فصل: تفسير الآيات رقم (40 - 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 42‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏

يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ‏[‏لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ‏]‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ‏[‏إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏]‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏.‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏.‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ وفي الصحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ، وفيه‏:‏ فيقول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا‏"‏ ثم يقول أبو سعيد‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏[‏وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عيسى بن يُونُس، عن هارونَ بن عنترة عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ قال‏:‏ قال عبدُ الله بن مَسْعُود‏:‏ يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين‏:‏ هذا فلانُ بنُ فلانٍ، من كان له حق فليأت إلى حقه‏.‏

فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏101‏]‏ فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصَب للناس فينادَي‏:‏ هذا فلانُ بن فلانٍ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه‏.‏ فيقول‏:‏ رَبّ، فَنِيَت الدنيا، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم‏؟‏ قال‏:‏ خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة، ثم قرأ علينا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ قال‏:‏ ادخل الجنة؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك‏:‏ ربِّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير‏؟‏ فيقول‏:‏ خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار‏.‏ ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر، عن زاذان -به نحوه‏.‏ ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثتا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا فُضَيلٌ -يعني ابن مرزوق- عن عطيَّة العَوْفي، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال‏:‏ نزلت هذه الآية في الأعراب‏:‏ ‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ قال رجل‏:‏ فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن‏؟‏ قال‏:‏ ما هو أفضلُ من ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏

وحدثنا أبو زُرْعَةَ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله ‏{‏وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة، ولا يخرج من النار أبدا‏.‏ وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال‏:‏ يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار‏"‏‏.‏

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه حدثنا عِمْرَانُ، حدثنا قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة‏"‏‏.‏

وقال أبو هريرة، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ يعني‏:‏ الجنة‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا سُلَيْمانُ -يعني ابن الْمُغَيْرَةِ- عن علي بن زَيْدٍ، عن أبي عثمان قال‏:‏ بلغني عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة‏.‏ قال‏:‏ فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا، فلقيته فقلت‏:‏ بلغني عنك

حديث أنك تقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة‏"‏ قال أبو هريرة‏:‏ لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة‏"‏ ثم تلا ‏{‏يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ فمن يقدره قدره ‏.‏

رواه الإمام أحمد فقال‏:‏ حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال‏:‏ أتيت أبا هريرة فقلت له‏:‏ بلغنى أنك تقول‏:‏ إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة‏؟‏ قال‏:‏ وما أعجبك من ذلك‏؟‏ فوالله لقد سمعت -يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- كذا قال أبي -يقول‏:‏ ‏"‏إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة‏"‏‏.‏ علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ يقول تعالى -مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه‏:‏ فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد -يعني الأنبياء عليهم السلام‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ‏[‏وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏]‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ‏[‏وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏]‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏اقرأ علي‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري‏"‏ فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏حسبك الآن‏"‏ فإذا عيناه تَذْرِفَان‏.‏ ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه‏.‏ ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن أبيه قال -وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

اضطرب لحياه وجنباه، فقال‏:‏ ‏"‏يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره‏؟‏‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله -هو ابن مسعود- ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم‏"‏‏.‏

وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في ‏"‏التذكرة‏"‏ حيث قال‏:‏ باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته‏:‏ قال‏:‏ أخبرنا ابن المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول‏:‏ ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه‏.‏ وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده‏:‏ ‏[‏قد تقدم‏]‏ أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة‏.‏ قال‏:‏ ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام‏.‏

وقوله ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ‏}‏ أي‏:‏ لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ‏[‏وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا‏]‏ وقوله ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال‏:‏ أتى رجل ابن عباس فقال‏:‏ سمعتُ الله، عز وجل، يقول -يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا-‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ فقال ابنُ العباس‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا‏:‏ تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ أشياء تختلف علي في القرآن‏.‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ أشك في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ ليس هو بالشك‏.‏ ولكن اختلاف‏.‏ قال‏:‏ فهات ما اختلف عليك من ذلك‏.‏ قال‏:‏ أسمع الله يقول‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقال ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏؛ فقد كتموا‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏؛ رجاء أن يغفر لهم‏.‏ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك‏:‏ ‏{‏يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏

وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك‏:‏ إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال‏:‏ يا ابن عباس، قول الله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ وقوله ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏‏؟‏ فقال له ابن عباس‏:‏ إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن‏.‏ فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد‏.‏ فيقول المشركون‏:‏ إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون‏:‏ تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون‏:‏ ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ قال‏:‏ فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين‏.‏ فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها -وهي المساجد- للجُنُب، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ‏[‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏]‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر، فقال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، تلاها عليه، فقال‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا‏.‏ فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90، 91‏]‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا، انتهينا‏.‏وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو -وهو ابن شُرَحبيل- عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه‏:‏ فنزلت الآية التي في‏]‏سورة‏[‏ النساء‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏ فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي‏:‏ ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران‏.‏ لفظ أبي داود‏.‏

وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم‏.‏ حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال‏:‏ سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال‏:‏ نزلت في أربعُ آيات‏:‏ صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ الآية‏.‏ والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة‏.‏ ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به‏.‏

سبب آخر‏:‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا -قال‏:‏ فقرأ‏:‏ قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏ هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ‏:‏ ‏{‏قُلْ ‏[‏يَا‏]‏ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ فخلط فيها، فنزلت‏:‏ ‏{‏لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏‏.‏ وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به‏.‏

ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال‏:‏ كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ ثم قال‏:‏ حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب -وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ‏:‏ قل يا أيها الكافرون‏.‏ أعبد ما تعبدون‏.‏ وأنتم عابدون ما أعبد‏.‏ وأنا عابد ما عبدتم‏.‏ لكم دينكم ولي دين‏.‏ فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏‏.‏

وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ‏[‏حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏]‏ وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر، فقال الله‏:‏ ‏{‏لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ الآية‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏ وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ‏.‏ وقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة‏:‏ كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر‏.‏

وقال الضَّحَّاكُ في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ لم يعن بها سُكْرَ الخمر، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم‏.‏ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ والصواب أن المراد سُكْر الشراب‏.‏ قال‏:‏ ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف‏.‏

وهذا حاصل ما قاله‏.‏ وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم شرط التكليف‏.‏ وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم‏.‏ وعلى هذا فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏ هذا أحسن ما يقال في حد السكران‏:‏ إنه الذي لا يدري مايقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول‏.‏ انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ قال‏:‏ لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال‏:‏ تمر به مرًّا ولا تجلس‏.‏ ثم قال‏:‏ ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد، ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار، والحكم بن عُتَيْبَة وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح البخاري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر‏"‏‏.‏

وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه، رضي الله عنه‏.‏ ومن روى‏:‏ ‏"‏إلا باب علي‏"‏ كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ، والصحيح‏.‏ ما ثبت في الصحيح‏.‏ ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال‏:‏ يمنع مرورهما لاحتمال التلويث‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ناوليني الخُمْرة من المسجد‏"‏ فقلت‏:‏ إني حائض‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن حيضتك ليست في يدك‏"‏‏.‏ وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم‏.‏

وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة‏]‏رضي الله عنها‏[‏ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ‏"‏ قال أبو مسلم الخَطَّابي‏:‏ ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا‏:‏ أفلت مجهول‏.‏ لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به‏.‏ قال أبو زرعة الرازي‏:‏ يقولون‏:‏ جسْرة عن أم سلمة‏.‏ والصحيح جسرة عن عائشة‏.‏

فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا علي، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك‏.‏ إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم‏.‏

قول آخر في معنى الآية‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش، عن علي‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ قال‏:‏ لا يقرب الصلاة، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء‏.‏

ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب، فذكره‏.‏ قال‏:‏ ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك، نحو ذلك‏.‏

وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش -عن علي فذكره‏.‏ ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره‏.‏ ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كَثِير قال‏:‏ كنَّا نسمع أنه في السفر‏.‏

ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير‏"‏‏.‏ ثم قال ابن جرير -بعد حكايته القولين-‏:‏ والأوْلَى قول من قال‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ إلا مجتازي طريق فيه‏.‏ وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله‏:‏أو ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ إلى آخره‏.‏ فكان معلوما بذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ لو كان معنيا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ‏}‏ معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل‏.‏ قال‏:‏ والعابر السبيل‏:‏ المجتاز مَرّا وقطعا‏.‏ يقال منه‏:‏ ‏"‏عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا‏"‏ ومنه قيل‏:‏ ‏"‏عبر فلان النهر‏"‏ إذا قطعه وجاوزه‏.‏ ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار‏:‏ هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار؛ لقوتها على قطع الأسفار‏.‏

وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَغْتَسِلُوا‏}‏ دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة‏:‏ أبو حنيفة ومالك والشافعي‏:‏ أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم، إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة‏.‏ وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح‏:‏ أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك؛ قال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن محمد -هو الدرَاوَرْدِي- عن هِشَام بنِ سَعْدٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار قال‏:‏ رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء‏.‏ ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل، حدثنا قيس عن خَصِيف عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى‏}‏ قال‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ هذا مرسل‏.‏ والسفر معروف، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ‏}‏ الغائط‏:‏ هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ فقرئ‏:‏ ‏"‏لَمَسْتم‏"‏ و‏"‏لامستم‏"‏ واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك، على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ ‏"‏أن ذلك كناية عن الجماع؛ لقوله ‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ قال‏:‏ الجماع‏.‏ ورُوي عن علي، وأبيّ بن كعب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وعُبَيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشَّعْبي، وقتادة، ومقاتل بن حيَّان -نحوُ ذلك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا شُعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي‏:‏ ليس بالجماع‏.‏ وقال ناس من العرب‏:‏ اللمس الجماع‏:‏ قال‏:‏ فأتيت ابن عباس فقلت له‏:‏ إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي‏.‏ ليس بالجماع‏.‏ وقالت العرب‏:‏ الجماع‏.‏ قال‏:‏ من أيّ الفريقين كنت‏؟‏ قلت‏:‏ كنت من الموالي‏.‏ قال‏:‏ غُلب فريقُ الموالي‏.‏ إن اللمس والمس والمباشرة‏:‏ الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء‏.‏

ثم رواه عن ابن بشَّار، عن غُنْدَر، عن شعبة -به نحوه‏.‏ ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير، نحوه‏.‏

ومثله قال‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا هشيم قال‏:‏ حدثنا أبو بشر، أخبرنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ اللمس والمس والمباشرة‏:‏ الجماع، ولكن الله يكني بما يشاء‏.‏

حدثنا عبد الحميد بن بيان، أنبأنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ الملامسة‏:‏ الجماع، ولكن الله كريم يكني بما يشاء‏.‏

وقد صح من غير وجه، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك‏.‏ ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ، عن طارق عن

عبد الله بن مسعود قال‏:‏ اللمس ما دون الجماع‏.‏

وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله‏.‏ وروي من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ القبلة من المس، وفيها الوضوء‏.‏

وقال‏:‏ حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عُبَيد الله بن عمر، عن نافع‏:‏ أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول‏:‏ هي من اللماس‏.‏

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال‏:‏ اللمس ما دون الجماع‏.‏

ثم قال ابن أبي حاتم‏:‏ ورُوي عن ابن عمر، وعبيدة، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة -يعني ابن عبد الله بن مسعود- وعامر الشَّعْبي، وثابت بن الحجَّاج، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وروى مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه كان يقول‏:‏ قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء‏.‏

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني ‏[‏في سننه‏]‏ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك‏.‏ ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر‏:‏ أنه كان يقبل امرأته، ثم يصلي ولا يتوضأ‏.‏ فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب، والله أعلم‏.‏

والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة‏:‏ قد قرئ في هذه الآية ‏{‏لامَسْتُمُ‏}‏ ‏{‏ولمستم‏}‏ واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال‏]‏الله‏[‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 7‏]‏، أي جسوه وقال ‏[‏رسول الله‏]‏ صلى الله عليه وسلم لماعز -حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار-‏:‏ ‏"‏لعلك قبلت أو لمست‏"‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏واليد زناها اللمس‏"‏ وقالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبّل ويلمس‏.‏ ومنه ما ثبت في الصحيحين‏:‏ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا‏:‏ ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر‏:‏

وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى ***

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير -وقال أبو سعيد‏:‏ حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها‏؟‏ قال‏:‏ فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏توضأ ثم صَلِّ‏"‏‏.‏ قال معاذ‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بل للمؤمنين عامة‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي من حديث زائدة به، وقال‏:‏ ليس بمتصل‏.‏ وأخرجه النسائي من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا‏.‏

قالوا‏:‏ فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها‏.‏ وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصدِّيق ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له‏"‏ الحديث، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله‏:‏ ‏{‏ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ‏[‏وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ‏]‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏135‏]‏‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال‏:‏ عنى الله بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم قال‏:‏ حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت‏:‏ من هي إلا أنت‏؟‏ فضحكت‏.‏ وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم، عن وكيع، به‏.‏

ثم قال أبو داود‏:‏ روي عن الثوري أنه قال‏:‏ ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ، وقال يحيى القطَّان لرجل‏:‏ احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء‏.‏وقال الترمذي‏:‏ سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال‏:‏ حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة‏.‏

وقد وقع في رواية ابن ماجه‏:‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة‏.‏

وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير، ويشهد له قوله‏:‏ من هي إلا أنت، فضحكت‏.‏

لكن روى أبو داود، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني، عن عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش قال‏:‏ حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره، والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير أيضا‏:‏ حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ، عن شهاب بن عبَّاد، حدثنا مَنْدَل بن علي، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة -وعن أبي رَوْق، عن إبراهيم التَّيمي، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي روق الهمْدَاني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ‏.‏

‏[‏و‏]‏ رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان -زاد أبو داود‏:‏ وابن مهدي- كلاهما عن سفيان الثوري به‏.‏ ثم قال أبو داود، والنسائي‏:‏ لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة‏.‏

وقال ابن جرير أيضا‏:‏ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن سِنَان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غِياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن فُضَيل، عن حجاج بن أَرْطَاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية‏:‏ أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم‏.‏ وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو في الصحيحين، من حديث عِمران بن حصين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال‏:‏ ‏"‏يا فلان، ما منعك أن تصلي مع القوم‏؟‏ ألست برجل مسلم‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏عليك بالصعيد، فإنه يكفيك‏"‏‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ فالتيمم في اللغة هو‏:‏ القصد‏.‏ تقول العرب‏:‏ تيممك الله بحفظه، أي‏:‏ قصدك‏.‏ ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وَلَمَّا رَأتْ أنَّ المَنِية ورِدُها *** وأن الحصَى من تحت أقدامها دَام

تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام

والصعيد قيل‏:‏ هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات، وهو قول مالك‏.‏ وقيل‏:‏ ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ، والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ هو التراب فقط، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ ترابا أملس طيبا، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه‏.‏

والطيب هاهنا قيل‏:‏ الحلال‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ليس بنجس‏.‏ كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده، فليمسه بَشرته، فإن ذلك خير له‏"‏‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏:‏ وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أطيب الصعيد تراب الحرث‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ‏}‏ التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال‏.‏

أحدها -وهو مذهب الشافعي في الجديد-‏:‏ أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة‏:‏ ‏{‏فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ قالوا‏:‏ وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية‏.‏ وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏التيمم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين‏"‏‏.‏ ولكن لا يصح؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم وروى أبو داود عن ابن عمر -في حديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه‏.‏

ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي‏:‏ هو الصواب‏.‏ وقال البيهقي‏:‏ رفع هذا الحديث منكر ‏.‏

واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصَّمَّة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حَمَّاد، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عُقْبة، عن الأعرج، عن أبي جُهيم قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى فرغ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو القول القديم للشافعي‏.‏

والثالث‏:‏ أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة؛ قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذَرّ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه؛ أن رجلا أتى عمر فقال‏:‏ إني أجنبت فلم أجد ماء‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا تصل‏.‏ فقال عمار‏:‏ أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك‏"‏‏.‏ وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا عفَّان، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، عن عمار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم‏:‏ ‏"‏ضربة للوجه والكفين‏"‏‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال‏:‏ كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله‏:‏ لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ لا‏.‏ فقال أبو موسى‏:‏ أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر‏:‏ ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل، فأصابتني جنابة، فتمرغت في التراب‏؟‏ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك وقال‏:‏ ‏"‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا‏"‏، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ لا جرم، ما رأيت عمر قنع بذاك قال‏:‏ فقال له أبو موسى‏:‏ فكيف بهذه الآية في سورة النساء‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ فما درى عبد الله ما يقول، وقال‏:‏ لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم‏.‏

وقال تعالى في آية المائدة‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏،استدل بذلك الشافعي، رحمه الله تعالى، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة‏:‏ أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي‏:‏ في الدين الذي شَرَعه لكم ‏{‏وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد ‏{‏وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي‏:‏ نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل -وفي لفظ‏:‏ فعنده طَهُورُه مسجده- وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة‏"‏‏.‏

وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم‏:‏ ‏"‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء‏"‏‏.‏

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ أي‏:‏ ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء، فإن الله، عز وجل، قد أرخص في التيمم والحالة هذه، رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة‏.‏

ذكر سبب نزول مشروعية التيمم‏:‏

وإنما ذكرنا ذلك هاهنا؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد، يقال‏:‏ في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هاهنا، وبالله الثقة‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة‏:‏ جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا في البيداء -أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا‏:‏ ألا ترى ما صنعت عائشة‏؟‏ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء‏!‏ فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال‏:‏ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء‏!‏ قالت عائشة‏:‏ فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير‏:‏ ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر‏.‏ قالت‏:‏ فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته‏.‏

وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل‏.‏ ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح قال‏:‏ قال ابن شهاب‏:‏ حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار، فحبس الناس ابتغاء عقدها، وذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط‏.‏

وقد رواه ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا صيفى، عن ابن أبي ذئب،‏]‏عن الزُّهْرى‏[‏ عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر فتغيّظ أبو بكر على عائشة‏]‏رضي الله عنها‏[‏ فنزلت عليه الرخصة‏:‏ المسح بالصعيد الطيب‏.‏ فدخل أبو بكر فقال لها‏:‏ إنك لمباركة‏!‏ نزلت فيك رخصة‏!‏ فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العلاء بن أبي سوية، حدثني الهيثم عن زُرَيق المالكي -من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبع عشرة سنة- عن أبيه، عن الأسلع بن شريك قال‏:‏ كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت‏.‏ ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال‏:‏ ‏"‏يا أسلع، مالي أرى رحلتك تغيرت‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال‏:‏ ‏"‏ولم‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ إني أصابتني جنابة، فخشيت القُرَّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ‏[‏وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم‏]‏ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ وقد روي من وجه آخر عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏

يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُوا السَّبِيلَ‏}‏ أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع‏.‏

‏{‏وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هو يعلم بهم ويحذركم منهم ‏{‏وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ ‏"‏من‏"‏ هذه لبيان الجنس كقوله‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ‏}‏ أي‏:‏ يتأولون على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله، عز وجل، قصدا منهم وافتراء ‏{‏وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا‏}‏ أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه‏.‏ هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم، أنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة‏.‏

وقوله ‏{‏وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ أي‏:‏ اسمع ما نقول، لا سمعت‏.‏ رواه الضحاك عن ابن عباس‏.‏ وقال مجاهد والحسن‏:‏ واسمع غير مقبول منك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والأول أصح‏.‏ وهو كما قال‏.‏ وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة الله‏[‏والملائكةالناس أجمعين‏]‏

أي‏:‏ يوهمون أنهم يقولون‏:‏ راعنا سمعك بقولهم‏:‏ ‏"‏راعنا‏"‏ وإنما يريدون الرعونة‏.‏ وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏104‏]‏‏.‏

ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه‏:‏ ‏{‏لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ‏}‏ يعني‏:‏ بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏88‏]‏ والمقصود‏:‏ أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ‏}‏

يقول تعالى -آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهددا لهم أن يفعلوا، بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه‏:‏ من قبل أن نطمس وجوها‏.‏ طمسها هو ردها إلى الأدبار، وجعل أبصارهم من ورائهم‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار‏.‏

قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا‏}‏ وطمسها أن تعمى ‏{‏فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ يقول‏:‏ نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه‏.‏

وكذا قال قتادة، وعطية العوفي‏.‏ وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ‏.‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ‏[‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ‏]‏ ‏[‏يس 8، 9‏]‏ إن هذا مثل ‏[‏سوء‏]‏ ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا‏}‏ يقول‏:‏ عن صراط الحق، فنردها على أدبارهم، أي‏:‏ في الضلالة‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن ابن عباس، والحسن نحو هذا‏.‏

قال السدي‏:‏ ‏{‏فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ فنمنعها عن الحق، قال‏:‏ نرجعها كفارا ونردهم قردة‏.‏

وقال ابن زيد نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز‏.‏

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، قال ابن جرير‏:‏

حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال‏:‏ تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال‏:‏ أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال‏:‏ يا كعب، أسلم، قال‏:‏ ألستم تقرؤون في كتابكم ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ‏[‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ‏]‏ أَسْفَارًا‏}‏ وأنا قد حملت التوراة‏.‏ قال‏:‏ فتركه عمر‏.‏ ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلا من أهلها حزينا، وهو يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ الآية‏.‏ قال كعب‏:‏ يا رب آمنت، يا رب، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر، فقال‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال‏:‏ كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فبعثه إليه ينظر أهو هو‏؟‏ قال كعب‏:‏ فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن، يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا‏}‏ فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ‏}‏ يعني‏:‏ الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ إذا أمر بأمر، فإنه لا يخالف ولا يمانع‏.‏

ثم أخبر تعالى‏:‏ أنه ‏{‏لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ من الذنوب ‏{‏لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من عباده‏.‏

وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر‏:‏

الحديث الأول‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، أخبرنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الدواوين عند الله ثلاثة؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله‏.‏ فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏72‏]‏ وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها؛ فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء‏.‏ وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا؛ القصاص لا محالة‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده‏:‏ حدثنا أحمد بن مالك، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النمري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله‏:‏ فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏13‏]‏وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض‏"‏‏.‏

الحديث الثالث‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس قال‏:‏ سمعت معاوية يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا‏"‏‏.‏ رواه النسائي، عن محمد بن مثنى، عن صفوان بن عيسى، به‏.‏

الحديث الرابع‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يقول‏:‏ يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، يا عبدي، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

الحديث الخامس‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا حسين، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه، أن أبا الأسود الديلي حدثه، أن أبا ذر حدثه قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ما من عبد قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة‏"‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن زنى وإن سرق‏"‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن زنى وإن سرق‏"‏‏.‏ ثلاثا، ثم قال في الرابعة‏:‏ ‏"‏على رغم أنف أبي ذر‏"‏‏!‏ قال‏:‏ فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر‏"‏‏.‏ وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر‏.‏ أخرجاه من حديث حسين، به‏.‏

طريق أخرى عنه‏:‏ قال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال‏:‏ ‏"‏كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء، ونحن ننظر إلى أحد، فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ لبيك يا رسول الله، ‏[‏قال‏]‏ ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده -يعني لدين- إلا أن أقول به في عباد الله هكذا‏"‏‏.‏ وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره‏.‏ قال‏:‏ ثم مشينا فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا‏"‏‏.‏ فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره‏.‏ قال‏:‏ ثم مشينا فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فانطلق حتى توارى عني‏.‏ قال‏:‏ فسمعت لغطا فقلت‏:‏ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له‏.‏ قال فهممت أن أتبعه، ثم ذكرت قوله‏:‏ ‏"‏لا تبرح حتى آتيك‏"‏ فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال‏:‏ ‏"‏ذاك جبريل أتاني فقال‏:‏ من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن زنى وإن سرق‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به‏.‏

وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما، عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال‏:‏ خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، ليس معه إنسان، قال‏:‏ فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد‏.‏ قال‏:‏ فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال‏:‏ ‏"‏من هذا‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ أبو ذر، جعلني الله فداك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏يا أبا ذر، تعال‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فمشيت معه ساعة فقال‏:‏ ‏"‏إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيرا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فمشيت معه ساعة فقال لي‏:‏ ‏"‏اجلس هاهنا‏"‏، قال‏:‏ فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي‏:‏ ‏"‏اجلس هاهنا حتى أرجع إليك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل، وهو يقول‏:‏ ‏"‏وإن سرق وإن زنى‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فلما جاء لم أصبر حتى قلت‏:‏ يا نبي الله، جعلني الله فداءك، من تكلمفي جانب الحرة‏؟‏ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ذاك جبريل، عرض لي من جانب الحرة فقال‏:‏ بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة‏.‏ قلت‏:‏ يا جبريل، وإن سرق وإن زنى‏؟‏ قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ وإن سرق وإن زنى‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ وإن سرق وإن زنى‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وإن شرب الخمر‏"‏‏.‏

الحديث السادس‏:‏ قال عبد بن حميد في مسنده‏:‏ أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ما الموجبتان ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار‏"‏‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏ تفرد به من هذا الوجه‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي، حدثنا موسى بن عبيدة، الربذي، أخبر عبد الله بن عبيدة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من حديث موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ يا نبي الله، وما الحجاب‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الإشراك بالله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، إن يشأ أن يعذبها، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها‏"‏‏.‏ ثم قرأ نبي الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

الحديث السابع‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة‏"‏‏.‏

تفرد به من هذا الوجه‏.‏

الحديث الثامن‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عبد الله بن ناشر من بني سريع قال‏:‏ سمعت أبا رهم قاصن أهل الشام يقول‏:‏ سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم، فقال لهم‏:‏ ‏"‏إن ربكم، عز وجل، خيرنيبين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا بغير حساب، وبين الخبيئة عنده لأمتي‏"‏‏.‏ فقال له بعض أصحابه‏:‏ يا رسول الله، أيخبأ ذلك ربك‏؟‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر، فقال‏:‏ ‏"‏إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده‏"‏ قال أبو رهم‏:‏ يا أبا أيوب، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأكله الناس بأفواههم فقالوا‏:‏ وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ فقال أبو أيوب‏:‏ دعوا الرجل عنكم، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن، بل كالمستيقن‏.‏ إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة‏"‏‏.‏

الحديث التاسع‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني، حدثنا عيسى بن يونس‏(‏ح‏)‏ وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني -فيما كتب إلي- قال‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس نفسه، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب الأنصاري قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وما دينه‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ يصلي ويوحد الله تعالى‏.‏ قال ‏"‏استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه‏"‏‏.‏ فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ وجدته شحيحا في دينه‏.‏ قال‏:‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

الحديث العاشر‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا عمرو بن الضحاك، حدثنا أبي، حدثنا مستور أبو همام الهنائي، حدثنا ثابت عن أنس قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله‏؟‏‏"‏ ثلاث مرات‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإن ذلك يأتي على ذلك كله‏"‏‏.‏

الحديث الحادي عشر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس اليمامي قال‏:‏ قال لي أبو هريرة‏:‏ يا يمامي لا تقولن لرجل‏:‏ والله لا يغفر الله لك‏.‏ أو لا يدخلك الجنة أبدا‏.‏ قلت‏:‏ يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال‏:‏ لا تقلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول‏:‏ يا هذا أقصر‏.‏ فيقول‏:‏ خلني وربي‏!‏ أبعثت علي رقيبا‏؟‏ قال‏:‏ إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه، فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ أقصر‏!‏ قال‏:‏ خلني وربي‏!‏ أبعثت علي رقيبا‏؟‏ فقال‏:‏ واللهلا يغفر الله لك -أو لا يدخلك الجنة أبدا- قال‏:‏ فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب‏:‏ اذهب فادخل الجنة برحمتي‏.‏ وقال للآخر‏:‏ أكنت بي عالما‏؟‏ أكنت على ما في يدي قادرا‏؟‏ اذهبوا به إلى النار‏.‏ قال‏:‏ فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، من حديث عكرمة بن عمار، حدثني ضمضم بن جوش، به‏.‏

الحديث الثاني عشر‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال الله عز وجل‏:‏ من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئا‏"‏‏.‏

الحديث الثالث عشر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى ‏[‏الموصلي‏]‏ حدثنا هدبة -هو ابن خالد- حدثنا سهل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار‏"‏‏.‏ تفردا به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا بحر بن نصر الخولاني، حدثنا خالد -يعني ابن عبد الرحمن الخراساني- حدثنا الهيثم بن جمار عن سلام بن أبي مطيع، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال‏:‏ كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور، حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة‏.‏

ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم أيضا‏:‏ حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري حدثنا عبد الله بن عاصم، حدثنا صالح -يعني المري أبو بشر- عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب، حتى نزلت علينا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ قال‏:‏ فلما سمعناها كففنا عن الشهادة، وأرجينا الأمور إلى الله، عز وجل‏.‏

وقال البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا حرب بن سُرَيج، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏ قال‏:‏ كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة‏"‏‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، أخبرني مجبر، عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ‏[‏إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏]‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، قام رجل فقال‏:‏ والشرك بالله يا نبي الله‏؟‏ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏ وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر‏.‏

وهذه الآية التي في سورة ‏"‏تنزيل‏"‏ مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏أي‏:‏ بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك، لأنه، تعالى، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء، أي‏:‏ وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏ كقوله ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏13‏]‏، وثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله ندا وهو خلقك‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن، حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين؛ أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أخبركم بأكبر الكبائر‏:‏ الشرك بالله‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا‏}‏ وعقوق الوالدين‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏