فصل: تفسير الآيات رقم (71 - 74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏

يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله‏.‏

‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات‏:‏ جمع ثُبَة، وقد تجمع الثبة على ثُبين‏.‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ عُصبا يعني‏:‏ سرايا متفرقين ‏{‏أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ كلكم‏.‏

وكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومُقاتل بن حَيَّان، وخُصَيف الجَزَري‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ‏}‏ قال مجاهد وغير واحد‏:‏ نزلت في المنافقين، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ‏{‏ليبطئن‏}‏ أي‏:‏ ليتخلفن عن الجهاد‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول -قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه‏.‏ وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قتل وشهادة وغلب العدو لكم، لما لله في ذلك من الحكمة ‏{‏قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ إذ لم أحضر معهم وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نصر وظفر وغنيمة ‏{‏لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَه مَوَدَّةٌ‏}‏ أي‏:‏كأنه ليس من أهل دينكم ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه‏.‏ وهو أكبر قصده وغاية مراده‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ‏}‏ أي‏:‏ المؤمن النافر ‏{‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ كل من قاتل في سبيل الله -سواء قتل أو غَلَب وسَلَب- فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله، إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75 - 76‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا‏}‏

يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ‏}‏ يعني‏:‏ مكة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ سخر لنا من عندك وليا وناصرا‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عبيد الله قال‏:‏ سمعت ابن عباس قال‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين‏.‏

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن ‏[‏أبي‏]‏ مُلَيْكَة أن ابن عباس تلا ‏{‏إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ‏}‏ قال‏:‏ كنت أنا وأمي ممن عَذَرَ الله عز وجل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ‏}‏ أي‏:‏ المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان‏.‏

ثم هَيَّجَ تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 79‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام -وهم بمكة -مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها‏:‏ قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا‏.‏ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جَزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويُتْم الأبناء، وتأيّم النساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ‏[‏رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ‏]‏‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن، عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا‏:‏ يا نبي الله، كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم‏"‏‏.‏ فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ‏[‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏]‏ الآية‏.‏ ورواه النسائي، والحاكم، وابن مَرْدُويه، من حديث علي بن الحسن بن شَقِيق، به‏.‏

وقال أسباط، عن السدي‏:‏ لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال‏:‏ ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ وهو الموت، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى‏}‏ وعن مجاهد‏:‏ إن هذه الآيات نزلت في اليهود‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى‏}‏ أي‏:‏ آخرة المتقي خير من دنياه‏.‏

‏{‏وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا‏}‏ أي‏:‏ من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء‏.‏ وهذه تسلية لهم عن الدنيا‏.‏ وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام قال‏:‏ قرأ الحسن‏:‏ ‏{‏قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ‏}‏ قال‏:‏ رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، ما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة، فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه‏.‏ وقال ابن مَعين‏:‏ كان أبو مُسْهِر ينشد‏:‏

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** مِنَ الله في دار المقام نَصيب

فإن تُعْجب الدنيا رجَالا فإنها *** مَتَاع قليل والزّوَال قريب

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ أي‏:‏ أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏[‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ‏]‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26، 27‏]‏ وقال تعالى ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ والمقصود‏:‏ أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما، وأمدا مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه‏:‏ لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ أي‏:‏ حصينة منيعة عالية رفيعة‏.‏ وقيل‏:‏ هي بروج في السماء‏.‏ قاله السدي، وهو ضعيف‏.‏ والصحيح‏:‏ أنها المنيعة‏.‏ أي‏:‏ لا يغني حذر وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا *** ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم

ثم قيل‏:‏ ‏"‏المشَيَّدَة‏"‏ هي المَشِيدَة كما قال‏:‏ ‏"‏وَقَصْرٍ مَشِيدٍ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ وقيل‏:‏ بل بينهما فرق، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد، هي‏:‏ المطولة، وبالتخفيف هي‏:‏ المزينة بالشيد وهو الجص‏.‏

وقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد‏:‏ أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار، فخرج، فإذا هو برجل واقف على الباب، فقال‏:‏ ما ولدت المرأة‏؟‏ فقال‏:‏ جارية، فقال‏:‏ أما إنها ستزني بمائة رجل، ثم يتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت‏.‏ قال‏:‏ فَكَرَّ راجعا، فبعج الجارية بسكين في بطنها، فشقه، ثم ذهب هاربا، وظن أنها قد ماتت، فخاطت أمها بطنها، فبرئت وشبت وترعرعت، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك ‏[‏الأجير‏]‏ ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج، فقال لعجوز‏:‏ أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة‏.‏ فقالت له‏:‏ ليس هنا أحسن من فلانة‏.‏ فقال‏:‏ اخطبيها علي‏.‏ فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ‏؟‏ فأخبرها خبره، وما كان من أمره في هربه‏.‏ فقالت‏:‏ أنا هي‏.‏ وأرته مكان السكين، فتحقق ذلك فقال‏:‏ لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما، إحداهما‏:‏ أنك قد زنيت بمائة رجل‏.‏ فقالت‏:‏ لقد كان شيء من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم‏؟‏ فقال‏:‏ هم مائة‏.‏ والثانية‏:‏ أنك تموتين بالعنكبوت‏.‏ فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا، ليحرزها من ذلك، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف، فأراها إياها، فقالت‏:‏ أهذه التي تحذرها علي، والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها‏.‏

ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر، وهو ‏"‏الساطرون‏"‏ لما احتال عليه ‏"‏سابور‏"‏ حتى حصره فيه، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها‏:‏

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دج *** لة تُجْبَى إليه والخابور

شاده مَرْمَرا وجلله كلْ *** سا فللطير في ذُرَاه وُكُور

لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد ال *** مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور

ولما دخل على عثمان جعل يقول‏:‏ اللهم اجمع أمة محمد، ثم تمثل بقول الشاعر‏:‏

أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ *** لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا

يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ *** ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنىقول ابن عباس وأبي العالية والسدي ‏{‏يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك‏.‏ كما يقوله أبو العالية والسدي‏.‏ ‏{‏يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك‏.‏ كما قال تعالى عن قوم فرعون‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ‏[‏فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ‏]‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ والحسنة الخصب، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا‏:‏ ‏{‏هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ والسيئة‏:‏ الجدْب والضرر في أموالهم، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ ‏{‏هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ يقولون‏:‏ بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ فقوله ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الحسنة والسيئة‏.‏ وكذا قال الحسن البصري‏.‏

ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب‏.‏ وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم‏:‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏

ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا السَّكن بن سعيد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا إسماعيل بن حماد، عن مقاتل بن حَيَّان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لم ارتفعت أصواتكما‏؟‏‏"‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، قال أبو بكر‏:‏ الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فما قلت يا عمر‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ الحسنات والسيئات من الله‏.‏ تعالى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال‏:‏ نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض‏.‏ فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله‏"‏‏.‏ ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال ‏"‏احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس‏"‏‏.‏

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة‏:‏ هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة‏.‏ ثم قال تعالى -مخاطبًا -للرسول ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ فمن قبلك، ومن عملك أنت كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

قال السدي، والحسن البصري، وابن جُريج، وابن زيد‏:‏ ‏{‏فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ بذنبك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ عقوبة يا ابن آدم بذنبك‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر‏"‏‏.‏

وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه‏"‏‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ بذنبك، وأنا الذي قدرتها عليك‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سهل -يعني ابن بَكَّار -حدثنا الأسود بن شيبان، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال‏:‏ ما تريدون من القدر، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ من نفسك، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون‏.‏

وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا، ولبسطه موضع آخر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا‏}‏ أي‏:‏ تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه‏.‏

‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 81‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏

يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله،وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش، عن أبي صالح،

عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني‏"‏‏.‏

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، عن الأعمش به

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏ أي‏:‏ لا عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن تَبِعك سَعِد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ‏}‏ يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ‏{‏فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ خرجوا وتواروا عنك ‏{‏بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ‏}‏ أي‏:‏ استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين، الذين هم موكلون بالعباد‏.‏ يعلمون ما يفعلون‏.‏ والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ‏[‏ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏]‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تَخَفْ منهم أيضا ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ كفى به وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82 - 83‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ‏[‏أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏]‏ ‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ‏{‏لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ اضطرابا وتضادًّا كثيرًا‏.‏ أي‏:‏ وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله‏.‏ كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏ أي‏:‏ محكمه ومتشابهه حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول‏:‏ ‏"‏مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب، فقال لهم‏:‏ ‏"‏ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض‏؟‏ بهذا هلك من كان قبلكم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند، به نحوه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمْران الجَوْني قال‏:‏ كتب إلي عبد الله بن رَبَاح، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما فقال‏:‏ ‏"‏إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب‏"‏ ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن زيد، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ‏}‏ إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة‏.‏

وقد قال مسلم في ‏"‏مقدمة صحيحه‏"‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن حفص، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع‏"‏ وكذا رواه أبو داود في كتاب ‏"‏الأدب‏"‏ من سننه، عن محمد بن الحسين بن إشكاب، عن علي بن حفص، عن شعبة مسندًا ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري، وعبد الرحمن بن مهدي‏.‏ وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري، ثلاثتهم عن شعبة، عن خُبَيب عن حفص بن عاصم، به مرسلا‏.‏

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي‏:‏ الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت، ولا تَدبُّر، ولا تبَيُّن‏.‏

وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه‏"‏‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن‏"‏‏.‏ ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه‏:‏ أطلقت نساءك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏ فقلت الله أكبر‏.‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏

وعند مسلم‏:‏ فقلت‏:‏ أطلقتهن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي‏:‏ لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه‏.‏ ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر‏.‏

يستنبطونه - ومعنى قوله‏:‏‏(‏يستنبطونه‏)‏ أي‏:‏ يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، يقال‏:‏ استنبط الرجل العين، إذا حفرها واستخرجها من قعورها‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني المؤمنين‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا‏}‏ يعني‏:‏ كلكم‏.‏ واستشهد من نصر هذا القول‏.‏ بقول الطرماح بن حكيم، في مدح يزيد بن المُهَلَّب‏:‏

أشَمَّ كثير يَدى النوال *** قليل المَثَالب والقَادحة

يعني‏:‏ لا مثالب له، ولا قادحة فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84 - 87‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏

يأمر تعالى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عليه فلا عليه منه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمرو بن نُبَيْح، حدثنا حَكَّام، حدثنا الجراح الكندي، عن أبي إسحاق قال‏:‏ سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو، فيقاتل، أيكون ممن يقول الله‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ قال‏:‏ قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏

ورواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، عن أبي بكر بن عيَّاش، عن أبي إسحاق قال‏:‏ قلت للبراء‏:‏ الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة‏؟‏ قال‏:‏ لا؛ لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏ إنما ذلك في النفقة‏.‏

وكذا رواه ابن مردُويه، من طريق أبي بكر بن عياش، وعلي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن البراء به‏.‏

ثم قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الْجَرْمِيّ، حدثنا محمد بن حِمْيَر، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ‏[‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏]‏ الآية، قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا‏"‏ حديث غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وهو يسوي الصفوف‏:‏ ‏"‏قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض‏"‏‏.‏

وقد وردت أحاديثُ كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نبشر الناسَ بذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة‏.‏ وأعلى الجنة،وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة‏"‏‏.‏

ورُوي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعُبادة نحو ذلك‏.‏

وعن أبي سعيد الخدْري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة‏"‏ قال‏:‏ فعجب لها أبو سعيد فقال‏:‏ أعدها عليَّ يا رسول الله‏.‏ ففعل‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏"‏ قال‏:‏ وما هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الجهاد في سبيل الله‏"‏ رواه مسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا‏}‏ أي‏:‏ هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مَنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ‏[‏وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ‏]‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من سعى في أمر، فترتب عليه خير، كان له نصيب من ذلك ‏{‏وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء‏"‏‏.‏

وقال مجاهد بن جَبْر‏:‏ نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يَشْفَعْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ من يُشَفَّع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا‏}‏ قال ابن عباس، وعطاء، وعطية، وقتادة، ومطر الوراق‏:‏ ‏{‏مُقِيتًا‏}‏ أي‏:‏ حفيظا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ شهيدا‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ حسيبا‏.‏ وقال سعيد بن جبير، والسدي، وابن زيد‏:‏ قديرا‏.‏ وقال عبد الله بن كثير‏:‏ المقيت‏:‏ الواصب وقال الضحاك‏:‏ المقيت‏:‏ الرزاق‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل، عن رجل، عن عبد الله بن رواحة، وسأله رجل عن قول الله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا‏}‏ قال‏:‏ يُقيت كلّ إنسان على قدر عمله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ أي‏:‏ إذا سلم عليكم المسلم، فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم ‏[‏به‏]‏ فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا عبد الله بن السَّري الأنطاكي، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سلمان الفارسي قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏وعليك السلام ورحمة الله‏"‏‏.‏ ثم أتى آخرفقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وعليك السلام ورحمة الله وبركاته‏"‏‏.‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له‏:‏ ‏"‏وعليك‏"‏ فقال له الرجل‏:‏ يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ فرددناها عليك‏"‏‏.‏

وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال‏:‏ ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي، حدثنا عبد الله بن السري -أبو محمد الأنطاكي -قال أبو الحسن‏:‏ وكان رجلا صالحا -حدثنا هشام بن لاحق، فذكر بإسناده مثله‏.‏

ورواه أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان، فذكره بمثله، ولم أره في المسند والله أعلم‏.‏

وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك، لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن كثير -أخو سليمان بن كثير -حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن أبي رجاء العُطَاردي، عن عمران بن حُصَين؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم فرد عليه ثم جلس، فقال‏:‏ ‏"‏عَشْرٌ‏"‏‏.‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ ‏"‏السلام عليكم ورحمة الله‏.‏ فرد عليه، ثم جلس، فقال‏:‏ ‏"‏عشرون‏"‏‏.‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏ فرد عليه، ثم جلس، فقال‏:‏ ‏"‏ثلاثون‏"‏‏.‏

وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير، وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه، ثم قال الترمذي‏:‏ حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حُنَيف ‏[‏رضي الله عنهم‏]‏‏.‏

وقال البزَّار‏:‏ قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، هذا أحسنها إسنادا وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح، عن سِمَاك، عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ من يسلم عليك من خلق الله، فاردد عليه وإن كان مجوسيا؛ ذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ للمسلمين ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ يعني‏:‏ لأهل الذمة‏.‏

وهذا التنزيل فيه نظر، بل كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام؛ رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبْدؤون بالسلام ولا يزادون، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم‏:‏ السام عليك فقل‏:‏ وعليك‏"‏‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه‏"‏‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري قال‏:‏ السلام تطوع، والرد فريضة‏.‏

وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة‏:‏ أن الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله في قوله‏:‏ ‏{‏فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ وقد جاء في الحديث الذي رواه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات، وتضمَّن قسما، لقوله‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ خبر وقَسَم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88 - 91‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏

يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بَهْز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت‏:‏ أخبرني عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين‏:‏ فرقة تقول‏:‏ نقتلهم‏.‏ وفرقة تقول‏:‏ لا فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنها طَيْبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة‏.‏

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ نزلت في قوم كانوا بمكة، قد تكلموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا‏:‏ إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين‏:‏ اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم‏.‏ وقالت فئة أخرى من المؤمنين‏:‏ سبحان الله‏!‏ أو كما قالوا‏:‏ أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به‏؟‏ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم‏.‏ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا‏.‏

وقال زيد بن أسلم، عن ابنٍ لسعد بن معاذ‏:‏ أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك‏.‏

وهذا غريب، وقيل غير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ ردهم وأوقعهم في الخطأ‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَرْكَسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أوقعهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أهلكهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ أضلهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبُوا‏}‏ أي‏:‏ بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل‏.‏

‏{‏أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً‏}‏ أي‏:‏ هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال السدي‏:‏ أظهروا كفرهم ‏{‏فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لا توالوهمولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك‏.‏

ثم استثنى الله، سبحانه من هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏}‏ أي‏:‏ إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم‏.‏ وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن الحسن‏:‏ أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال‏:‏ لما ظهر -يعني النبي صلى الله عليه وسلم -على أهل بدر وأُحُد، وأسلم من حولهم قال سراقة‏:‏ بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي -بني مُدْلج -فأتيته فقلت‏:‏ أَنْشُدُك النعمة‏.‏ فقالوا‏:‏ صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏دعوه، ما تريد‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن قلوب قومك عليهم‏.‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال‏:‏ ‏"‏اذهب معه فافعل ما يريد‏"‏‏.‏ فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، ‏[‏ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم‏]‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة، وقال فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏}‏ فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام‏.‏

وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم‏.‏

وقد روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نسخها قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ‏[‏حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏]‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ‏[‏أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ‏]‏ الآية، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي‏:‏ ضيقة صدورهم مُبْغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من لطفه بكم أن كفهم عنكم ‏{‏فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ‏}‏ أي‏:‏ المسالمة ‏{‏فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ فليس لكم أن تقتلوهم، ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر بأسره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ‏[‏كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا‏]‏ الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ‏[‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ انهمكوا فيها‏.‏

وقال السدّي‏:‏ الفتنة هاهنا‏:‏ الشرك‏.‏ وحكى ابن جرير، عن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن القتال ‏{‏فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أين لقيتموهم ‏{‏وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ بيِّنا واضحا‏.‏