏ وقيل بالعكس‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأعشى‏.‏ وقيل‏:‏ الأعمش‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يولد أعمى‏.‏ وهو أشبه؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي ‏{‏والأبرص‏}‏ معروف‏.‏

‏{‏وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ قال كثير من العلماء‏:‏ بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى، عليه السلام، السحر وتعظيم السحرة‏.‏ فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من الأبرار‏.‏ وأما عيسى، عليه السلام، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة‏.‏ فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد‏؟‏ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه ‏[‏الله‏]‏ في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله، عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر ‏[‏له‏]‏ في بيته لغده ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ في ذلك كله ‏{‏لآيَةً لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على صدْقي فيما جئتكم به‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ‏}‏ أي‏:‏ مقرر لهم ومُثَبّت ‏{‏وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فيه دلالة على أن عيسى، عليه السلام، نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال‏:‏ لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطؤوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 63‏]‏ والله أعلم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم‏.‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏.‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ‏}‏ أي‏:‏ أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ‏{‏هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52 - 54‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى‏}‏ أي‏:‏ استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال قال‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي من يَتبعني إلى الله‏؟‏ وقال سفيان الثوري وغيره‏:‏ من أنصاري مع الله‏؟‏ وقول مجاهد أقربُ‏.‏

والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله‏؟‏ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج، قبل أن يهاجر‏:‏ ‏"‏مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى ‏[‏أن‏]‏ أبلغ كلامَ رَبِّي، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي‏"‏ حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر‏.‏ وهكذا عيسى ابن مريم، انْتدَبَ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه‏.‏ ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم‏:‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏.‏ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ الحواريون، قيل‏:‏ كانوا قَصّارين وقيل‏:‏ سموا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل‏:‏ صيادين‏.‏ والصحيح أن الحواري الناصر، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نَدبَ الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدَبَ الزبير ‏[‏ثم ندبهم فانتدب الزبير‏]‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ قال مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا إسناد جيد‏.‏

ثم قال تعالى مخبرا عن ‏[‏ملأ‏]‏ بني إسرائيل فيما هَمُّوا به من الفتك بعيسى، عليه السلام، وإرادته بالسوء والصَّلب، حين تمالؤوا عليه وَوَشَوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرًا، فأنْهَوا إليه أن هاهنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك، وَيُفَنِّد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زانية حتى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه ويُنَكّل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظَفروا به، نجاه الله من بينهم، ورفعه من رَوْزَنَة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ‏[‏ممن‏]‏ كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى، عليه السلام، فأخذوه وأهانوه وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك‏.‏ وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطَلبتِهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏‏.‏