فصل: تفسير الآيات رقم (130 - 136)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏130 - 136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حَلّ أجل الدين‏:‏ إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر، وهكذا كلّ عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا‏.‏

وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏.‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏‏.‏ ثم نَدَبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نَيْل القُرُبات، فقال‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ كما أعدّت النار للكافرين‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏{‏عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ‏}‏ تنبيها على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة‏:‏ ‏{‏بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏54‏]‏ أي‏:‏ فما ظنك بالظهائر‏؟‏ وقيل‏:‏ بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله‏.‏ وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ‏"‏‏.‏

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد‏:‏ ‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏رقم21‏]‏‏.‏

وقد روينا في مسند الإمام أحمد‏:‏ أنّ هِرَقْل كَتَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك دَعَوْتني إلى جنة عَرْضُها السماوات والأرض، فأين النار‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَ اللهِ‏!‏ فأين الليل إذَا جَاءَ النَّهَارُ‏؟‏‏"‏‏.‏

وقد رواه ابنُ جرير فقال‏:‏ حدثني يونس، أنبأنا ابنُ وَهْب، أخبرني مسلم بن خالد، عن أبي

خُثَيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مُرَّة قال‏:‏ لَقِيت التَّنوخي رَسُولَ هِرَقْل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحِمْص، شيخا كبيرا فَسَدَ، قال‏:‏ قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هِرَقْل، فنَاول الصحيفة رَجُلا عن يساره‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ من صاحبكم الذي يقرأ‏؟‏ قالوا‏:‏ معاوية‏.‏ فإذا كتاب صاحبي‏:‏ ‏"‏إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين، فأين النار‏؟‏ قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سُبْحَانَ الله‏!‏ فأيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ‏؟‏‏"‏‏.‏

وقال الأعمش، وسفيان الثوري، وشُعْبَة، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، أن ناسا من اليهود سألوا عُمَرَ بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار‏؟‏ فقال عمر ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار‏؟‏ وإذا جاء النهار أين الليل‏؟‏ فقالوا‏:‏ لقد نزعت مثْلَها من التوراة‏.‏ رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق ثم قال‏:‏ حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا جعفر بن بُرْقَان، أنبأنا يزيد بن الأصم‏:‏ أن رجلا من أهل الكتاب قال‏:‏ يقولون‏:‏ ‏{‏جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ‏}‏ فأين النار‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ أين يكون الليل إذا جاء النهار، وأين يكون النهار إذا جاء الليل‏؟‏‏.‏

وقد رُوي هذا مرفوعا، فقال البَزّار‏:‏ حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن عَمّه يزيد بن الأصَم، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أرأيت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ‏}‏ فأين النار‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أرَأيْتَ اللَّيْلَ إذا جَاءَ لَبسَ كُلَّ شَيْءٍ، فَأيْنَ النَّهَار‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ حيث شاء الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وَكَذِلَكَ النَّارُ تكون حيث شاء الله عز وجل‏"‏‏.‏

وهذا يحتمل معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون المعنى في ذلك‏:‏ أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة، عن البزار‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏21‏]‏ والنار في أسفل سافلين‏.‏ فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم‏.‏ثم ذكر تعالى صَفَة أهل الجنة، فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ أي‏:‏ في الشدة والرخاء، والمَنْشَط والمَكْرَه، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏274‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يشغلهم أمْر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مَرَاضِيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى‏:‏ كتموه فلم يعملوه، وعَفَوْا مع ذلك عمن أساء إليهم وقد ورد في بعض الآثار‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ ابنَ آدَمَ، اذْكُرْنِي إذَا غَضِبْتَ، أَذْكُرُكَ إذَا غَضِبْتُ، فَلا أُهْلِكُكَ فيمن أهْلِكَ‏"‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقد قال أبو يعلى في مسنده‏:‏ حدثنا أبو موسى الزّمن، حدثنا عيسى بن شُعَيب الضَّرِير أبو الفضل، حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ، وَمَنْ خزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إلَى اللهِ قَبِلَ عُذْرَهُ‏"‏ ‏[‏و‏]‏ هذا حديث غريب، وفي إسناده نظر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرُعة، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ‏"‏‏.‏ وقد رواه الشيخان من حديث مالك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التَّيْميّ، عن الحارث بن سُوَيد، عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالِهِ‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما منا أحد إلا مَالهُ أحب إليه من مال وارثه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إلَيْه مِنْ مَالهِ مَالَكَ مِنْ مَالَكَ إلا مَا قَدَّمَتْ، ومَالُ وَارِثَكَ مَا أخَّرْتَ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الصُّرعَة‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ الذي لا تَصْرَعه الرجال، قال‏:‏ قال ‏"‏لا ولكن الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا تَعُدُّونَ فِيْكُمُ الرَّقُوبَ‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلنا‏:‏ الذي لا ولد له‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكن الرَّقُوبَ الَّذِي لم يُقَدِّمْ مِنْ ولَدِهِ شَيْئًا‏"‏‏.‏أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبة، سمعت عُرْوة بن عبد الله الجَعْفِيّ يحدث عن أبي حصبة، أو ابن حصبة، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال‏:‏ ‏"‏تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ‏؟‏‏"‏ قالوا الذي لا ولد له‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الرَّقُوبُ كُلُّ الرَّقُوبِ الَّذِي لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ، وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُمْ شَيْئًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الذي ليس له مال‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ الَّذِي لَهُ مَالٌ، فَمَاتَ وَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا الصُّرَعَةُ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ الصريع‏.‏ قال‏:‏ فقال صلى الله عليه وسلم الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا هشام -هو ابن عروة- عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عم له يقال له‏:‏ جَارية بن قُدامة السعدي؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، قل لي قولا ينفعني وأقْلِل عليّ، لعلي أعيه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَغْضَبْ‏"‏‏.‏ فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا، كل ذلك يقول‏:‏ ‏"‏لا تَغْضَبْ‏"‏‏.‏ وكذا رواه عن أبي معاوية، عن هشام، به‏.‏ ورواه ‏[‏أيضا‏]‏ عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، به؛ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، قل لي قولا وأقْلِل علَيَّ لَعَلّي أعقِله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تَغْضَبْ‏"‏‏.‏ الحديث انفرد به أحمد‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، أوصني‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تَغْضَبْ‏"‏‏.‏ قال الرجل‏:‏ ففكرت حين قال صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله‏.‏ انفرد به أحمد‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا داود بن أبي هِنْد عن بن أبي حَرْب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذَرّ قال‏:‏ كان يسقي على حوض له، فجاء قوم قالوا أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل‏:‏ أنا‏.‏ فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه، وكان أبو ذر قائما فجلس، ثم اضطجع، فقيل له‏:‏ يا أبا ذر، لم جلست ثم اضطجعت‏؟‏ فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا‏:‏ ‏"‏إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فإن ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل بإسناده، إلا أنه وقع في روايته‏:‏ عن أبي حرب، عن أبي ذر، والصحيح‏:‏ ابن أبي حرب، عن أبيه، عن أبي ذر، كما رواه عبد الله بن أحمد، عن أبيه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إبراهيم بن خالد‏:‏ حدثنا أبو وائل الصَّنْعَاني قال‏:‏ كنا جلوسا عند عرْوة بن محمد إذ دخل عليه رجل، فكلمه بكلام أغضبه، فلما أن غضب قام، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال‏:‏ حدثني أبي، عن جدي عطية -هو ابن سعد السعدي، وقد كانت له صحبة- قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وإنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وإنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ، فَإذَا أُغْضِبَ‏}‏ أحَدُكُمْ فَلْيَتَوضَّأْ‏"‏‏.‏ وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنْعَاني، عن أبي وائل القاص المُرَادي الصَّنْعَاني‏:‏ قال أبو داود‏:‏ أراه عبد الله بن بَحير ‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا نوح بن جَعْوَنة السُّلَمي، عن مقاتل بن حَيَّان، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، ألا إنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوُةٍ -ثلاثا- ألا إنَّ عَمَلَ النَّار سَهْلٌ بسَهْوة‏.‏ والسَّعِيدُ مَنْ وقيَ الفِتَنَ، ومَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إلَى اللهِ ‏[‏عز وجل‏]‏ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ للهِ إلا مَلأ جَوْفُه إيمَانًا‏"‏‏.‏ انفرد به أحمد، إسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن‏.‏

حديث آخر في معناه‏:‏ قال أبو داود‏:‏ حدثنا عقبة بن مُكرَم، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مَهْدي- عن بشر -يعني ابن منصور- عن محمد بن عَجْلان، عن سُوَيد بن وَهْب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَه مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإيمانًا، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَال وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْه -قال بِشر‏:‏ أحسبه قال‏:‏ ‏"‏تَوَاضُعًا‏"‏- كسَاهُ اللهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، وَمَنْ زَوَّجَ للهِ كَسَاهُ اللهُ تَاجَ الْمُلْكِ‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن يَزيد، حدثنا سعيد، حدثني أبو مَرْحُوم، عن سَهْل بن مُعَاذ بن أنس، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَه، دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ، حَتَّى يُخيرَهُ مِنْ أيِّ الْحُورِ شَاءَ‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجة، من حديث سعيد بن أبي أيُّوب، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال‏:‏ عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا داود بن قَيْس، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام -يقال له‏:‏ عبد الجليل- عن عم له، عن أبي هريرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن مَرْدُويَه‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، أخبرنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا علي بن عاصم، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله‏"‏‏.‏ وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن عمر، عن حَمَّاد بن سلمة، عن يونس بن عُبَيد، به‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل‏.‏

ثم قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مَوجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ فهذا من مقامات الإحسان‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ثلاث أُقْسِمُ عليهن‏:‏ ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا، ومن تواضع لله رفعه الله ‏"‏‏.‏

وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عُقبة، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القُرشي، عن عُبَادة بن الصامت، عن أبي بن كعب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سره أن يُشْرَف له البنيان، وترفع له الدرجات فَلْيَعْفُ عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويَصِلْ من قطعه‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي، وكعب بن عُجْرة، وأبي هريرة، وأم سلمة، بنحو ذلك‏.‏ وروي عن طريق الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول‏:‏ أين العافون عن الناس‏؟‏ هَلُمُّوا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏

إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا هَمّام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن رجلا أذنب ذَنْبًا، فقال‏:‏ رب إني أذنبت ذنبا فاغفره‏.‏ فقال الله ‏[‏عز وجل‏]‏ عبدي عمل ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال‏:‏ رب، إني عملت ذنبا فاغفره‏.‏ فقال تبارك وتعالى‏:‏ علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي‏.‏ ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ‏:‏ رَبِّ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي‏.‏ فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ‏:‏ عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ‏:‏ رَبِّ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ‏:‏ عَبْدِي عَلِمَ‏}‏ أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ‏"‏‏.‏ أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة، بنحوه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو الْمُدِلَّة -مولى أم المؤمنين- سمع أبا هريرة، قلنا‏:‏ يا رسول الله، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد، فقال لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ‏"‏‏.‏ قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏‏"‏لَبِنَةُ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ‏:‏ الإمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ‏:‏ وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي، وابن ماجة، من وجه آخر من سعد، به‏.‏ ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا مِسْعَر، وسفيان -هو الثوري- عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه ‏[‏غيري استَحْلفْتُه، فإذا حلف لي صَدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني‏]‏ وصدَق أبو بكر -أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ -الوُضُوءَ -قال مِسْعر‏:‏ فَيُصَلّي‏.‏ وقال سفيان‏:‏ ثم يُصلِّي ركعتين -فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ‏"‏‏.‏ كذا رواه علي بن المَديني، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة، وأهل السنن، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني، من طرق، عن عثمان بن المغيرة، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ هو حديث حسن وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق، ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ عن خليفة النبي ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ -أو‏:‏ فَيُسْبِغَ -الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ‏"‏‏.‏

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏"‏‏.‏

فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين‏.‏

وقد قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ بلغني أن إبليس حين نزلت‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ‏}‏ الآية، بَكَى‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا مُحْرِز بن عَون، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبد الغفور، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء، عن أبي بكر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار، فأكْثرُوا مِنْهُمَا، فإنَّ إبْليسَ قَالَ‏:‏ أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ‏"‏‏.‏ عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان‏.‏ وروى الإمام أحمد في مسنده، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قَالَ إبْلِيسُ‏:‏ يَا رَبِّ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي ‏[‏عِبَاَدكَ‏]‏ ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ‏.‏ فَقَالَ اللهُ‏:‏ وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن المثني، حدثنا عُمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ‏"‏‏.‏ ‏[‏قال‏:‏ فإني أستغفر، ثم أعود فأُذْنِب‏.‏ قال فَإذا أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ‏]‏ ‏"‏ فقالها في الرابعة فقال‏:‏ ‏"‏اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لا يغفرها أحد سواه، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن مُصْعَب، حدثنا سلام بن مسكين، والمبارك، عن الحسن، عن الأسود بن سَرِيع؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال‏:‏ اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه اللهُ، في مسنده‏:‏ حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا‏:‏ حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، والترمذي، والْبَزَّار في مسنده، من حديث عثمان بن واقد -وقد وثقه يحيى بن معين- به وشيخه أبو نصيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي‏:‏ ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر إنما ‏[‏هو‏]‏ لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى ‏[‏أبي بكر‏]‏ الصديق، فهو حديث حسن والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن من تاب تاب الله عليه‏.‏

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏104‏]‏ وكقوله ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏110‏]‏ ونظائر هذا كثيرة جدا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد أخبرنا جرير، حدثنا حبان -هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ- عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال- وهو على المنبر-‏:‏ ‏"‏ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد، رحمه الله‏.‏

ثم قال تعالى -بعد وصفهم بما وصفهم به-‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ‏}‏ أي‏:‏ جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله وجنات ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ من أنواع المشروبات ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ماكثين فيها ‏{‏وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏}‏ يمدح تعالى الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137 - 143‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين الذين أُصِيبوا يومَ أُحُد، وقُتِل منهم سبعون‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ أي‏:‏ قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وكيف كان الأممُ الأقدمون مع أعدائهم ‏{‏وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فيه خَبَرُ ما قبلكم و‏{‏هُدًى‏}‏ لقلوبكم و‏{‏مَوْعِظَةٌ‏}‏ أي‏:‏ زاجر ‏[‏عن المحارم والمآثم‏]‏‏.‏

ثم قال مسليا للمؤمنين‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُوا‏}‏ أي‏:‏ لا تَضعفوا بسبب ما جرى ‏{‏وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏أي‏:‏ العاقبة والنّصرة لكم أيها المؤمنون‏.‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم قد أصابتكم جراحٌ وقُتل منكم طائفةٌ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ نُديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت العاقبة لكم لما لنا في ذلك من الحكم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في مثل هذا لنَرَى، أي‏:‏ من يَصبر على مناجزة الأعداء ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ يُقْتَلُون في سبيله، ويَبْذُلون مُهَجهم في مرضاته‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏.‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كان لهم ذنوب وإلا رُفعَ لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبَطروا فيكون ذلك سَبَبَ دمارهم وهلاكهم ومَحْقهم وفنائهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ‏[‏حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏214‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ‏[‏وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏]‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1-3‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد كنتم -أيها المؤمنون- قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونَكم فقاتلوا وصابروا‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ‏"‏‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ الموت شاهدتموه في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح، وصفوف الرجال للقتال‏.‏

والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144 - 148‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد، وقُتِل من قتل منهم، نادى الشيطان‏:‏ ألا إن محمدًا قد قُتل‏.‏ ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم‏:‏ قتلتُ محمدًا‏.‏ وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَشَجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله ‏[‏عز وجل‏]‏ على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ أي‏:‏ له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه‏.‏

قال ابن أبي نَجيح، عن أبيه، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له‏:‏ يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل‏؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ قد قُتِل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ رواه ‏[‏الحافظ أبو بكر‏]‏ البيهقي في دلائل النبوة‏.‏

ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ رجعتم القَهْقرى ‏{‏وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا‏.‏

وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ، رضي الله عنهما؛ أن الصدّيق -رضي الله عنه- تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن عُقيل عن ابن شهاب، أخبرني أبو سَلَمة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، أخبرته أن أبا بكر، رضي الله عنه، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يُكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ ثم أكب عليه وقَبَّله وبكى، ثم قال‏:‏ بأبي أنت وأمي‏.‏ والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها‏.‏

وقال الزهري‏:‏ وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث الناس فقال‏:‏ اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ، فقال أبو بكر‏:‏ أما بعد، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏}‏ قال‏:‏ فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها‏.‏

وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال‏:‏ والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هَوَيتُ إلى الأرض‏.‏

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القنَّاد، حدثنا أسباط بن نصر، عن سماك بن حَرْب، عن عكْرمة، عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه، ووليُّه، وابن عمه، ووارثه فمن أحق به مني‏؟‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا‏}‏ أي‏:‏ لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله له؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُؤَجَّلا‏}‏ كقوله ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏11‏]‏ وكقوله ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏2‏]‏‏.‏

وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال‏:‏ سمعت أبا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن صُهبان، قال‏:‏ قال رجل من المسلمين -وهو حُجْرُ بن عَدِيّ-‏:‏ ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو، هذه النطفة‏؟‏ -يعني دِجْلَة- ‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا‏}‏ ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا‏:‏ ديوان، فهربوا ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له، ولم يكن له في الآخرة ‏[‏من‏]‏ نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏20‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18، 19‏]‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكْرهم وعملهم‏.‏

ثم قال تعالى -مسليًا للمسلمين عما كان وقع في نفوسهم يوم أُحُد-‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ كم من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير‏.‏ وهذا القول هو اختيار ابن جرير، فإنه قال‏:‏ وأما الذين قرؤوا‏:‏ ‏{‏قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ فإنهم قالوا‏:‏ إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفي الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل‏.‏

قال‏:‏ ومن قرأ ‏{‏قَاتَلَ‏}‏ فإنه اختار ذلك لأنه قال‏:‏ لو قتلوا لم يكن لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُوا‏}‏ وجه معروف؛ لأنهم يستحيل أن يُوصَفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا‏.‏

ثم اختار قراءة من قرأ ‏{‏قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏؛ لأن الله ‏[‏تعالى‏]‏ عاتب بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال أو سمعوا الصائح يصيح‏:‏ ‏"‏إن محمدا قد قتل‏"‏‏.‏ فعذلهم الله على فرارهم وترْكِهم القتال فقال لهم‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير‏.‏

وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر، ‏[‏فإنه‏]‏ قال‏:‏ أي وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه ربيون، أي‏:‏ جماعات فما وهنوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر، ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

فجعل قوله‏:‏ ‏{‏مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ‏}‏ الآية، وكذلك حكاه الأموي في مغازيه، عن كتاب محمد بن إبراهيم، ولم يقل غيره‏.‏

وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن ابن

مسعود ‏{‏رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ ألوف‏.‏

وقال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جُبَير، وعِكْرِمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع، وعطاء الخراساني‏:‏ الربيون‏:‏ الجموع الكثيرة‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الحسن‏:‏ ‏{‏رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ علماء كثير، وعنه أيضًا‏:‏ علماء صبر أبرار أتقياء‏.‏

وحكى ابن جرير، عن بعض نحاة البصرة‏:‏ أن الربيين هم الذين يعبدون الرب، عز وجل، قال‏:‏ ورد بعضهم عليه قال‏:‏ لو كان كذلك لقيل رَبيون، بفتح الراء‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ‏"‏الربيون‏:‏ الأتباع، والرعية، والربابيون‏:‏‏}‏ الولاة‏.‏

‏{‏فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا‏}‏ قال قتادة والربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏وَمَا ضَعُفُوا‏}‏ بقتل نبيهم ‏{‏وَمَا اسْتَكَانُوا‏}‏ يقول‏:‏ فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم، أنْ قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله‏.‏

وقال ابن عباس ‏{‏وَمَا اسْتَكَانُوا‏}‏ تَخَشَّعوا‏.‏ وقال السُّدِّي وابن زيد‏:‏ وما ذلوا لعدوهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، وقتادة والسدي‏:‏ أي ما أصابهم ذلك حين قُتِل نبيهم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏.‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن لهم هِجيرى إلا ذلك‏.‏

‏{‏فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ النصر والظفر والعاقبة ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ جمَع لهم ذلك مع هذا، ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149 - 153‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏ثم أمرهم بطاعته وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ‏}‏‏.‏

ثم بشرهم بأنه سَيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم، بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنَّكال، فقال‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي‏:‏ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن سليمان -يعني التيمي- عن سَيّار، عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏فَضَّلَني ‏[‏رَبِّي‏]‏ عَلَى الأنْبِيَاء -أو قال‏:‏ عَلَى الأمَمِ- بأَرْبَعٍ‏"‏ قال ‏"‏أُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّهَا وَلأمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأيْنَمَا أدْرَكَتْ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ و طَهُوُرهُ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْرٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي وأحَل لِيَ‏}‏ الغنائِم‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي، عن سَيَّار القُرَشي الأموي مولاهم الدمشقي -سكن البصرة- عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان، رضي الله عنه، به‏.‏ وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال سعيد بن منصور‏:‏ أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث‏:‏ أن أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ‏"‏‏.‏

ورواه مسلم من حديث ابن وهب‏.‏

وروى الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدَة، عن أبيه أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أُعْطِيتُ خَمْسًا‏:‏ بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ، وَجعلَتْ لِيَ الأرْض طَهُورًا ومَسْجِدًا، وأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تَحِل لِمَنْ كَانَ قَبْلِي، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ‏}‏ شَهْرًا، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلا وَقَدْ سَأَل شَفَاعَتَهُ، وإنِّي اخْتَبَأتُ شَفَاعَتِي، ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وروى العَوْفيّ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏}‏ قال‏:‏ قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفا، وَقَدْ رَجَعَ، وقَذَفَ الله فِي قَلْبِهِ الرُّعْبِ‏"‏‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وعدهم الله النصر‏.‏

وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ‏.‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرُّماة وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ أول النهار ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تقتلونهم ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بتسليطه إياكم عليهم ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ وقال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ الفشل الجبن، ‏{‏وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ‏}‏ كما وقع للرماة ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ‏}‏ وهو الظفر منهم ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ غفر لكم ذلك الصَّنِيع، وذلك -والله أعلم- لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ لم يستأصلكم‏.‏ وكذا قال محمد بن إسحاق، رواهما ابن جرير ‏{‏وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عُبَيد الله عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد‏.‏ قال‏:‏ فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس‏:‏ بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله، إن الله يقول في يوم أحد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏ يقول ابن عباس‏:‏ والحَسُّ‏:‏ القتل ‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ‏}‏ الآية وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال‏:‏ ‏"‏احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا‏.‏ فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا ‏[‏ودخلوا‏]‏ في العسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُم هكذا -وشبك بين يديه- وانتشبوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقُتل من المسلمين ناسكثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا -حيث يقول الناس- الغار، إنما كان تحت المِهْراس، وصاح الشيطان‏:‏ قُتل محمد، فلم يُشَك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتلفته إذا مشى -قال‏:‏ ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا- قال‏:‏ فَرَقِيَ نحونا وهو يقول‏:‏ ‏"‏اشتد غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ‏"‏‏.‏ ويقول مرة أخرى‏:‏ ‏"‏اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا‏"‏‏.‏ حتى انتهى إلينا، فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل‏:‏ اعْلُ هبل، مرتين -يعني آلهته- أين ابن أبي كَبْشة‏؟‏ أين ابن أبي قحَافة‏؟‏ أين ابن الخطاب‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، ألا أجيبه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى‏"‏ قال‏:‏ فلما قال‏:‏ اعل هبل‏.‏ قال عمر‏:‏ الله أعلى وأجل‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ قد أنعمت عينها فعَادِ عنها أو‏:‏ فَعَالِ‏!‏ فقال‏:‏ أين ابن أبي كبشة‏؟‏ أين ابن أبي قُحَافة‏؟‏ أين ابن الخطاب‏؟‏ فقال عمر‏:‏ هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر‏.‏ قال‏:‏ فقال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، الأيام دُوَل، وإن الحرب سِجَال‏.‏ قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار‏.‏ قال إنكم تزعمون ذلك، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان‏:‏ إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك على رأي سراتنا‏.‏ قال‏:‏ ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال‏:‏ أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه‏.‏ هذا حديث غريب، وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه‏.‏ وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، به‏.‏ وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة، من حديث سليمان بن داود الهاشمي، به ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها، فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي، عن ابن مسعود قال‏:‏ إن النساء كن يوم أحد، خلْف المسلمين، يُجْهزْن على جَرْحى المشركين، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر‏:‏ أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة‏:‏ سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، وهو عاشرهم، فلما رهقُوه ‏[‏قال‏:‏ ‏"‏رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رَهقُوه‏]‏ أيضا قال‏:‏ ‏"‏رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا‏"‏‏.‏ فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه‏:‏ ‏"‏مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا‏"‏‏.‏

فجاء أبو سفيان فقال‏:‏ اعْلُ هُبَلُ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قُولُوا‏:‏ اللهُ أعْلَى وأجَلُّ‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ الله أعلى وأجل‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قُولُوا‏:‏ ‏"‏اللهُ مَوْلانَا، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم‏"‏‏.‏ ثم قال أبو سفيان‏:‏ يومٌ بيوْم بَدْر، يومٌ علينا ويوم لنا ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر‏.‏ حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ، وفلان بفلان، وفلان بفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا سَوَاء‏.‏ أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ‏"‏‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ قد كان في القوم مَثُلَةٌ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ غير مَلأ منَّا، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ، ولا ساءني ولا سرَّني‏.‏ قال‏:‏ فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكَلَتْ شَيْئًا‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى ‏[‏عليه‏]‏ ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة‏.‏ تفرد به أحمد أيضًا‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا عُبَيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق‏:‏ عن البراء قال‏:‏ لقينا المشركين يومئذ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من الرُّماة، وأمَّر عليهم عبد الله -يعني ابن جُبَيْر- وقال‏:‏ ‏"‏لا تَبْرَحُوا إنْ رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا، وإنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا‏"‏‏.‏ فلما لقيناهم هربُوا، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ في الجبل، رَفَعْنَ عن سُوقهن، وقد بدت خَلاخلهن، فأخذوا يقولون‏:‏ الغنيمةَ الغَنيمة‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا‏.‏ فأبَوْا، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم، فأُصِيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال‏:‏ أفي القوم محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا تجيبوه‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا تُجِيبُوهُ‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ فقال‏:‏ إن هؤلاء قد قُتِلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا‏.‏ فلم يملك عُمَرُ نفسه فقال‏:‏ كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ، قد أبقى الله لك ما يُحزِنكَ‏}‏ فقال أبو سفيان‏:‏ اعْل هُبَل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أجِيبُوهُ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قُولُوا‏:‏ الله أعْلَى وأجَلُّ‏"‏‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أجِيبُوهُ‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قُولُوا‏:‏ اللهُ مَوْلانَا، وَلا مَوْلَى لَكُمْ‏"‏‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏ تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد، عن زُهَير بن معاوية عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه وسيأتي بأبْسط من هذا‏.‏

وقال البخاري أيضا‏:‏ حدثنا عُبَيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عُرْوة، عن أبيه،

عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون، فصَرخَ إبليس‏:‏ أيْ عباد الله، أخْرَاكم‏.‏ فَرَجعت أولادهم فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم، فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال‏:‏ أيْ عباد الله، أبي أبي‏.‏ قال‏:‏ قالت‏:‏ فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه، فقال حذيفة‏:‏ يغفر الله لكم‏.‏ قال عروة‏:‏ فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جَده أن الزبير بن العوام قال‏:‏ والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم ‏[‏هند‏]‏ وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل ومالت الرُّماة إلى العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من أدبارنا، وصرخ صارخ‏:‏ ألا إنَّ محمدًا قد قُتل‏.‏ فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلم يزل لواء المشركين صريعا، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة الحارثية، فدفعته لقريش فلاثوا به وقال السُّدِّي عن عبد خير قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا ما نزل يوم أحد ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ‏}‏‏.‏

وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أحدُ بني عديّ بن النجار قال‏:‏ انتهى أنسُ بنُ النَّضر، عَمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال‏:‏ ما يخليكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ فما تصنعون بالحياة بعده‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه‏.‏ ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا حسان بن حسان، حدثنا محمد بن طلحة، حدثنا حُمَيد، عن أنس بن مالك‏:‏ أن عمه -يعني أنس بن النضر- غاب عن بدر فقال‏:‏ غِبْتُ عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد، فهُزم الناسُ، فقال‏:‏ اللهُمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال‏:‏ أينَ يا سعد‏؟‏ إني أجدُ ريح الجنة دون أحد‏.‏ فمضى فَقُتِل، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه بشامة وبه بضع وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم‏.‏ هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس، بنحوه‏.‏

وقال البخاري ‏[‏أيضا‏]‏ حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب قال‏:‏ جاء رجل حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال‏:‏ من هؤلاء القُعُودُ‏؟‏ قالوا‏:‏ هؤلاء قريش‏.‏ قال‏:‏ من الشيخ‏؟‏ قالوا‏:‏ ابن عُمَر‏.‏ فأتاه فقال‏:‏ إني سائلك عن شيء فحدثني‏.‏ قال‏:‏ أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فكبر، فقال ابن عمر‏:‏ تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه‏.‏ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه‏"‏‏.‏ وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمانَ، فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى‏:‏ ‏"‏هِذِهِ يَدُ عُثْمَان‏"‏‏.‏ فضرب بها على يده، فقال‏:‏ ‏"‏هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ‏"‏‏.‏ ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ‏}‏ أي‏:‏ صرفكم عنهم ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الجبل هاربين من أعدائكم‏.‏

وقرأ الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الجبل ‏{‏وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ‏}‏ أي‏:‏ وأنتم لا تلوون على أحد من الدَّهَش والخوف والرعب ‏{‏وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وهو قد خلفتموه وراء ظُهوركم يدعوكم إلى تَرْك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة‏.‏

قال السُّدِّي‏:‏ لما شَدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس‏:‏ ‏"‏إليَّ عِبَادَ اللهِ، إليَّ عباد الله‏"‏‏.‏ فذكر الله صعودهم على الجبل، ثم ذكر دُعَاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال‏:‏ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ‏}‏‏.‏ وكذا قال ابنُ عباس، وقتادة والربيع، وابن زيد‏.‏

وقد قال عبد الله بن الزّبَعْري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته -وهو مشرك بعد لم يسلم- التي يقول في أولها‏:‏

يا غُرابَ البَيْنِ أسْمَعْتَ فَقُل *** إنما تَنْطقُ شيئًا قَدْ فُعل

إنّ للخير وللشر مَدى *** وكلا ذلك وجْه وقَبلْ

إلى أن قال‏:‏

لَيْتَ أشياخي ببدر شهدوا *** جَزَعَ الخزرج من وقع الأسَلْ

حين حَكَّت بقُباء بَرْكها *** واستحر القتل في عبد الأشل

ثم خَفّوا عنْدَ ذَاكُم رُقَّصا *** رقص الحَفَّان يعلو في الجَبَل

فقتلنا الضعف من أشرافهم *** وعَدَلنا مَيْل بدر فاعتدَل

الحفان‏:‏ صغار النعم‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثنى عشر رجلا من أصحابه، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زُهَير، حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال‏:‏ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جُبير قال‏:‏ ووضعهم موضعًا وقال‏:‏ ‏"‏إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال‏:‏ فهزموهم‏.‏ قال‏:‏ فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن على الجبل، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن، فقال أصحاب عبد الله‏:‏ الغَنِيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون ‏؟‏ قال عبد الله بن جبير‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنا والله لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة‏.‏ فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة‏:‏ سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ -ثلاثا -قال‏:‏ فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قُحَافة‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ ثم أقبل على أصحابه فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد قتلوا، قد كُفيتُمُوه‏.‏ فما ملك عُمَر نفسَه أن قال‏:‏ كذبتَ والله يا عدو الله، إن الذين عَدَدْتَ لأحياء كلهم، وقد بَقى لك ما يسوؤك‏.‏ فقال يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز، يقول‏:‏ اعلُ هُبَلْ‏.‏ اعل هُبَلْ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تُجِيبُوه ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قُولُوا‏:‏ الله أعلى وأجل‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تُجِيبُوهُ‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قُولُوا‏:‏ اللهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ‏"‏‏.‏ وقد رواه البخاري من حديث زُهَير بن معاوية مختصرا، ورواه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق بأبسط من هذا، كما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غَزِيَّة، عن أبي الزُّبَير، عن جابر قال‏:‏ انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل، فلقيهم المشركون، فقال‏:‏ ‏"‏ألا أحَدٌ لِهَؤُلاءِ‏؟‏‏"‏ فقال طلحة‏:‏ أنا يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏كمَا أنْتَ يَا طَلْحَةُ‏"‏‏.‏ فقال رجل من الأنصار‏:‏ فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قُتل الأنصاري فلحقوه فقال‏:‏ ‏"‏ألا رجُلٌ لِهؤُلاءِ‏؟‏‏"‏ فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار‏:‏ فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه وأصحابه يصعدن، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة‏:‏ فأنا يا رسول الله، فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذَنُ له، فيقاتل مثل من كان قبله، حتى لم يبق معه إلا طلحة فَغشَوْهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ لِهَؤلاءِ‏؟‏‏"‏ فقال طلحة‏:‏ أنا‏.‏ فقاتل مثْل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال‏:‏ حس، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏لوْ قُلْتَ‏:‏ بِاسْمِ اللهِ، وذَكرت اسْمَ الله، لَرَفَعَتْكَ الملائِكَة والنَّاسُ يَنْظُرونَ إلَيْكَ، حَتَّى تلجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ‏"‏، ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون‏.‏

وقد روى البخاري، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن إسماعيل، عن قَيْس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم -يعني يوم أحد‏.‏

وفي الصحيحين من حديث مُعْتَمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عُثمان النَّهْدِي قال‏:‏ لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام، التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طلحةَ بن عبيد الله وسعد، عن حَديثهما وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رَهِقُوه قال‏:‏ ‏"‏مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ -أو‏:‏ وهو رفيقي في الجنة‏؟‏‏"‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال‏:‏ ‏"‏من يردهم عنا وله الجنة‏؟‏‏"‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل‏.‏ فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه‏:‏ ما أنْصَفْنَا أصْحَابنا‏"‏‏.‏ رواه مسلم عن هُدبة بن خالد، عن حماد بن مسلمة به نحوه‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا ابن مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم الزهري، قال سمعت سعيد بن المسيَّب يقول‏:‏ سمعت سعد بن أبي وقاص ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ يقول‏:‏ نَثُل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد قال‏:‏ ‏"‏ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي‏"‏‏.‏ وأخرجه البخاري، عن عبد الله بن محمد، عن مروان بن معاوية‏.‏

وقال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص؛ أنه رمى يوم أحد دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد‏:‏ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النَّبْلَ ويقول‏:‏ ‏"‏ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي‏"‏ حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني‏:‏ جبريل وميكائيل عليهما السلام‏.‏

وقال أبو الأسود، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ كان أبَيُّ بن خَلَف، أخو بني جُمَح، قد حلف وهو بمكة لَيَقْتُلَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَلْفَتُه قال‏:‏ ‏"‏بَلْ أنَا أقْتُلُهُ، إنْ شَاءَ الله‏"‏‏.‏ فلما كان يوم أحد أقبل أبَي في الحديد مُقَنَّعا، وهو يقول‏:‏ لا نَجَوْتُ إن نجا محمد‏.‏ فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتْله، فاستقبله مُصْعَب بن عُمَير، أخو بني عبد الدار، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَة أبي بن خلف من فَرْجةَ بين سابغة الدرع والبيضة، وطعنه فيها بحربته، فوقع إلى الأرض عن فرسه، لم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور، فقالوا له‏:‏ ما أجزعك إنما هو خدش‏؟‏ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنا أقْتُلُ أُبيا‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المَجَاز لماتوا أجمعون‏.‏ فمات إلى النار، فسحقا لأصحاب السعير‏.‏ وقد رواه موسى بن عُقْبة في مغازيه، عن الزُّهْري، عن سعيد بن المسيّب بنحوه‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق قال‏:‏ لما أسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبي بن خَلَفَ وهو يقول‏:‏ لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله، يَعْطف عليه رجل منا‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دَعُوُه‏"‏ فلما دنا تناول رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ الحربة من الحارث بن الصِّمَّة، فقال بعض القوم ما ذكر لي‏:‏ فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدَأ منها عن فرسه مرارًا‏.‏

وذكر الواقدي، عن يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه نحو ذلك‏.‏

قال الواقدي‏:‏ كان ابن عمر يقول‏:‏ مات أبَيّ بن خلف ببطن رَابِغٍ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تتأجّح فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش، وإذا رجل يقول‏:‏ لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبيّ بن خلف‏.‏

وثبت في الصحيحين، من رواية عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللهِ -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته- اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ‏"‏‏.‏

ورواه البخاري أيضًا من حديث ابن جُرَيج، عن عَمْرو بن دينار، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيده في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله‏:‏ أصيبت رَبَاعِية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وَجْنَته، وكُلِمَت شَفَتُه وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص‏.‏

فحدثني صالح بن كَيْسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ ما حَرَصْتُ على قتل أحد قَط ما حرصت على قتل عُتْبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيئ الخلُق، مُبْغَضًا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا معْمَر، عن الزهري، عن عثمان الجزَري، عن مقْسَم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عُتْبةَ بن أبي وقاص يوم أحُد حين كَسر رَبَاعيتَه ودَمى وجهه فقال‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ لا تحل عَلَيْهِ الْحَوْل حَتَّى يموتَ كَافِرًا‏"‏‏.‏ فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار‏.‏

ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة، عن أبي الحُويرث، عن نافع بن جبير قال‏:‏ سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏:‏ دُلّوني على محمد، لا نَجَوتُ إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد، ثم جاوره فعاتبه في ذلك صَفْوان، فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع‏.‏ خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك‏.‏

قال الواقدي‏:‏ الثَّبْتُ عندنا أن الذي رمى في وَجْنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَميئة والذي دَمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ كان أبو بكر، رضي الله عنه، إذا ذكر يوم أحد قال ذاك يوم كُله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال‏:‏ كنت أول من فَاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه -وأراه قال‏:‏ حَميَّة فقال فقلت‏:‏ كن طَلْحَةَ، حيث فاتني ما فاتني، فقلت‏:‏ يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقد كسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عَليكُما صَاحِبَكُما‏"‏‏.‏ يريد طلحة، وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال‏:‏ وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة‏:‏ أقسمت عليك بحقي لما تركتني‏.‏ فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فَأزَمَّ عليها بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة، ذهبت لأصنع ما صنع، فقال‏:‏ أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال‏:‏ ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة، رضي الله عنه، أحسن الناس هَتْما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه، فأصلحنا من شأنه‏.‏ ورواه الهيثم بن كُلَيب، والطبراني، من حديث إسحاق بن يحيى به‏.‏ وعند الهيثم‏:‏ فقال أبو عبيدة‏:‏ أنشدك يا أبا بكر إلا تركتني‏؟‏ فأخذ أبو عبيدة السّهم بفيه، فجعل يُنَضْنِضَه كراهيةَ أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اسْتل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة‏.‏

وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وقد ضَعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا، فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي وغيرهم‏.‏

وقال ابن وَهْب‏:‏ أخبرني عَمْرو بن الحارث‏:‏ أن عُمَر بن السائب حدثه‏:‏ أنه بلغه أن مالكا أبا ‏[‏أبي‏]‏ سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له‏:‏ مُجَّه‏.‏ فقال‏:‏ لا والله لا أمجه أبدا‏.‏ ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظُرْ إلى هذا ‏"‏ فاستشهد‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن سَهْل بن سَعْد أنهسئل عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسِرت رَبَاعِيتُه، وهُشِمَت البَيْضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان عَلِي يسكب عليها بالمِجَنّ فلما رأت فاطمة ‏[‏رضي الله عنها‏]‏ أن الماء لا يزيدُ الدم إلا كثرة، أخذت قطعةَ حَصِير فأحرقته، حتى إذا صار رمادا ألصقته بالجُرْح، فاستمسك الدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏ أي‏:‏ فجازاكم غَما على غَم كما تقول العرب‏:‏ نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏71‏]‏ ‏[‏أي‏:‏ على جذوع النخل‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ الغم الأول‏:‏ بسبب الهزيمة، وحين قيل‏:‏ قتل محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني‏:‏ حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا‏"‏‏.‏

وعن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ الغم الأول‏:‏ بسبب الهزيمة، والثاني‏:‏ حين قيل‏:‏ قُتِلَ محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة‏.‏ رواهما ابن مَرْدُويَه، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك‏.‏ وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نَحْوَ ذلك أيضا‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ الغم الأول‏:‏ بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني‏:‏ بإشراف العدو عليهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏ أي‏:‏ كَرْبا بعد كرب، قَتْل مَنْ قُتل من إخوانكم، وعُلُو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال‏:‏ ‏"‏قُتل نبيكم‏"‏ فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم‏.‏

وقال مجاهد وقتادة‏:‏ الغم الأول‏:‏ سماعهم قتل محمد، والثاني‏:‏ ما أصابهم من القتل والجراح‏.‏ وعن قتادة والربيع بن أنس عكسُه‏.‏

وعن السُّدِّي‏:‏ الأول‏:‏ ما فاتهم من الظَّفَر والغنيمة، والثاني‏:‏ إشراف العدو عليهم، وقد تقدم هذا عن السدي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال‏:‏ ‏{‏فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ‏}‏ فأثابكم بغَمكُم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمةَ المشركين والظَّفر بهم والنصرَ عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ -بعد الذي أراكم في كل ذلك ما تحبون -بمعصيتكم ربكم، وخلافكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، غَم ظنكم أن نبيكم قد قتل، وميل العدو عليكم بعد فُلولكم منهم‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على ما فاتكم من الغنيمة بعدوكم ‏{‏وَلا مَا أَصَابَكُمْ‏}‏ من القتل والجراح، قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وقتادة، والسدي ‏{‏وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154 - 155‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏

يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال تعالى في سورة الأنفال، في قصة بدر‏:‏ ‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ‏[‏وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ‏]‏ ‏[‏الأنفال‏:‏11‏]‏‏.‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم وكيع عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان‏.‏

قال البخاري‏:‏ قال لي خليفة‏:‏ حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، رضي الله عنه، قال‏:‏ كنت فيمن تَغَشاه النعاس يوم أحُد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه‏.‏

هكذا رواه في المغازي معلقا‏.‏ ورواه في كتاب التفسير مُسْنَدًا عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال‏:‏ غَشينا النعاس ونحن في مَصَافنا يوم أحد‏.‏ قال‏:‏ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه‏.‏

وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم، من حديث حَمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عنأبي طلحة قال‏:‏ رفعت رأسي يوم أحُد، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت جَحَفَتِه من النعاس‏.‏ لفظ الترمذي، وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه النسائي أيضا، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن أبي قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال‏:‏ قال أبو طلحة‏:‏ كنت فيمن ألقي عليه النعاس -الحديث‏.‏

وهكذا رُوي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك؛ أن أبا طلحة قال‏:‏ غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحُد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال‏:‏ والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَمٌّ إلا أنفسهُم، أجبن قوم وأرعنه، وأخْذَله للحق ‏{‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ كَذَبَةَ، أهل شك وريب في الله، عز وجل‏.‏

هكذا رواه بهذه الزيادة، وكأنها من كلام قتادة، رحمه الله، وهو كما قال؛ فإن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله ويُنْجِز له مأموله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف ‏{‏يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ‏[‏وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا‏]‏ ‏[‏الفتح‏:‏12‏]‏ وهكذا هؤلاء، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنَّها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهلُه، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة‏.‏

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ في تلك الحال‏:‏ ‏{‏هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ‏}‏ ثم فَسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ أي‏:‏ يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ‏[‏محمد‏]‏ بن إسحاق بن يسار‏:‏ فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ قال الزبير‏:‏ لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال‏:‏ فوالله إني لأسمع قول مُعْتَب بن قُشَير، ما أسمعه إلا كالحلم، ‏[‏يقول‏]‏ ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا‏}‏ لقول مُعتَب‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا قدر مقدر من الله عز وجل، وحكم حَتْم لا يحاد عنه، ولا مناص منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يختبركم بما جرى عليكم، وليميز الخبيثَ من الطيب، ويظهر أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر‏.‏

ثم قال ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عَمّا كان منهم من الفرار ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه، ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان، رضي الله عنه، وتوليه يوم أحد، وأن الله ‏[‏قد‏]‏ عفا عنهم، عند قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ ومناسب ذكره هاهنا‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية بن عَمْرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال‏:‏ لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد‏:‏ ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ‏؟‏ فقال له عبد الرحمن‏:‏ أبلغه أني لم أفر يوم عَيْنَيْن -قال عاصم‏:‏ يقول يوم أحد- ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سُنة عمر‏.‏ قال‏:‏ فانطلق فَخَبر ذلك عثمان، قال‏:‏ فقال‏:‏ أما قوله‏:‏ إني لم أفر يوم عَيْنَيْن فكيف يعَيرني بذَنْب قد عفا الله عنه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ وأما قولُهُ‏:‏ إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏"‏إني لم أترك سنَّة عمر‏"‏ فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156 - 158‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ‏}‏

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي الحروب‏:‏ لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عن إخوانهم ‏{‏إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ سافروا للتجارة ونحوها ‏{‏أَوْ كَانُوا غُزًّى‏}‏ أي‏:‏ في الغزو ‏{‏لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا‏}‏ أي‏:‏ في البلد ‏{‏مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا‏}‏ أي‏:‏ ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم ثم قال تعالى ردا عليهم‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أي‏:‏ بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ تضمن هذا أن القتل في سبيل الله، والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعَفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني‏.‏

ثم أخبر بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله، عز وجل، فيجزيه بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر فقال‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ‏}‏