فصل: تفسير الآيات رقم (137 - 140)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏137 - 140‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏

يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه ثم رجع، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا، ولا طريقا إلى الهدى؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جُمَيع، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا‏}‏ قال‏:‏ تَمَّمُوا على كفرهم حتى ماتوا‏.‏ وكذا قال مجاهد‏.‏

وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى، عن عامر الشّعْبي، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ يستتاب المرتد، ثلاثًا، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا‏}‏ثم قال‏:‏ ‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ يعنى‏:‏ أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم‏:‏ إنما نحن معكم، إنما نحن مستهزئون‏.‏ أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة‏.‏ قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين‏:‏ ‏{‏أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ‏}‏‏؟‏ ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له، ولمن جعلها له‏.‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد‏.‏

ويُنَاسبُ أن يُذْكَرَ‏}‏ هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حُمَيْد الكندي، عن عبادة بن نُسَيِّ، عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزًّا وفخرًا، فهو عاشرهم في النار‏"‏‏.‏

تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي، ويقال‏:‏ أنصاري‏.‏ اسمه شمعون بالمعجمة، فيما قاله البخاري، وقال غيره‏:‏ بالمهملة، والله أعلم‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه‏.‏ فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ في المأثم، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر‏"‏‏.‏

والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ‏[‏حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نَسَخَت هذه الآية التي في الأنعام‏.‏ يعني نُسخَ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ لقوله ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ كما أشركوهم في الكفر، كذلك شارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال، والقيود والأغلال‏.‏ وشراب الحميم والغِسْلين لا الزّلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا‏}‏

يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفر عليهم، وذهاب ملتهم ‏{‏‏.‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نصر وتأييد وظَفَر وغنيمة ‏{‏قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ‏{‏وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ‏{‏قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ نغلب عليكم، كقوله‏:‏ ‏{‏اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏ وهذا أيضًا تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وقلة إيقانهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ بما يعلمه منكم -أيها المنافقون- من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرًا في الحياة الدنيا، لما له ‏[‏تعالى‏]‏ في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويُحَصَّل ما في الصدور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏ قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يُسَيْع الكندي قال‏:‏ جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال‏:‏ كيف هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏‏؟‏ فقال علي، رضي الله عنه‏:‏ ادْنُه ادنه، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏

وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏ قال‏:‏ ذاك يوم القيامة‏.‏ وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي‏:‏ يعني يوم القيامة‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ حجة‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا، بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏[‏وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ‏.‏ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏]‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51، 52‏]‏‏.‏ وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ‏[‏يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ‏]‏ نَادِمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142 - 143‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا‏}‏

قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ولا شك أن الله تعالى لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجَرَت عليهم أحكامُ الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة عند الله، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر عنهم تعالى أنهم يوم القيامة يحلفون له‏:‏ أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ‏[‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏]‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ‏[‏قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ‏.‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ‏.‏ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ‏]‏ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

1 -‏}‏‏.‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13-15‏]‏ وقد ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءي راءي الله به‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس، ويعدل به إلى النار‏"‏ عياذًا بالله من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ‏[‏يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إَلا قَلِيلا‏]‏ هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة‏.‏ إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمانَ لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه، من طريق عُبَيد الله بن زَحْر، عن خالد بن أبي عِمْران، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ يكرَه أن يقوم الرجلُ إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله ‏[‏تعالى‏]‏ وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى‏}‏ وروي من غير هذا الوجه، عن ابن عباس، نحوه‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى‏}‏ هذه صفة ظواهرهم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال‏:‏ ‏{‏يُرَاءُونَ النَّاسَ‏}‏ أي‏:‏ لا إخلاص لهم ‏[‏ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية من الناس ومصانعة لهم‏]‏ ؛ ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يُرَون غالبًا فيها كصلاة العشاء وقت العَتَمَة، وصلاة الصبح في وقت الغَلَس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار ‏"‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لو علم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مَرْمَاتين حسنتين، لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا محمد -هو بن أبي بكر المقدمي -حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أحْسَنَ الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة، استهان بها ربه عز وجل‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ في صلاتهم لا يخشعُون ‏[‏فيها‏]‏ ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون‏.‏

وقد روى الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق‏:‏ يجلس يَرْقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشيطان، قام فَنَقَر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا‏"‏‏.‏

وكذا رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين‏.‏ ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تَعِيرُ إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيتهما تتبع‏"‏‏.‏

تفرد به مسلم‏.‏ وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب، فوقف به على ابن عمر، ولم يرفعه، قال‏:‏ حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك‏.‏

قلت‏:‏ وقد رواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله، به مرفوعًا‏.‏ وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا‏.‏ وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة، عن عبدة، عن عبد الله، به مرفوعا‏.‏ ورواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله -أو عبد الله بن عمر- عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا‏.‏ ورواه أيضًا صخر بن جُوَيْرِية، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا الهُذَيل بن بلال، عن ابن عبيد، عن أبيه‏:‏ أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه، فقال أبي‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الرّبضَين من الغنم، إن أتت هؤلاء نطحتها، وإن أتت هؤلاء نطحتها‏"‏ فقال له ابن عمر‏:‏ كذبت‏.‏ فأثنى القوم على أبي خيرا -أو معروفا- فقال ابن عمر‏:‏ لا أظن صاحبكم إلا كما تقولون، ولكني شاهد نبي الله إذ قال‏:‏ كالشاة بين الغنمين‏.‏ فقال‏:‏ هو سواء‏.‏ فقال‏:‏ هكذا سمعته‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال‏:‏ بينما عبيد بن عُمير يقص، وعنده عبد الله بن عمر، فقال عبيد بن عمير‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كالشاة بين ربضين، إذا أتت هؤلاء نطحتها، وإذا أتت هؤلاء نطحتها‏"‏‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كشاة بين غنمين‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فاحتفظ الشيخ وغضب، فلما رأى ذلك ابن عمر قال‏:‏ أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك‏.‏

طريق أخرى‏:‏ عن ابن عمر، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن عثمان بن بُودِويه، عن يَعْفُر بن زُوذي قال‏:‏ سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين‏"‏‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ ويلكم‏.‏ لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ إنما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال‏:‏ مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد، فدفع أحدهم فعبر، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي‏:‏ ويلك‏.‏ أين تذهب‏؟‏ إلى الهلكة‏؟‏ ارجع عودك على بدئك، وناداه الذي عبر‏:‏ هَلُمّ إلى النجاة‏.‏ فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، قال‏:‏ فجاءه سيل فأغرقه، فالذي عبر المؤمن، والذي غرق المنافق‏:‏ ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ والذي مكث الكافر وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا شعبة عن قتادة‏:‏ ‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ يقول‏:‏ ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك‏.‏ قال‏:‏ وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر، كمثل رهط ثلاثة دَفَعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر‏:‏ أن هَلُمّ إليّ، فإني أخشى عليك‏.‏ وناداه المؤمن‏:‏ أن هَلُمّ إليّ، فإني عندي وعندي؛ يُحصى له ما عنده‏.‏ فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرّقه‏.‏ وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك‏.‏ قال‏:‏ وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين، رأت غنمًا على نَشَزٍ فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنمًا على نَشَز فأتتها وشامتها فلم تعرف‏"‏‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ ومن صرفه عن طريق الهدى ‏{‏فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا‏}‏ فإنه‏:‏ ‏{‏مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ‏}‏ والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا مُعَقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144 - 147‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا‏}‏

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ أي‏:‏ يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه‏.‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ حجة عليكم في عقوبته إياكم‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ كل سلطان في القرآن حجة‏.‏

وهذا إسناد صحيح‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القُرَظي، والضحاك، والسدي والنضر بن عَرَبي‏.‏

ثم أخبر تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، جزاء على كفرهم الغليظ‏.‏ قال الوالبي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ في أسفل النار‏.‏ وقال غيره‏:‏ النار دركات، كما أن الجنة درجات‏.‏ ‏"‏وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن ذَكْوان أبي صالح، عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ قال‏:‏ في توابيت ترتج عليهم‏.‏ كذا رواه ابن جرير، عن ابن وَكِيع، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، به‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن المنذر بن شاذان، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ قال‏:‏ الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهَيْل، عن خَيْثَمَة، عن عبد الله -يعني ابن مسعود‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ قال‏:‏ في توابيت مبهمة - من نار تطبق عليهم‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، عن وكيع، عن سفيان، عن سلمة، عن خيثمة، عن ابن مسعود‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ قال‏:‏ في توابيت من حديد مبهمة عليهم، ومعنى قوله‏:‏‏(‏مبهمة‏)‏‏}‏ أي‏:‏ مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن‏:‏ أن ابن مسعود سئل عن المنافقين، فقال‏:‏ يجعلون في توابيت من نار، فتطبق عليهم في أسفل درك من النار‏.‏

‏{‏وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب‏.‏

ثم أخبر تعالى أن من تاب ‏[‏منهم‏]‏ في الدنيا تاب عليه وقَبِلَ ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بَدَّلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قل‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن خالد بن أبي عِمْران، عن عمرو بن مرة، عن معاذ بن جبل‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أخلص دينك، يكفك القليل من العمل‏"‏‏.‏

‏{‏فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ في زمرتهم يوم القيامة ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏

ثم قال مخبرًا عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم، فقال‏:‏ ‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه، وجازاه على ذلك أوفر الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148 - 149‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏

قال ‏[‏علي‏]‏ بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ يقول‏:‏ لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ ظُلِمَ‏}‏ وإن صبر فهو خير له‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن عطاء، عن عائشة قالت‏:‏ سُرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تُسَبّخي عنه‏"‏‏.‏وقال الحسن البصري‏:‏ لا يدع عليه، وليقل‏:‏ اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه‏.‏ وفي رواية عنه قال‏:‏ قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه‏.‏

وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية‏:‏ هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ‏}‏ قال‏:‏ ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال‏:‏ ‏"‏ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي‏"‏‏.‏ فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ‏}‏ قال‏:‏ قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول‏:‏ ‏"‏أساء ضيافتي، ولم يحسن‏"‏‏.‏ وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول‏.‏

وكذا روي عن غير واحد، عن مجاهد، نحو هذا‏.‏ وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي، من طريق الليث بن سعد -والترمذي من حديث ابن لَهِيعة- كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يَقْرُونا، فما ترى في ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا الجودي يحدث، عن سعيد بن المهاجر، عن المقدام أبي كريمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أيما مسلمٍ ضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله‏"‏‏.‏

تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة، حدثني منصور، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه‏"‏‏.‏

ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة‏.‏ وعن زياد بن عبد الله البكَّائي‏.‏ عن وَكِيع، وأبي نُعَيْم،عن سفيان الثوري -ثلاثتهم عن منصور، به‏.‏ وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة، عن منصور، به‏.‏

ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار‏.‏

حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا محمد بن عَجْلان، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن لي جارا يؤذيني، فقال له‏:‏ ‏"‏أخرج متاعك فضعه على الطريق‏"‏‏.‏ فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال‏:‏ مالك‏؟‏ قال‏:‏ جاري يؤذيني‏.‏ فيقول‏:‏ اللهم العنه، اللهم أخزه‏!‏ قال‏:‏ فقال الرجل‏:‏ ارجع إلى منزلك، وقال لا أوذيك أبدًا‏"‏‏.‏

وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان به‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏ أي‏:‏ إن تظهروا -أيها الناس- خيرًا، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏؛ ولهذا ورد في الأثر‏:‏ أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم‏:‏ سبحانك على حلمك بعد علمك‏.‏ ويقول بعضهم‏:‏ سبحانك على عفوك بعد قدرتك‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه الله‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150 - 152‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏

يتوعد ‏[‏تبارك و‏]‏ تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فَرّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة، وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية‏.‏ فاليهود -عليهم لعائن الله- آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال‏:‏ إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت، ثم كفروا بشرعه، فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم‏.‏

والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ أي‏:‏ في الإيمان ‏{‏وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ طريقًا ومسلكًا‏.‏

ثم أخبر تعالى عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانًا منه، لو نظروا حق النظر في نبوته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏ أي‏:‏ كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ في الدنيا والآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏}‏ يعني بذلك‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ‏[‏وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏.‏

ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ على ما آمنوا بالله ورسله ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ لذنوبهم أي‏:‏ إن كان لبعضهم ذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153 - 154‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏

قال محمد بن كعب القرظي، والسدي، وقتادة‏:‏ سأل اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء‏.‏ كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة‏.‏

قال ابن جُرَيج‏:‏ سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان، بتصديقه فيما جاءهم به‏.‏ وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة ‏"‏سبحان‏"‏‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90، 93‏]‏ الآيات‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم‏.‏ وهذا مفسر في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏.‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى، عليه السلام، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى ‏{‏اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ‏[‏قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏.‏ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138، 139‏]‏‏.‏ ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة ‏"‏الأعراف‏"‏، وفي سورة ‏"‏طه‏"‏ بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله، عز وجل، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه‏:‏ أن يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله، عز وجل، فقال الله عز وجل ‏{‏فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ‏}‏ وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى، عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ‏[‏وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا‏}‏ أي‏:‏ فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا، وهم يقولون‏:‏ حطة‏.‏ أي‏:‏ اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه، حتى تهنا في التيه أربعين سنة‏.‏ فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون‏:‏ حنطة في شعرة‏.‏

‏{‏وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ‏}‏ أي‏:‏ وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرّم الله عليهم، ما دام مشروعًا لهم ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ أي‏:‏ شديدا، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب مناهى الله، عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ‏[‏إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏]‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163-166‏]‏ الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال، في سورة ‏"‏سبحان‏"‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏، وفيه‏:‏ ‏"‏وعليكم -خاصة يهود- أن لا تعدوا في السبت‏"‏‏.‏