فصل: تفسير الآيات رقم (49 - 52)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 52‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا‏}‏

قال الحسن وقتادة‏:‏ نزلت هذه الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ في اليهود والنصارى، حين قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏

وقال ابن زيد‏:‏ نزلت في قولهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏18‏]‏، وفي قولهم‏:‏ ‏{‏وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إَلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏111‏]‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم‏.‏ وكذا قال عكرمة، وأبو مالك‏.‏ روى ذلك ابن جرير‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم‏}‏ وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة، وسيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله على محمد ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا ابن حمير، عن ابن لهيعة، عن بشر بن أبي عمرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب‏.‏ وكذبوا‏.‏ قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له‏"‏ وأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏

ثم قال‏:‏ وروى عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، وعكرمة، والضحاك -نحو ذلك‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ قالوا‏:‏ ليس لنا ذنوب، كما ليس لأبنائنا ذنوب‏.‏ فأنزل الله ذلك فيهم‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في ذم التمادح والتزكية‏.‏

وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم، عن المقداد بن الأسود قال‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب‏.‏

وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل، فقال‏:‏ ‏"‏ويحك‏.‏ قطعت عنق صاحبك‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل‏:‏ أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ من قال‏:‏ أنا مؤمن، فهو كافر‏.‏ ومن قال‏:‏ هو عالم، فهو جاهل‏.‏ ومن قال‏:‏ هو في الجنة، فهو في النار‏.‏ ورواه ابن مردويه، من طريق موسى بن عبيدة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، عن عمر أنه قال‏:‏ إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال‏:‏ إنه مؤمن، فهو كافر، ومن قال‏:‏ إنه عالم فهو جاهل، ومن قال‏:‏ إنه في الجنة، فهو في النار‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، أنبأنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن معبد الجهني قال‏:‏ كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ ‏"‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح‏"‏‏.‏

وروى ابن ماجه منه‏:‏ ‏"‏إياكم والتمادح فإنه الذبح‏"‏ عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة به‏.‏ ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له‏:‏ والله إنك كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله‏.‏ ثم قرأ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏32‏]‏‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ المرجع في ذلك إلى الله، عز وجل لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا‏}‏ أي‏:‏ ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف‏:‏ هو ما يكون في شق النواة‏.‏

وعن ابن عباس أيضا‏:‏ هو ما فتلت بين أصابعك‏.‏ وكلا القولين متقارب‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏}‏ أي‏:‏ في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏111‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏80‏]‏واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال

الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ‏[‏وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏141‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ وكفى بصنعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ أما ‏"‏الجبت‏"‏ فقال محمد بن إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ السحر، و‏"‏الطاغوت‏"‏‏:‏ الشيطان‏.‏

وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي‏.‏

وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، ‏[‏وأبي مالك‏]‏ وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏ الشيطان -زاد ابن عباس‏:‏ بالحبشية‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ الشرك‏.‏ وعنه‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ الأصنام‏.‏

وعن الشعبي‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ الكاهن‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ حيي بن أخطب‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏‏:‏ كعب بن الأشرف‏.‏

وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه ‏"‏الصحاح‏"‏‏:‏ ‏"‏الجبت‏"‏ كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏الطيرة والعيافة والطرق من الجبت‏"‏ قال‏:‏ وهذا ليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي‏.‏

وهذا الحديث الذي ذكره، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا، عوف عن حيان أبي العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه -وهو قبيصة بن مخارق- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت‏"‏ وقال عوف‏:‏ ‏"‏العيافة‏"‏‏:‏ زجر الطير، و‏"‏الطرق‏"‏‏:‏ الخط، يخط في الأرض، و‏"‏الجبت‏"‏ قال الحسن‏:‏ إنه الشيطان‏.‏

وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي، به

وقد تقدم الكلام على ‏"‏الطاغوت‏"‏ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن ‏"‏الطواغيت‏"‏ فقال‏:‏ هم كهان تنزل عليهم الشياطين‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏الطاغوت‏"‏‏:‏ الشيطان في صورة إنسان، يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم‏.‏

وقال الإمام مالك‏:‏ ‏"‏الطاغوت‏"‏‏:‏ هو كل ما يعبد من دون الله، عز وجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال‏:‏ جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم‏:‏ أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا‏:‏ ما أنتم وما محمد‏.‏ فقالوا‏:‏ نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج -ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنتم خير وأهدى سبيلا‏.‏فأنزل الله ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ ‏[‏الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا‏]‏‏.‏ وقد روي هذا من غير وجه، عن ابن عباس وجماعة من السلف‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش‏:‏ ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه‏؟‏ يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية‏!‏ قال‏:‏ أنتم خير‏.‏ قال فنزلت ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏3‏]‏ ونزل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ إلى ‏{‏نَصِيرًا‏}‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس‏.‏ فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فسلوهم‏:‏ أدينكم خير أم دين محمد‏؟‏ فسألوهم، فقالوا‏:‏ بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ ‏[‏الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا‏.‏ أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا‏]‏ إلى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏}‏‏.‏ وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏25‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 57‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ‏}‏‏؟‏‏!‏ وهذا استفهام إنكار، أي‏:‏ ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس -ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ولا ما يملأ ‏"‏النقير‏"‏، وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين‏.‏

وهذه الآية كقوله تعالى ‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏100‏]‏ أي‏:‏ خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏100‏]‏ أي‏:‏ بخيلا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ يعني بذلك‏:‏ حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل‏.‏

قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع، عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ‏[‏عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه‏]‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل -الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوة، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن -وهي الحكمة- وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ كفر به وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل‏؟‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ‏}‏ فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين‏.‏

ولهذا قال متوعدا لهم‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا‏}‏ أي‏:‏ وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56 - 57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا‏}‏

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا ‏[‏سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا‏]‏‏}‏ الآية، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم‏.‏ ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، فقال‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ‏}‏ قال ‏[‏الأعمش، عن ابن عمر‏]‏ إذا احرقت جلودهم بدلوا جلودًا بيضا أمثال القراطيس‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال يحيى بن يزيد الحضرمي إنه بلغه في قول الله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ‏}‏ قال‏:‏ يجعل للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ‏[‏بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏]‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة‏.‏ قال حسين‏:‏ وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن‏:‏ كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم‏:‏ عودوا فعادوا‏.‏

وقال أيضا‏:‏ ذكر عن هشام بن عمار‏:‏ حدثنا سعيد بن يحيى -يعني سعدان- حدثنا نافع، مولى يوسف السلمي البصري، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قرأ رجل عند عمر هذه الآية‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا‏}‏ فقال عمر‏:‏ أعدها علي فأعادها، فقال معاذ بن جبل‏:‏ عندي تفسيرها‏:‏ تبدل في ساعة مائة مرة‏.‏ فقال عمر‏:‏ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رواه ابن مردويه، عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن عبدان بن محمد المروزي، عن هشام بن عمار، به‏.‏ ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال‏:‏ حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمران، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع أبو هرمز، حدثنا نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ تلا رجل عند عمر هذه الآية‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ‏[‏بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ‏]‏ الآية، قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ أعدها على -وثم كعب- فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، أنا عندي تفسير هذه الآية، قرأتها قبل الإسلام، قال‏:‏ فقال‏:‏ هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك، وإلا لم ننظر إليها‏.‏ فقال‏:‏ إني قرأتها قبل الإسلام‏:‏ ‏"‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه تسعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها‏.‏

وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثنا أبو يحيى الطويل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ سرابيلهم‏.‏ حكاه ابن جرير، وهو ضعيف؛ لأنه خلاف الظاهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن، التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ من الحيض والنفاس والأذى‏.‏ والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، كما قال ابن عباس‏:‏ مطهرة من الأقذار والأذى‏.‏ وكذا قال عطاء، والحسن، والضحاك، والنخعي، وأبو صالح، وعطية، والسدي‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد‏.‏

وقال قتادة‏:‏ مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن جعفر -قالا حدثنا شعبة قال‏:‏ سمعت أبا الضحاك يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏

يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏"‏‏.‏ رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله، عز وجل، على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك‏.‏ فأمر الله، عز وجل، بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة -وإن كان قد قتل في سبيل الله- فيقال‏:‏ أد أمانتك‏.‏ فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا‏؟‏ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه‏.‏ قال‏:‏ فتنزل عن عاتقه، فيهوي على أثرها أبد الآبدين‏.‏ قال زاذان‏:‏ فأتيت البراء فحدثته فقال‏:‏ صدق أخي‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏.‏

وقال‏:‏ سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى عن رجل، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ هي مبهمة للبر والفاجر‏.‏ وقال محمد بن الحنفية‏:‏ هي مسجلة للبر والفاجر‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ قال أبي بن كعب‏:‏ من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏

قال‏:‏ يدخل فيه وعظ السلطان النساء‏.‏ يعني يوم العيد‏.‏ وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري، حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا‏.‏ وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح، ثم رده عليه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح‏:‏ حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال ‏"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانه البيت وسقاية الحاج‏"‏‏.‏ وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، إلى أن قال‏:‏ ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال‏:‏ يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أين عثمان بن طلحة‏؟‏‏"‏ فدعي له، فقال له‏:‏ ‏"‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر‏"‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثني القاسم حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج ‏[‏قوله‏:‏ ‏{‏إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏‏]‏ قال‏:‏ نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه فدعا عثمان إليه، فدفع إليه المفتاح، قال‏:‏ وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية‏:‏ فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك‏.‏

حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال‏:‏ دفعه إليه وقال‏:‏ أعينوه‏.‏

وروى ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ قال‏:‏ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحةابن أبي طلحة، فلما أتاه قال‏:‏ ‏"‏أرني المفتاح‏"‏‏.‏ فأتاه به، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال‏:‏ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية‏.‏ فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أرني المفتاح يا عثمان‏"‏‏.‏ فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏يا عثمان، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ هاك بأمانة الله‏.‏ قال‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما للمشركين قاتلهم الله‏.‏ وما شأن إبراهيم وشأن القداح‏"‏‏.‏ ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، هذه القبلة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل، فيما ذكر لنا برد المفتاح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ حتى فرغ من الآية‏.‏

وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية‏:‏ هي للبر والفاجر، أي‏:‏ هي أمر لكل أحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ‏}‏ أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب‏:‏ إنما نزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ، فإذا جار وكله إلى نفسه‏"‏ وفي الأثر‏:‏ عدل يوم كعبادة أربعين سنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ سميعا لأقوالكم، بصيرا بأفعالكم، كما قال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ هذه الآية ‏{‏سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ يقول‏:‏ بكل شيء بصير‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني، أنبأنا المقرئ -يعني أبا عبد الرحمن- عبد الله بن يزيد، حدثنا حرملة -يعني ابن عمران التجيبي المصري- حدثنا أبو يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول‏:‏ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه‏.‏ قال أبو زكريا‏:‏ وصفه لنا المقري، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا فقال‏:‏ هكذا وهكذا‏.‏

رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه في تفسيره، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده -نحوه وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة، واسمه سُلَيْم بن جُبَير‏.‏