فصل: تفسير الآيات رقم (46 - 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 47‏]‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏"‏وَقَفَّيْنَا‏"‏ أي‏:‏ أتبعنا ‏{‏عَلَى آثَارِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أنبياء بني إسرائيل ‏[‏عليه السلام‏]‏ ‏{‏بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ‏}‏ أي‏:‏ مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ‏}‏ أي‏:‏ هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات‏.‏ ‏{‏وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ‏}‏ أي‏:‏ متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏50‏]‏؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا الإنجيل ‏{‏هُدًى‏}‏ يهتدى به، ‏{‏وَمَوْعِظَةً‏}‏ أي‏:‏ وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم ‏{‏لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ‏}‏ قُرئ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ‏}‏ بالنصب على أن اللام لام كي، أي‏:‏ وآتيناه الإنجيل ‏[‏فيه هدى ونور‏]‏ ليحكم أهل ملته به في زمانهم‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ‏}‏ بالجزم اللام لام الأمر، أي‏:‏ ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ‏[‏وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ‏]‏ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق‏.‏ وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 50‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه ‏[‏عليه السلام‏]‏ ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ‏{‏مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏107، 108‏]‏ أي‏:‏ إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، ‏{‏لَمَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ لكائنًا لا محالة ولا بد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي‏:‏ مؤتمنًا عليه‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ المهيمن‏:‏ الأمين، قال‏:‏ القرآن أمين على كل كتاب قبله‏.‏وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل‏.‏

وعن الوالبي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا‏}‏ أي‏:‏ شهيدًا‏.‏ وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي‏.‏

وقال العَوْفِي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا‏}‏ أي‏:‏ حاكمًا على ما قبله من الكتب‏.‏

وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم ‏"‏المهيمن‏"‏ يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها‏.‏ وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏9‏]‏‏.‏

فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر‏.‏ وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد‏:‏ وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن ‏"‏المهيمن‏"‏ عطف على ‏"‏المصدق‏"‏، فلا يكون إلا من صفة ما كان ‏"‏المصدق‏"‏ صفة له‏.‏ قال‏:‏ ولو كان كما قال مجاهد لقال‏:‏ ‏"‏وأنزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه‏"‏‏.‏ يعني من غير عطف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ فاحكم يا محمد بين الناس‏:‏ عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم ‏{‏بِمَا أَنزلَ اللَّهُ‏}‏ إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك‏.‏ هكذا وجهه ابن جرير بمعناه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم‏.‏ فردهم إلى أحكامهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً‏}‏ قال‏:‏ سبيلا‏.‏

وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَاجًا‏}‏ قال‏:‏ وسنة‏.‏ وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ سبيلا وسنة‏.‏

وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ أي‏:‏ سبيلا وسنة‏.‏

وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه‏:‏ ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ أي‏:‏ سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال‏:‏ ‏"‏شرع في كذا‏"‏ أي‏:‏ ابتدأ فيه‏.‏ وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء‏.‏ أما ‏"‏المنهاج‏"‏‏:‏ فهو الطريق الواضح السهل، والسنن‏:‏ الطرائق، فتفسير قوله‏:‏ ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم‏.‏

ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد‏"‏ يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه‏.‏ وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة‏.‏

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ يقول‏:‏ سبيلا وسنة، والسنن مختلفة‏:‏ هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره‏:‏ التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل‏.‏

وقيل‏:‏ المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا‏}‏ القرآن ‏{‏مِنْكُمْ‏}‏ أيتها الأمة ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ أي‏:‏ هو لكم كلكم، تقتدون به‏.‏ وحُذف الضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ جعلناه، يعني القرآن، ‏{‏شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ أي‏:‏ سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي‏:‏ طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا‏.‏

هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها‏.‏ ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله‏.‏ وقال عبد الله بن كثير‏:‏ ‏{‏فِيمَا آتَاكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من الكتاب‏.‏

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ‏}‏ وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ‏{‏فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ‏}‏ يعني‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأظهر الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه‏.‏

ثم قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة‏.‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناؤون عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاسبن قيس، بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه‏!‏ فأتوه، فقالوا‏:‏ يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك، ونصدقك‏!‏ فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله، عز وجل، فيهم‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ‏}‏ أي‏:‏ يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية ‏[‏هو‏]‏ وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح قال‏:‏ كان طاوس إذا سأله رجل‏:‏ أفضِّل بين ولدي في النحْل‏؟‏ قرأ‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ‏[‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏]‏‏}‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبغض الناس إلى الله، عز وجل ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه‏"‏‏.‏ وروى البخاري، عن أبي اليمان بإسناده نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏}‏

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ‏[‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏]‏‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد -يعني ابن سعيد بن سابق- حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حَرْب، عن عِياض‏:‏ أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ وقال‏:‏ إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لا يستطيع ‏[‏أن يدخل المسجد‏]‏ فقال عمر‏:‏ أجُنُبٌ هو‏؟‏ قال‏:‏ لا بل نصراني‏.‏ قال‏:‏ فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال‏:‏ أخرجوه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ‏[‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏]‏‏}‏

ثم قال الحسن بن محمد بن الصباح‏:‏ حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا ابن عَوْن، عن محمد بن سِيرِين قال‏:‏ قال عبد الله بن عتبة‏:‏ ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، وهو لا يشعر‏.‏ قال‏:‏ فظنناه يريد هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ‏[‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏ وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال‏:‏ كُلْ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ وروي عن أبي الزناد، نحو ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ شك، وريب، ونفاق ‏{‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، ‏{‏يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ قال السُّدِّي‏:‏ يعني فتح مكة‏.‏ وقال غيره‏:‏ يعني القضاء والفصلِ ‏{‏أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ قال السُّدِّي‏:‏ يعني ضرب الجزية علىاليهود والنصارى ‏{‏فَيُصْبِحُوا‏}‏ يعني‏:‏ الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين ‏{‏عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ‏}‏ من الموالاة ‏{‏نَادِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ على ما كان منهم، مما لم يُجْد عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم محذورًا، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم‏.‏ فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏}‏ وقد اختلف القراء في هذا الحرف، فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ‏}‏ ثم منهم من رفع ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ على الابتداء، ومنهم من نصب عطفًا على قوله‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ تقديره ‏"‏أن يأتي‏"‏ ‏"‏وأن يقول‏"‏، وقرأ أهل المدينة‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير، قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ حينئذ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏}‏

واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السُّدِّي أنها نزلت في رجلين، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد‏:‏ أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه وأتهود معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث‏!‏ وقال الآخر‏:‏ وأما أنا فأذهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصر معه، فأنزل الله ‏[‏عز وجل‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ‏}‏ الآيات‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ نزلت في أبي لُبَابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَة، فسألوه‏:‏ ماذا هو صانع بنا‏؟‏ فأشار بيده إلى حلقه، أي‏:‏ إنه الذبح‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سَلُول، كما قال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس قال‏:‏ سمعت أبيّ، عن عطية بن سعد قال‏:‏ جاء عبادة بن الصامت، من بني الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله‏.‏ فقال عبد الله بن أبي‏:‏ إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي‏:‏ ‏"‏يا أبا الحُباب، ما بَخِلْتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قد قبلت‏!‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ‏[‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏]‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال‏:‏ لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود‏:‏ آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر‏!‏ فقال مالك بن الصيف‏:‏ أغركم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال‏!‏‏!‏ أما لو أمْرَرْنا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يَدٌ بقتالنا فقال عبادة‏:‏ يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرًا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله ‏[‏تعالى‏]‏ وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله‏.‏ فقال عبد الله بن أبي‏:‏ لكني لا أبرأ من ولاء يهود أنا رجل لا بد لي منهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ إذا أقبلُ‏!‏ قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ‏[‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏]‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع‏.‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن في مَوَالي‏.‏ وكانوا حلفاء الخزرج، قال‏:‏ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا محمد، أحسن في موالي‏.‏ قال‏:‏ فأعرض عنه‏.‏ فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏"‏أرسلني‏"‏‏.‏ وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئِي لوجهه ظللا ثم قال‏:‏ ‏"‏ويحك أرسلني‏"‏‏.‏ قال‏:‏ لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مَوَالي، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة‏؟‏‏!‏ إني امرؤ أخشى الدوائر، قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هُم لك‏.‏‏"‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فحدثني أبو إسحاق بن يَسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال‏:‏ لما حاربت بنو قَيْنُقَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عَوْف بن الخزرج، له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال‏:‏ يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم‏.‏ ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد كنت أنهاك عن حُبّ يهود‏"‏‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ فقد أبغضهم أسعد بن زرارة، فمات‏.‏ وكذا رواه أبو داود، من حديث محمد بن إسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 56‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏133‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏.‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏19، 20‏]‏ أي‏:‏ بممتنع ولا صعب‏.‏ وقال تعالى هاهنا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏ أي‏:‏ يرجع عن الحق إلى الباطل‏.‏

قال محمد بن كعب‏:‏ نزلت في الولاة من قريش‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ هو والله أبو بكر وأصحابه ‏[‏رضي الله عنهم‏]‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ سمعت أبا بكر بن عياش يقول في قوله ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ هم أهل القادسية‏.‏ وقال لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد‏:‏ هم قوم من سبأ‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن محمد بن عمرو، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قال‏:‏ ناس من أهل اليمن، ثم من كِنْدَة، ثم من السَّكُون‏.‏

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا معاوية -يعني ابن حفص- عن أبي زياد الحلفاني، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون، ثم منتجيب‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب جدا‏.‏

وقال ابن أبى حاتم‏:‏ حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا عبد الصمد -يعني ابن عبد الوارث- حدثنا شعبة، عن سِمَاك، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هم قوم هذا‏"‏‏.‏ ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه‏:‏ ‏"‏الضحوك القتال‏"‏ فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا سلام أبو المنذر، عن محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال‏:‏ أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع، أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان عن أبي المثنى؛ أن أبا ذر قال‏:‏ بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا، وأشهد الله على تسعًا، أني لا أخاف في الله لومة لائم‏.‏ قال أبو ذر‏:‏ فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏هل لك إلى بيعة ولك الجنة‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ وبسطت يدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط‏:‏ على ألا تسأل الناس شيئا‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ ‏"‏ولا سوطك وإن سقط منك يعني تنزل إليه فتأخذه‏.‏‏"‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا جعفر، عن المعلى القُرْدوسي، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يُبَاعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن زُبَيْد عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مَقَال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة‏:‏ ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ مخافة الناس‏.‏ فيقول‏:‏ إياي أحق أن تخاف‏"‏‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن عَمْرو بن مرة به‏.‏ وروى أحمد وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة عن نهار بن عبد الله العبدي المدني، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى إنه ليسأله يقول له‏:‏ أيْ عبدي، رأيت منكرًا فلم تنكره‏؟‏ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته، قال‏:‏ أيْ رب، وثقت بك وخفت الناس‏"‏‏.‏ وثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه‏"‏، قالوا‏:‏ وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يتحمل من البلاء ما لا يطيق‏"‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من اتصف بهذه الصفات، فإنما هو من فضل الله عليه، وتوفيقه له، ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ‏[‏وَهُمْ رَاكِعُونَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ المؤمنون المتصفون بهذه الصفات، من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين‏.‏

وأما قوله ‏{‏وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ فقد توهم بعضهم أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ أي‏:‏ في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب‏:‏ أن هذه الآية نزلت فيه‏:‏ ‏[‏ذلك‏]‏ أنه مر به سائل في حال ركوعه، فأعطاه خاتمه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أيوب بن سُوَيْد، عن عتبة بن أبي حكيم في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قال‏:‏ هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب‏.‏

وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الفضل بن دُكَيْن أبو نعيم الأحول، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كُهَيْل قال‏:‏ تصدق علي بخاتمه وهو راكع، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا غالب بن عبيد الله، سمعت مجاهدًا يقول في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب، تَصَّدَق وهو راكع وقال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب‏.‏ عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به‏.‏

ورواه ابن مَرْدُويه، من طريق سفيان الثوري، عن أبي سِنان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب قائمًا يصلي، فمر سائل وهو راكع، فأعطاه خاتمه، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية‏.‏ الضحاك لم يلق ابن عباس‏.‏

وروى ابن مَرْدُويه أيضًا عن طريق محمد بن السائب الكلبي -وهو متروك- عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، والناس يصلون، بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏أعطاك أحد شيئًا‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏من‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ ذلك الرجل القائم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏على أي حال أعطاكه‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ وهو راكع، قال‏:‏ ‏"‏وذلك علي بن أبي طالب‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏وهذا إسناد لا يفرح به‏.‏

ثم رواه ابن مردويه، من حديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع‏.‏ وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها‏.‏ ثم روى بسنده، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ نزلت في المؤمنين، وعلي بن أبي طالب أولهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا هَنَّاد، حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال‏:‏ سألته عن هذه ‏[‏الآية‏]‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ قلنا‏:‏ من الذين آمنوا‏؟‏ قال‏:‏ الذين آمنوا‏!‏ قلنا‏:‏ بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب‏!‏ قال‏:‏ عَلِيٌّ من الذين آمنوا‏.‏

وقال أسباط، عن السُّدِّي‏:‏ نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس‏:‏ من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقد تقدم في الأحاديث التي أوردنا أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، حين تبرأ من حلْف يَهُود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏.‏ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏

فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ‏[‏ومنصور في الدنيا والآخرة‏]‏ ؛ ولهذا قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ‏}‏

وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها ‏{‏هُزُوًا وَلَعِبًا‏}‏ يستهزئون بها، ‏{‏وَلَعِبًا‏}‏ يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد كما قال القائل‏:‏

وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا *** وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيم

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ‏}‏ ‏"‏من‏"‏ ههنا لبيان الجنس، كقوله‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏30‏]‏، وقرأ بعضهم ‏{‏وَالْكُفَّارَ‏}‏ بالخفض عطفا، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ تقديره‏:‏ ولا الكفار أولياء، أي‏:‏ لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء‏.‏

والمراد بالكفار ههنا المشركون، وكذا وقع في قراءة ابن مسعود، فيها رواه ابن جرير‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا‏}‏ أي‏:‏ وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب ‏{‏اتَّخَذُوهَا‏}‏ أيضًا ‏{‏هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ‏}‏ مَعَانِي عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي ‏"‏إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص، أي‏:‏ ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

وقال الزهري‏:‏ قد ذكر الله ‏[‏تعالى‏]‏ التأذين في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال أسباط، عن السُّدِّي، في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا‏}‏ قال‏:‏ كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي‏:‏ ‏"‏أشهد أن محمدًا رسول الله‏"‏ قال‏:‏ حُرّق الكاذب‏!‏ فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله‏.‏ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد‏:‏ لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه‏.‏ وقال الحارث بن هشام‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى‏.‏ فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏قد علمت الذي قلتم‏"‏ ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب‏:‏ نشهد أنك رسول الله، ‏[‏والله‏]‏ ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرنا عبد العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره -وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة- قال‏:‏ قلت لأبي محذورة‏:‏ يا عم، إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك‏.‏ فأخبرني أن أبا محذورة قال له‏:‏ نعم خرجت في نفر، وكنا ببعض طريق حنين، مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع‏؟‏‏"‏ فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني‏.‏ وقال ‏"‏قم فأذّن بالصلاة‏"‏‏.‏ فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال‏:‏ ‏"‏قل الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ‏"‏ ثم قال لي‏:‏ ‏"‏ارجع فامدد من صوتك‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله‏"‏‏.‏ ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرّها على وجهه، ثم بين ثدييه ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بارك الله فيك وبارك عليك‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، مُرْني بالتأذين بمكة‏.‏ فقال قد ‏"‏أمرتك به‏"‏‏.‏ وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة من طريق عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة -واسمه‏:‏ سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان- أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 63‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا‏؟‏ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعًا كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏8‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏74‏]‏ وفي الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏"‏ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ معطوف على ‏{‏أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي‏:‏ خارجون عن الطريق المستقيم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا‏؟‏ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ أبعده من رحمته ‏{‏وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ غضبًا لا يرضي بعده أبدًا، ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏ كما تقدم بيانه في سوره البقرة‏.‏ وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف ‏[‏إن شاء الله تعالى‏]‏ وقد قال سفيان الثوري‏:‏ عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏؟‏ فقال إن الله لم يهلك قومًا -أو قال‏:‏ لم يمسخ قومًا- فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك‏"‏‏.‏

وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال‏:‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا إن الله لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم‏"‏‏.‏ ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات، به‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الحيات مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب جدا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ وقرئ ‏{‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ على أنه فعل ماض، ‏"‏والطاغوت‏"‏ منصوب به، أي‏:‏ وجعل منهم من عبد الطاغوت‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ بالإضافة على أن المعنى‏:‏ وجعل منهم خدم الطاغوت، أي‏:‏ خدامه وعبيده‏.‏ وقرئ ‏{‏وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ على أنه جمع الجمع‏:‏ عبد وعَبيد وعُبُد، مثل ثمار وثُمُر‏.‏ حكاها ابن جرير عن الأعمش‏.‏ وحكي عن بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏"‏وعَابد الطاغوت‏"‏، وعن أبي، وابن مسعود‏:‏ ‏"‏وعبدوا‏"‏، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏{‏وَعُبِدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها‏.‏ والظاهر أنه لا بعد في ذلك؛ لأن هذا من باب التعريض بهم، أي‏:‏ وقد عبدت الطاغوت فيكم، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك‏.‏

وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا، والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ‏[‏ما‏]‏ سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا‏}‏ أي‏:‏ مما تظنون بنا ‏{‏وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ ولم يتبين لي وجه غرابته عند الحافظ ابن كثير إلا أن يكون قصد أن عبد العزيز بن المختار قد خالفه فيه معمر، فرواه عن أيوب عن عكرمة به موقوفاً‏.‏

رواه الطبراني فى المعجم الكبير ‏(‏11/341‏)‏‏.‏ فهذا بعيد وهو محتمل، وقد صحح هذا الحديث الحافظ المقدسى في المختارة، كما في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الألباني ‏(‏4/439‏)‏‏}‏‏.‏

وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ دَخَلُوا ‏[‏بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏]‏‏}‏ أي عندك يا محمد ‏{‏بِالْكُفْرِ‏}‏ أي‏:‏ مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ ‏[‏قَدْ‏]‏ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ فخصهم به دون غيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏}‏ أي‏:‏ يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك‏.‏ والربانيون وهم‏:‏ العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار‏:‏ وهم العلماء فقط‏.‏

‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني الربانيين، أنهم‏:‏ بئس ما كانوا يصنعون‏.‏ يعني‏:‏ في تركهم ذلك‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا، ولهؤلاء حين علموا‏.‏ قال‏:‏ وذلك الأركان‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ويعملون‏"‏و ‏"‏ويصنعون‏"‏ واحد‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال‏:‏ ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏ قال‏:‏ كذا قرأ‏.‏

وكذا قال الضحاك‏:‏ ما في القرآن آية أخوف عندي منها‏:‏ إنا لا ننهى‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم عن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني، قال‏:‏ رأيته بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال‏:‏ خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات‏.‏ فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا، شَرِيك، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏ ورواه أبو داود، عن مَسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وَكِيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبَيد الله بن جرير، عن أبيه، به‏.‏ قال الحافظ المِزِّي‏:‏ وهكذا رواه شعبة، عن إسحاق، به‏.‏