فصل: فصل في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


فصل في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات‏:‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبد الله بن صالح، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح اللخمي، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن، فقال‏:‏ ‏"‏تعلموا كتاب الله واقتنوه‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وحسبت أنه قال‏:‏ ‏"‏وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل‏"‏‏.‏

وحدثنا عبد الله بن صالح، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا أنه قال‏:‏ ‏"‏واقتنوه وتغنوا به‏"‏ ولم يشك، وهكذا رواه أحمد والنسائي في فضائل القرآن، من حديث موسى بن علي، عن أبيه به ومن حديث عبد الله بن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح، عن عقبة، وفي بعض ألفاظه‏:‏ خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا، وذكر الحديث‏.‏ ففيه دلالة على السلام على القارئ‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا أبو اليمان، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن المهاصر بن حبيب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أهل القرآن، لا توسدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار، وتغنوه واقتنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون‏"‏ وهذا مرسل‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏تغنوه‏"‏‏:‏ يعني‏:‏ اجعلوه غناءكم من الفقر، ولا تعدوا الإقلال منه فقرا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏واقتنوه‏"‏، يقول‏:‏ اقتنوه، كما تقتنون الأموال‏:‏ اجعلوه مالكم‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ حدثني هشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي، حدثني إسماعيل ابن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏"‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول‏:‏ عن إسماعيل بن عبيد الله عن مولى فضالة عن فضالة، وهكذا رواه ابن ماجة، عن راشد بن سعيد بن أبي راشد، عن الوليد، عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن ‏[‏يجهر به‏]‏ من صاحب القينة إلى قينته‏"‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعني‏:‏ الاستماع‏.‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏ما أذن الله لشيء ‏"‏ أي‏:‏ ما استمع‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي مُلَيْكة، حدثنا القاسم بن محمد، حدثنا السائب قال‏:‏ قال لي سعد‏:‏ يا بن أخي، هل قرأت القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ غَنِّ به، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏غنوا بالقرآن، ليس منا من لم يغن بالقرآن، وابكوا، فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا‏"‏‏.‏

وقد روى أبو داود من حديث الليث وعمرو بن دينار كلاهما عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة، عن عبيد الله بن أبي نَهِيك، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجة من حديث ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن السائب، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن هذا القرآن نزل بحرف، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به، فمن لم يتغن به فليس منا‏"‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا سعيد بن حسان المخزومي، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عبد الله بن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏"‏‏.‏ ‏[‏قال وكيع‏:‏ يعني‏:‏ يستغنى به‏]‏‏.‏

ورواه أيضا عن الحجاج وأبي النضر، كلاهما عن الليث بن سعد، وعن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، كلاهما عن عبد الله بن أبي مليكة به‏.‏ وفي هذا الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه، والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا عبد الجبار بن الورد، سمعت ابن أبي مُلَيْكة، يقول‏:‏ قال عبيد الله بن أبي يزيد‏:‏ مرّ بنا أبو لُبَابة فاتَّبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه، فإذا رجل رَثُّ البيت، رَثُّ الهيئة، فانتسبنا له، فقال‏:‏ تجار كسبة، فسمعته يقول‏:‏ ‏"‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقلت لابن أبي مليكة‏:‏ يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال‏:‏ يحسنه ما استطاع‏.‏ تفرد به أبو داود‏.‏

فقد فهم من هذا أن السلف، رضي الله عنهم، إنما فهموا من التغني بالقرآن‏:‏ إنما هو تحسين الصوت به، وتحزينه، كما قاله الأئمة، رحمهم الله، ويدل على ذلك -أيضا- ما رواه أبو داود حيث قال‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عَوْسَجة، عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏زينوا القرآن بأصواتكم‏"‏‏.‏

وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث شعبة، عن طلحة وهو ابن مصرف به‏.‏

وأخرجه النسائي من طرق أخر عن طلحة وهذا إسناد جيد‏.‏

وقد وثق النسائي، وابن حبان عبد الرحمن بن عوسجة هذا، ونقل الأزدي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال‏:‏ سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يحمدونه‏.‏ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال‏:‏ نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث‏:‏ ‏"‏زينوا القرآن بأصواتكم‏"‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وإنما كره أيوب فيما نرى، أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الألحان المبتدعة، فلهذا أنهاه أن يحدث به‏.‏

قلت‏:‏ ثم إن شعبة روى الحديث متوكلا على الله، كما رُوي له، ولو ترك كل حديث بتأول مبطل لترك من السنة شيء كثير، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها على غير محاملها الشرعية المرادة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

والمراد من تحسين الصوت بالقرآن‏:‏ تطريبه وتحزينه والتخشع به، كما رواه الحافظ الكبير بَقِيّ بن مَخْلَد، حيث قال‏:‏ حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا‏.‏ ورواه مسلم من حديث طلحة به وزاد‏:‏ ‏"‏لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود‏"‏‏.‏ وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري، والغرض أن أبا موسى قال‏:‏ لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى كما قال، عليه السلام، قد أعطى صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء الله، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن الموصوفة، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال‏:‏ كان عمر إذا رأى أبا موسى قال‏:‏ ذكرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا سليمان التيمي، أنبئت عنه، حدثنا أبو عثمان النهدي قال‏:‏ كان أبو موسى يصلي بنا، فلو قلت‏:‏ إني لم أسمع صوت صنجٍ قط، ولا بربطٍ قط، ولا شيئًا قط أحسن من صوته‏.‏

وقال ابن ماجة‏:‏ حدثنا العباس بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء، ثم جئت فقال‏:‏ ‏"‏أين كنت‏؟‏‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت‏:‏ فقام فقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إلي فقال‏:‏ ‏"‏هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا‏"‏‏"‏‏.‏ إسناد جيد‏.‏

وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتًا أو قال‏:‏ قراءة منه‏.‏ وفي بعض ألفاظه‏:‏ فلما سمعته قرأ‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏، خلت أن فؤادي قد انصدع‏.‏ وكان جبير لما سمع هذا بعدُ مشركا على دين قومه، وإنما قدم في فداء الأساري بعد بدر، وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر‏!‏ وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان عن خشوع القلب، كما قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ليث، عن طاوس قال‏:‏ أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم لله‏.‏

حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، وعن الحسن بن مسلم، عن طاوس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أي الناس أحسن صوتًا بالقرآن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله‏"‏‏"‏‏.‏

وقد روى هذا متصلا من وجه آخر، فقال ابن ماجة‏:‏ حدثنا بشر بن معاذ الضرير، حدثنا عبد الله بن جعفر المديني، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتوه يقرأ حسبتموه يخشى الله ‏"‏ ولكن عبد الله بن جعفر هذا، وهو والد علي بن المديني، وشيخه ضعيفان، والله أعلم‏.‏

والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك، كما قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله‏:‏

حدثنا نعيم بن حماد، عن بَقِيَّة بن الوليد، عن حصين بن مالك الفزاري‏:‏ سمعت شيخًا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابيين، ويجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم‏"‏‏.‏

حدثنا يزيد، عن شريك، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن زاذان أبي عمر، عن عليم قال‏:‏ ‏"‏كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال يزيد‏:‏ لا أعلمه إلا قال‏:‏ عابس الغفاري، فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال‏:‏ ما هؤلاء‏؟‏ قالوا‏:‏ يفرون من الطاعون، فقال‏:‏ يا طاعون خذني، فقالوا‏:‏ تتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يتمنين أحدكم الموت‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ إني أبادر خصالا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته‏:‏ ‏"‏بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم ‏[‏به‏]‏ غناءً ‏"‏ وذكر خصلتين أخريين‏.‏

وحدثنا إبراهيم بن يعقوب، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن زاذان، عن عابس الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه‏.‏ وحدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن الأعمش، عن رجل، عن أنس بن مالك‏:‏ أنه سمع رجلا يقرأ القرآن بهذه الألحان التي أحدث الناس، فأنكر ذلك ونهى عنه‏.‏

هذه طرق حسنة في باب الترهيب، وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، رحمهم الله، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا روح، حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ وإنما ذكرناه لأنهم اختلفوا على ابن أبي مليكة فيه، فرواه ابن عبد الجبار بن الورد عنه عن أبي لبابة، ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبي نَهِيك عن سعد، ورواه عَسْل بن سفيان عنه، عن عائشة ورواه نافع مولى ابن عمر عنه، عن ابن الزبير‏.‏ اغتباط صاحب القرآن

حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني سالم بن عبد الله‏:‏ أن عبد الله بن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله الكتاب فقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار‏"‏‏.‏

انفرد به البخاري من هذا الوجه، واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهري ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن سليمان‏:‏ سمعت ذَكْوان، عن أبي هريرة؛ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار‏"‏، فسمعه جار له فقال‏:‏ ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل، ‏"‏ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق‏"‏، فقال رجل‏:‏ ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل‏"‏‏.‏

ومضمون هذين الحديثين‏:‏ أن صاحب القرآن في غبطة وهو حسن الحال، فينبغي أن يكون شديد الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك، يقال‏:‏ غبطه يغبِطه غبطًا‏:‏ إذا تمنى ما هو فيه من النعمة، وهذا بخلاف الحسد المذموم وهو تمني زوال نعمة المحسود عنه، سواء حصلت لذلك الحاسد أو لا وهذا مذموم شرعًا، مهلكٌ، وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم، عليه السلام، على ما منحه الله تعالى من الكرامة والاحترام والإعظام‏.‏ والحسد الشرعي الممدوح هو تمني مثل حال ذلك الذي هو على حالة سارة؛ ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين ‏"‏، فذكر النعمة القاصرة وهي تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال بالليل والنهار ‏"‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 29‏]‏، وقد روي نحو هذا من وجه آخر، فقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ وجدت في كتاب أبي بخط يده‏:‏ كتب إليّ أبو توبة الربيع بن نافع، فكان في كتابه‏:‏ حدثنا الهيثم بن حميد، عن زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مرة، عن يزيد بن الأخنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تنافس بينكم إلا في اثنتين‏:‏ رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ويتبع ما فيه، فيقول رجل‏:‏ لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأقوم كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفقه ويتصدق، فيقول رجل‏:‏ لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به‏"‏‏.‏ وقريب من هذا ما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبادة بن مسلم، حدثني يونس بن خباب، عن أبي سعيد البختري الطائي، عن أبي كبشة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، فأما الثلاث التي أقسم عليهن‏:‏ فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر، وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه، فإنه قال‏:‏ إنما الدنيا لأربعة نفر‏:‏ عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه، ويعمل لله فيه حقه‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول‏:‏ لو كان لي مال عملت بعمل فلان‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعمل لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول‏:‏ لو كان لي مال لفعلت بعمل فلان‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هي نيته فوزرهما فيه سواء‏"‏‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة الأنماري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر‏:‏ رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول‏:‏ لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول‏:‏ لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل‏"‏‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فهما في الوزر سواء‏"‏‏.‏ إسناد صحيح خيركم من تعلم القرآن وعلمه

حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مَرْثَد، سمعت سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خيركم من تعلم القرآن وعلمه‏"‏‏.‏ وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، رضي الله عنه، حتى كان الحجاج قال‏:‏

وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا‏.‏

وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى مسلم من رواية شعبة عن عَلْقَمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن وهو عبد الله بن حبيب السلمي -رحمه الله‏.‏

وحدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طرقٍ عن سفيان، عن علقمة، عن أبي عبد الرحمن، من غير ذكر سعد بن عبيدة كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه، وهذا المقام مما حكم لسفيان الثوري فيه على شعبة، وخطأ بُنْدَار يحيى بن سعيد في روايته ذلك عن سفيان، عن علقمة، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن وقال‏:‏ رواه الجماعة من أصحاب سفيان عنه، بإسقاط سعد بن عبيدة، ورواية سفيان أصحُ في هذا المقام المتعلق بصناعة الإسناد، وفي ذكره طول لولا الملالة لذكرناه، وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك، والله أعلم‏.‏

والغرض أنه، عليه الصلاة والسلام، قال‏:‏ ‏"‏خيركم من تعلم القرآن وعلمه ‏"‏ وهذه من صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمل في أنفسهم، المكملون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏]‏، في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏، فهذا شأن الكفار، كما أن شأن خيار الأبرار أن يكمل في نفسه وأن يسعى في تكميل غيره كما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏خيركم من تعلم القرآن وعلمه ‏"‏، وكما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏، فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة من تعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا، فلا أحد أحسن حالا من هذا‏.‏ وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي -أحد أئمة الإسلام ومشايخهم- من رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس في إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا‏:‏ وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة، رحمه الله، وآتاه الله ما طلبه ودامه‏.‏ آمين‏.‏

قال البخاري، رحمه الله‏:‏ حدثنا عمرو بن عون، حدثنا حماد عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ ‏"‏أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت‏:‏ إنها قد وهبت نفسها لله ورسوله، فقال‏:‏ ‏"‏ما لي في النساء من حاجة‏"‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ زوّجنيها قال‏:‏ ‏[‏‏"‏أعطها ثوبًا‏"‏، قال‏:‏ لا أجد، قال‏:‏ ‏"‏أعطها ولو خاتما من حديد‏"‏، فاعتل له، فقال‏]‏ ‏"‏ما معك من القرآن‏"‏‏.‏ قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏"‏‏.‏

وهذا الحديث متفق على إخراجه من طرق عديدة، والغرض منه أن الذي قصده البخاري أن هذا الرجل تعلم الذي تعلمه من القرآن، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه تلك المرأة، ويكون ذلك صداقا لها على ذلك، وهذا فيه نزاع بين العلماء، وهل يجوز أن يجعل مثل هذا صداقًا‏؟‏ أو هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن‏؟‏ وهل هذا كان خاصًا بذلك الرجل‏؟‏ وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏زوجتكها بما معك من القرآن‏"‏‏؟‏ أبسبب ما معك من القرآن‏؟‏ كما قاله أحمد بن حنبل‏:‏ نكرمك بذلك أو بعوض ما معك، وهذا أقوى، لقوله في صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏فعلمها‏"‏ وهذا هو الذي أراده البخاري هاهنا وتحرير باقي الخلاف مذكور في كتاب النكاح والإجارة، والله المستعان‏.‏ القراءة عن ظهر قلب

إنما أفرد البخاري في هذه الترجمة حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، الحديث الذي تقدم الآن، وفيه أنه، عليه السلام، قال لرجل‏:‏ ‏"‏فما معك من القرآن‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ معي سورة كذا وكذا، لسور عددها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أتقرؤهن عن ظهر قلبك‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن‏"‏‏.‏

وهذه الترجمة من البخاري، رحمه الله، مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل، والله أعلم‏.‏ ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة، كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه، واستدلوا على فضيلة التلاوة في المصحف بما رواه الإمام العلم أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن حيث قال‏:‏

حدثنا نعيم بن حماد، عن بقية بن الوليد، عن معاوية بن يحيى، عن سليم بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة‏"‏ وهذا الإسناد ضعيف فإن معاوية بن يحيى هو الصدفي أو الأطرابلسي، وأيهما كان فهو ضعيف‏.‏

وقال الثوري عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال‏:‏ أديموا النظر في المصحف‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس، عن عمر‏:‏ أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه‏.‏

وقال حماد أيضا‏:‏ عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن مسعود‏:‏ أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف، فقرؤوا، وفسر لهم‏.‏ إسناد صحيح‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ عن حجاج بن أرطاة، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال‏:‏ إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ‏.‏ وقال الأعمش عن خَيْثَمة‏:‏ دخلت على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف فقال‏:‏ هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة‏.‏

فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه، ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيتذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير، فالاستثبات أولى، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال، فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء، كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ القرآن، فأما عند العجز عمن يلقن فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فإذا قرأ في المصحف -والحالة هذه- فلا حرج عليه، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه، فقد قال الإمام أبو عبيد‏:‏ حدثني هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعي؛ أن رجلا صحبهم في سفر قال‏:‏ فحدثنا حديثا ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل ‏"‏‏.‏ وحدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني عن بكير بن الأخنس قال‏:‏ كان يقال‏:‏ إذا قرأ الأعجمي والذي لا يقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ المدار في هذه المسألة على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف قال الشيخ أبو زكريا النووي رحمه الله، في التبيان‏:‏ والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل‏.‏

تنبيه‏:‏

إن كان البخاري، رحمه الله، أراد بذكر حديث سهل للدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل منها في المصحف، ففيه نظر؛ لأنها قضية عين، فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فلا يدل على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل مطلقا في حق من يحسن ومن لا يحسن، إذ لو دل هذا لكان ذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته عن ظهر قلب -لأنه أمي لا يدري الكتابة- أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده‏.‏

الثاني‏:‏ أن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب؛ ليمكنه تعليمها لزوجته، وليس المراد هاهنا‏:‏ أن هذا أفضل من التلاوة نظرا، ولا عدمه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ استذكار القرآن وتعاهده‏.‏

حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت ‏"‏ هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك ‏[‏به‏]‏‏.‏ وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار، كمثل رجل له إبل، فإن عقلها حفظها، وإن أطلق عقالها ذهبت، فكذلك صاحب القرآن‏"‏‏.‏ أخرجاه، قاله ابن الجوزي في جامع المسانيد، وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به وحدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بئس ما لأحدهم أن يقول‏:‏ نسيت آية كيت وكيت، بل نُسِيَ، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصِّيًا من صدور الرجال من النَّعم‏"‏‏.‏

تابعه بشر‏.‏ هو ابن محمد السختياني، عن ابن المبارك، عن شعبة‏.‏

وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وأخرجه النسائي من رواية شعبة‏.‏

وحدثنا عثمان، حدثنا جرير، عن منصور مثله‏.‏ وتابعه ابن جريج عن عبدة، عن شقيق‏:‏ سمعت عبد الله قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن جريج به ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جحادة، عن عبدة وهو ابن أبي لُبَابة به‏.‏ وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير به وستأتي رواية البخاري له عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن منصور به، والنسائي من رواية ابن عيينة عن منصور به، فقد رواه هؤلاء عن منصور به مرفوعا في رواية هؤلاء كلهم وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله موقوفا وهذا غريب وفي مسند أبي يعلى فإنما هو نَسِي بالتخفيف‏.‏

حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تَفصِّيا من الإبل في عقلها‏"‏‏.‏ وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب محمد بن العلاء وعبد الله بن برادٍ الأشعري، كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا موسى بن علي‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت عقبة بن عامر يقول‏:‏ ‏[‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ ‏"‏ تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل‏"‏‏.‏

ومضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده؛ لئلا يعرضه حافظه للنسيان فإن ذلك خطر كبير، نسأل الله العافية منه، فإنه قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن رجل، عن سعد بن عبادة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من أمير عشرة إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه عن ذلك الغل إلا العدل، وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم القيامة يلقاه وهو أجذم‏"‏‏.‏

هكذا رواه جرير بن عبد الحميد، ومحمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، كما رواه خالد بن عبد الله‏.‏ وقد أخرجه أبو داود عن محمد بن العلاء عن ابن إدريس، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نسيان القرآن، ولم يذكر الرجل المبهم‏.‏

وكذا رواه أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، وقد رواه شعبة عن يزيد فوهم في إسناده، ورواه وكيع عن أصحابه، عن يزيد، عن عيسى بن فائد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏ وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت فقال‏:‏

حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه منها إلا عدله، وما من رجل تعلم القرآن ثم نسيه إلا لقى الله يوم القيامة أجذم‏"‏‏.‏

وكذا رواه أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، ففيه اختلاف، لكن هذا في باب الترهيب مقبول -والله أعلم- لاسيما إذا كان له شاهد من وجه آخر، كما قال أبو عبيد‏.‏ حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال‏:‏ حُدثت عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عرضت على أجور أمتي حتى القذاة والبعرة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أكبر من آية أو سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها‏"‏‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ وحُدّثت عن سلمان الفارسي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أكبر ذنب توافى به أمتي يوم القيامة سورة من كتاب الله أوتيها رجل فنسيها‏"‏‏.‏ وقد روى أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار وغيرهم من حديث ابن أبي رواد، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها‏"‏‏.‏

قال الترمذي‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به البخاري فاستغربه، وحكى البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أنه أنكر سماع المطلب من أنس بن مالك‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه محمد بن يزيد الآدمي عن ابن أبي رواد، عن ابن جريج عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم به‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 124-126‏]‏، وهذا الذي قاله هذا -وإن لم يكن هو المراد جميعه- فهو بعضه، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان وعدم الاعتناء به فيه تهاون كثير وتفريط شديد، نعوذ بالله منه؛ ولهذا قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏تعاهدوا القرآن‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏استذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم‏"‏‏.‏

التَّفَصِّي‏:‏ التخلص يقال‏:‏ تَفَصَّى فلان من البلية‏:‏ إذا تخلص منها، ومنه‏:‏ تفصى النوى من التمرة‏:‏ إذا تخلص منها، أي‏:‏ إن القرآن أشد تفلتا من الصدور من النعم إذا أرسلت من غير عقال‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال‏:‏ قال عبد الله -يعني ابن مسعود-‏:‏ إني لأمقت القارئ أن أراه سمينا نسيا للقرآن‏.‏

حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد العزيز بن أبي رواد قال‏:‏ سمعت الضحاك بن مزاحم يقول‏:‏ ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب‏.‏

ولهذا قال إسحاق بن راهويه وغيره‏:‏ يُكره لرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن، كما أنه يُكره له أن يقرأ في أقل من ثلاثة أيام، كما سيأتي هذا، حيث يذكره البخاري بعد هذا، وكان الأليق أن يتبعه هذا الباب، ولكن ذكر بعد هذا قوله‏:‏ القراءة على الدابة

حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، أخبرني أبو إياس قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مغفل، رضي الله عنه،

قال‏:‏ ‏"‏رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقرأ على راحلته سورة الفتح‏"‏‏.‏

وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق، عن شعبة، عن أبي إياس، وهو معاوية بن قرة به وهذا -أيضا- له تعلق بما تقدم من تعاهد القرآن وتلاوته سفرا وحضرا، ولا يكره ذلك عند أكثر العلماء إذا لم يتله القارئ في الطريق، وقد نقله ابن أبي داود عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أذن في ذلك، وعن الإمام مالك أنه كره ذلك، كما قال ابن أبي داود‏:‏ وحدثني أبو الربيع، أخبرنا ابن وهب ‏[‏قال‏]‏ سألت مالكا عن الرجل يصلي في آخر الليل، فيخرج إلى المسجد، وقد بقي من السورة التي كان يقرأ فيها شيء، فقال‏:‏ ما أعلم القراءة تكون في الطريق‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ تكره قراءة القرآن في ثلاثة مواطن‏:‏ في الحمام، وفي الحشوش، وفي الرحى وهي تدور‏.‏ وخالفه في القراءة في الحمام كثير من السلف‏:‏ أنها لا تكره، وهو مذهب مالك والشافعي وإبراهيم النخعي وغيرهم، وروى ابن أبي داود عن علي بن أبي طالب‏:‏ أنه كره ذلك، ونقله ابن المنذر عن أبي وائل شقيق بن سلمة، والشعبي والحسن البصري ومكحول وقبيصة بن ذؤيب، وهو رواية عن إبراهيم النخعي، ومحكيّ عن أبي حنيفة، رحمهم الله، أن القراءة في الحمام تكره وأما القراءة في الحشوش فكراهتها ظاهرة، ولو قيل بتحريم ذلك صيانة لشرف القرآن لكان مذهبا، وأما القراءة في بيت الرحى وهي تدور فلئلا يعلو غير القرآن عليه، والحق يعلو ولا يُعلى، والله أعلم‏.‏

تعليم الصبيان القرآن

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم، قال‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم‏.‏

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ جمعت المحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له‏:‏ وما المحكم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المفصل‏"‏‏.‏

انفرد بإخراجه البخاري، وفيه دلالة على جواز تعلم الصبيان القرآن؛ لأن ابن عباس أخبر عن سنه حين موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان جمع المفصل، وهو من الحجرات، كما تقدم ذلك، وعمره آنذاك عشر سنين‏.‏ وقد روى البخاري أنه قال‏:‏ توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مختون‏.‏ وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم، فيحتمل أنه تجوز في هذه الرواية بذكر العشر، وترك ما زاد عليها من الكسر، والله أعلم‏.‏

وعلى كل تقدير، ففيه دلالة على جواز تعليمهم القرآن في الصبا، وهو ظاهر، بل قد يكون مستحبا أو واجبا؛ لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرا، وأشد علوقا بخاطره وأرسخ وأثبت، كما هو المعهود من حال الناس، وقد استحب بعض السلف أن يترك الصبي في ابتداء عمره قليلا للعب، ثم توفر همته على القراءة، لئلا يلزم أولا بالقراءة فيملها ويعدل عنها إلى اللعب، وكره بعضهم تعليمهم القرآن وهو لا يعقل ما يقال له، ولكن يترك حتى إذا عقل وميز علم قليلا قليلا بحسب همته ونهمته وحفظه وجودة ذهنه، واستحب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن يلقن خمس آيات خمس آيات، رويناه عنه بسند جيد‏.‏