فصل: نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا، وقول الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى:6، 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


نسيان القرآن وهل يقول‏:‏ نسيت آية كذا وكذا، وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏6، 7‏]‏

حدثنا الربيع بن يحيى، حدثنا زائدة، حدثنا هشام، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ لقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال‏:‏ ‏"‏يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا‏"‏‏.‏

وحدثني محمد بن عبيد بن ميمون، حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام وقال‏:‏ أسقطتهن من سورة كذا وكذا‏.‏ انفرد به أيضا‏.‏ تابعه علي بن مسهر وعبدة عن هشام‏.‏

وقد أسندهما البخاري في موضع آخر، ومسلم معه في عبدة‏.‏

وحدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ ‏"‏سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال‏:‏ ‏"‏يرحمه الله، فقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا‏"‏‏.‏ ورواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بئس ما لأحدهم أن يقول‏:‏ نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّى ‏"‏ ورواه مسلم والنسائي، من حديث منصور به‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وفي مسند أبي يعلى‏:‏ ‏"‏فإنما هو نُسِيَ ‏"‏، بالتخفيف، هذا لفظه‏.‏

وفي هذا الحديث -والذي قبله- دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقصٍ له إذا كان بعد الاجتهاد والحرص، وفي حديث ابن مسعود أدب في التعبير عن حصول ذلك، فلا يقول‏:‏ نسيت آية كذا، فإن النسيان ليس من فعل العبد، وقد يصدر عنه أسبابه من التناسي والتغافل والتهاون المفضي إلى ذلك، فأما النسيان نفسه فليس بفعله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"‏بل هو نُسِيَ‏"‏، مبني لما لم يسم فاعله، وأدب -أيضا- في ترك إضافة ذلك إلى الله تعالى، وقد أسند النسيان إلى العبد في قوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏ وهو، والله أعلم، من باب المجاز السائغ بذكر المسبب وإرادة السبب؛ لأن النسيان إنما يكون عن سبب قد يكون ذنبا، كما تقدم عن الضحاك بن مزاحم، فأمر الله تعالى بذكره ليذهب الشيطان عن القلب كما يذهب عند النداء بالأذان، والحسنة تذهب السيئة، فإذا زال السبب للنسيان انزاح، فحصل الذكر لشيء بسبب ذكر الله تعالى، والله أعلم‏.‏

من لم ير بأسا أن يقول‏:‏ سورة البقرة، وسورة كذا وكذا

حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم، عن علقمة وعبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود الأنصاري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه‏"‏‏.‏

وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة من حديث عبد الرحمن بن يزيد وصاحبا الصحيح والنسائي وابن ماجة من حديث علقمة، كلاهما عن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البكري‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ ما رواه من حديث الزهري، عن عروة، عن المِسْوَر وعبد الرحمن بن عبدٍ القارئ، كلاهما عن عمر قال‏:‏ سمعت هشام بن حكيم ‏[‏بن حزام‏]‏ يقرأ سورة الفرقان‏.‏‏.‏ وذكر الحديث بطوله، كما تقدم، وكما سيأتي‏.‏

الحديث الثالث‏:‏ ما رواه من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئا يقرأ من الليل في المسجد، فقال‏:‏ ‏"‏يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن من سورة كذا وكذا‏"‏‏.‏

وهكذا في الصحيحين عن ابن مسعود‏:‏ أنه كان يرمي الجمرة من الوادي ويقول‏:‏ هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة‏.‏ وكره بعض السلف ذلك، ولم يروا إلا أن يقال‏:‏ السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، كما تقدم من رواية يزيد الفارسي عن ابن عباس، عن عثمان أنه قال‏:‏ إذا نزل شيء من القرآن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اجعلوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ‏"‏، ولا شك أن هذا أحوط وأولى، ولكن قد صحت الأحاديث بالرخصة في الآخر، وعليه عملُ الناس اليوم في ترجمة السور في مصاحفهم، وبالله التوفيق‏.‏

الترتيل في القراءة

وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏، يكره أن يهذ كهذ الشعر، يفرق‏:‏ يفصل، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ فصلناه‏.‏

حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل ‏[‏وهو ابن حيان الأحدب‏]‏ عن أبي وائل، عن عبد الله قال‏:‏ غدونا على عبد الله، فقال رجل‏:‏ قرأت المفصل البارحة، فقال‏:‏ هذا كهذِّ الشعر، إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القراءات التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم‏.‏

ورواه مسلم عن شيبان بن فَرُّوخ، عن مهدي بن ميمون، عن واصل -وهو ابن حيان الأحدب- عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن زياد بن نعيم، عن مسلم بن مِخْراق، عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين، فقالت‏:‏ أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا، كنت أقوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب إليه‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه‏.‏ وذكر تمام الحديث كما سيأتي، وهو متفق عليه، وفيه والذي قبله دليل على استحباب ترتيل القراءة والترسل فيها من غير هَذْرَمة ولا سرعة مفرطة، بل بتأمل وتفكر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقال لصاحب القرآن‏:‏ اقرأ وارْقَ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها‏"‏‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال‏:‏ قرأ علقمة على عبد الله، فكأنه عجل، فقال عبد الله‏:‏ فداك أبي وأمي، رتل فإنه زين القرآن‏.‏ قال‏:‏ وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن‏.‏

وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي جمرة قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إني سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال‏:‏ لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول‏.‏

وحدثنا حجاج، عن شعبة وحماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس نحو ذلك، إلا أن في حديث حماد‏:‏ أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة‏.‏

ثم قال البخاري، رحمه الله‏:‏ مد القراءة

حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم الأزدي، حدثنا قتادة قال‏:‏ سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كان يمد مدا‏.‏

وهكذا رواه أهل السنن، من حديث جرير بن حازم به وحدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن قتادة قال‏:‏ سئل أنس بن مالك‏:‏ كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ كانت مدًا، ثم قرأ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم‏.‏ انفرد به البخاري من هذا الوجه وفي معناه الحديث الذي رواه الإمام أبو عبيد‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، عن عبد الله بن المبارك، عن الليث بن سعد، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن يعلى بن مَملك، عن أم سلمة‏:‏ أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفًا حرفًا‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن يحيى بن إسحاق، وأبو داود عن يزيد بن خالد الرملي، والترمذي والنسائي، كلاهما عن قتيبة، كلهم عن الليث بن سعد به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ وحدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن أم سلمة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته؛ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏ الرحمن الرحيم‏.‏ مالك يوم الدين‏.‏ وهكذا‏.‏ رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن جريج‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ غريب وليس إسناده بمتصل، يعني‏:‏ أن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكة لم يسمعه من أم سلمة، وإنما رواه عن يعلى بن مَمْلَك، كما تقدم، والله أعلم‏.‏ الترجيع

حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا أبو إياس قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مغفل قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته -أو جمله- وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجع‏.‏

آ آ آ - وقد تقدم هذا الحديث في القراءة على الدابة وأنه من المتفق عليه، وفيه أن ذلك كان يوم الفتح، وأما الترجيع‏:‏ فهو الترديد في الصوت كما جاء -أيضا- في البخاري أنه جعل يقول‏:‏ ‏(‏آ آ آ‏)‏، وكان ذلك صدر من حركة الدابة تحته، فدل على جواز التلاوة عليها، وإن أفضى إلى ذلك ولا يكون ذلك من باب الزيادة في الحروف، بل ذلك مغتفر للحاجة، كما يصلي على الدابة حيث توجهت به، مع إمكان تأخير ذلك الصلاة إلى القبلة، والله أعلم‏.‏ حسن الصوت بالقراءة

حدثنا محمد بن خلف أبو بكر، حدثنا أبو يحيى الحمّاني، حدثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ‏"‏ وهذا رواه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكندي، عن أبي يحيى الحمّاني -واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن- وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وقد رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة، عن أبي موسى وفيه قصة، وقد تقدم الكلام على تحسين الصوت عند قول البخاري‏:‏ من لم يتغن بالقرآن، وذكرنا هنا أحكاما كافية عن إعادتها هاهنا، والله أعلم‏.‏ من أحب أن يسمع القرآن من غيره

حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏قال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرأ عليّ القرآن‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ عليك أقرأ وعليك أنزل‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏"‏‏"‏‏.‏

وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق عن الأعمش وله طرق يطول ذكرها وبسطها، وقد تقدم فيما رواه مسلم من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة، عن أبي موسى‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أما والله لو أعلم أنك تستمع قراءتي لحَبَّرْتها لك تحبيرا‏.‏

وقال الزهري، عن أبي سلمة‏:‏ كان عمر إذا رأى أبا موسى قال‏:‏ ذكرنا ربنا يا أبا موسى‏.‏ فيقرأ عنده‏.‏

وقال أبو عثمان النهدي‏:‏ كان أبو موسى يصلي بنا، فلو قلت‏:‏ إني لم أسمع صوت صنج قط ولا بربط قط، ولا شيئا قط أحسن من صوته‏.‏ قول المقريء للقارئ‏:‏ حسبك

حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرأ عليّ‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏، فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏حسبك الآن‏"‏ ‏[‏فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان‏]‏‏.‏

أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه، من رواية الأعمش به ووجه الدلالة ظاهر، وكذا الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا‏"‏‏.‏ في كم يقرأ القرآن وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏

حدثنا علي، حدثنا سفيان، قال‏:‏ قال لي ابن شبرمة‏:‏ نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات‏.‏ فقلت‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات‏.‏ قال سفيان‏:‏ أخبرنا منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، أخبره علقمة عن أبي مسعود، فلقيته وهو يطوف بالبيت، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه‏.‏

وقد تقدم أن هذا الحديث متفق عليه، وقد جمع البخاري فيما بين عبد الرحمن بن يزيد وعلقمة عن أبي مسعود وهو صحيح؛ لأن عبد الرحمن سمعه أولا من علقمة، ثم لقي أبا مسعود وهو يطوف فسمعه منه، وعليّ هذا هو ابن المديني وشيخه هو سفيان بن عيينة، وما قاله عبد الله بن شبرمة -فقيه الكوفة في زمانه- استنباط حسن، وقد جاء في حديث في السنن‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات ‏"‏ ولكن هذا الحديث -أعني حديث أبي مسعود- أصح وأشهر وأخص، ولكن وجه مناسبته للترجمة التي ذكرها البخاري فيه نظر، والله أعلم‏.‏

والحديث الثاني أظهر في المناسبة وهو قوله‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عَوَانة، عن مغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كِنّتَه فيسألها عن بعلها فتقول‏:‏ نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏‏"‏ألقنى به‏"‏، فلقيته بعد، فقال‏:‏ ‏"‏كيف تصوم‏؟‏‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ كل يوم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏وكيف تختم‏؟‏‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ كل ليلة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صم كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر‏"‏‏:‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صم ثلاثة أيام في الجمعة‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أفطر يومين وصوم يوما‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أطيق أكثر من ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرةً‏"‏، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏!‏ وذلك أني كبرت وضعفت، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرأ يعرضه بالنهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في ثلاث وفي خمس وأكثرهم على سبع‏"‏‏.‏

وقد رواه في الصوم، والنسائي -أيضا- عن بُنْدَار عن غُنْدَر، عن شعبة، عن مغيرة، والنسائي من حديث حصين، كلاهما عن مجاهد به‏.‏

ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن -مولى بني زهرة -عن أبي سلمة‏:‏ قال‏:‏ وأحسبني قال‏:‏ سمعت أنا من أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏قال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرأ القرآن في شهر‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ إني أجد قوة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك‏"‏‏"‏‏.‏ فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع، وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد‏:‏ حدثنا حجاج وعمر بن طارق ويحيى بن بكير، كلهم عن ابن لَهِيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن قيس بن أبي صعصعة؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا رسول الله، في كم أقرأ القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏في كل خمس عشرة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ إني أجد في أقوى من ذلك، قال‏:‏ ‏"‏ففي كل جمعة‏"‏‏.‏

وحدثنا حجاج عن شعبة، عن محمد بن ذكوان -رجل من أهل الكوفة- قال‏:‏ سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة‏.‏

وعن حجاج، عن شعبة، عن أيوب‏:‏ سمعت أبا قِلابة، عن أبي المهلب قال‏:‏ كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في كل ثمان‏.‏

وحدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن أبي قلابة قال‏:‏ كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في كل ثمان‏.‏

وكان تميم الداري يختمه في كل سبع، وحدثنا هُشَيْم، عن الأعمش، عن إبراهيم‏:‏ أنه كان يختم القرآن في كل سبع‏.‏

وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال‏:‏ كان الأسود يختم القرآن في كل ست، وكان علقمة يختمه في كل خمس‏.‏

فلو تركنا ومجرد هذا لكان الأمر في ذلك جليا، ولكن دلت أحاديث أخرجوها على جواز قراءته فيما دون ذلك، كما رواه الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا حبان ابن واسع، عن أبيه، عن سعد بن المنذر الأنصاري؛ أنه قال‏:‏ يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكان يقرؤه حتى توفي‏.‏

وهذا إسناد جيد قوي حسن، فإن حسن بن موسى الأشيب ثقة متفق على جلالته روى له الجماعة وابن لَهِيعة، إنما يخشى من تدليسه وسوء حفظه، وقد صرح هاهنا بالسماع، وهو من الأئمة العلماء بالديار المصرية في زمانه، وشيخه حبان بن واسع بن حبان وأبوه، كلاهما من رجال مسلم، والصحابي لم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة، وهذا على شرط كثير منهم، والله أعلم‏.‏

وقد رواه أبو عبيد، رحمه الله، عن ابن كثير عن ابن لَهِيعة، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال‏:‏ ‏"‏يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، إن استطعت‏"‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكان يقرؤه كذلك حتى توفي‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا يزيد، عن همام، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث‏"‏‏.‏

وهكذا أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث قتادة به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا يوسف بن الغرق، عن الطيب بن سليمان، حدثتنا عمرة بنت عبد الرحمن‏:‏ أنها سمعت عائشة تقول‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث‏.‏

هذا حديث غريب وفيه ضعف، فإن الطيب بن سليمان هذا بصري، ضعفه الدارقطني، وليس هو بذاك المشهور، والله أعلم‏.‏

وقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق وابن راهويه وغيرهما من الخلف -أيضا- قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا يزيد، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أبي العالية، عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث‏.‏ صحيح‏.‏

وحدثنا يزيد، عن سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن أبي عبيدة قال‏:‏ ‏[‏قال‏]‏ عبد الله‏:‏ من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز‏.‏ وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله مثله سواء‏.‏

وحدثنا حجاج، عن شعبة، عن محمد بن ذَكْوَان، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه؛ أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث‏.‏ إسناده صحيح‏.‏

وفي المسند عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به‏"‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏لا تغلوا فيه‏"‏ أي‏:‏ لا تبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة، فإن ذلك ينافي التدبر غالبا؛ ولهذا قابله بقوله‏:‏ ‏"‏ولا تجفوا عنه‏"‏ أي‏:‏ لا تتركوا تلاوته‏.‏ فصل

وقد ترخص جماعة من السلف في تلاوة القرآن في أقل من ذلك؛ منهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن خَصيفة، عن السائب بن يزيد‏:‏ أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد فقال‏:‏ إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان، رضي الله عنه، فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ لأعلين الليلة على الحجر، فقمت، فلما قمت إذا أنا برجل مقنع يزحمني، فنظرت فإذا عثمان بن عفان، فتأخرت عنه، فصلى فإذا هو يسجد سجود القرآن، حتى إذا قلت‏:‏ هذه هوادي الفجر، أوتر بركعة لم يصل غيرها‏.‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏

قال وحدثنا هُشَيْم، عن منصور، عن ابن سيرين قال‏:‏ قالت نائلة بنت الفرافصة الكلبية حيث دخلوا على عثمان ليقتلوه‏:‏ إن يقتلوه أو يدعوه، فقد كان يحيى الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن‏.‏ وهذا حسن أيضا‏.‏

وقال -أيضا-‏:‏ حدثنا أبو معاوية، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين‏:‏ إن تميما الداري قرأ القرآن في ركعة‏.‏

حدثنا حجاج بن شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير‏:‏ أنه قال‏:‏ قرأت القرآن في ركعة في البيت -يعني الكعبة‏.‏

وحدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة، طاف بالبيت أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالطول، ثم طاف بالبيت أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثانى، ثم طاف بالبيت أسبوعا ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن‏.‏

وهذه كلها أسانيد صحيحة، ومن أغرب ما هاهنا‏:‏ ما رواه أبو عبيد‏:‏ حدثنا سعيد بن عُفَيْر، عن بكر بن مضر، أن سليم بن عتر التجيبي كان يختم القرآن في ليلة ثلاث مرات، ويجامع ثلاث مرات‏.‏ قال‏:‏ فلما مات قالت امرأته‏:‏ رحمك الله، إن كنت لترضى ربك وترضى أهلك، قالوا‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قالت‏:‏ كان يقوم من الليل فيختم القرآن، ثم يلم بأهله ثم يغتسل، ويعود فيقرأ حتى يختم ثم يلم بأهله، ثم يغتسل، ويعود فيقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله ثم يغتسل، ويخرج إلى صلاة الصبح‏.‏

قلت‏:‏ كان سليم بن عتر تابعيا جليلا ثقة نبيلا وكان قاضيا بمصر أيام معاوية وقاصّها، ثم قال أبو حاتم‏:‏ روى عن أبي الدرداء، وعنه ابن زحر، ثم قال‏:‏ حدثني محمد بن عوف، عن أبي صالح كاتب الليث، حدثني حرملة بن عمران، عن كعب بن علقمة قال‏:‏ كان سليم بن عتر من خير التابعين‏.‏

وذكره ابن يونس في تاريخ مصر‏.‏

وقد روى ابن أبي داود عن مجاهد أنه كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء‏.‏

وعن منصور قال‏:‏ كان علي الأزدي يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان‏.‏

وعن إبراهيم بن سعد قال‏:‏ كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن‏.‏

قلت‏:‏ وروي عن منصور بن زاذان‏:‏ أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر، ويختم أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرونها قليلا‏.‏

وعن الإمام الشافعي، رحمه الله‏:‏ أنه كان يختم في اليوم والليلة من شهر رمضان ختمتين، وفي غيره ختمة‏.‏

وعن أبي عبد الله البخاري -صاحب الصحيح-‏:‏ أنه كان يختم في الليلة ويومها من رمضان ختمة‏.‏

ومن غريب هذا وبديعه ما ذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي قال‏:‏ سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول‏:‏ كان ابن الكاتب يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات‏.‏

وهذا نادر جدا‏.‏ فهذا وأمثالة من الصحيح عن السلف محمول إما على أنه ما بلغهم في ذلك حديث مما تقدم، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة، والله أعلم‏.‏

والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهَذْرَمة - قال الشيخ أبو زكريا النووي في كتابه التبيان بعد ذكر طرف مما تقدم‏:‏ ‏(‏والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهَذْرَمة‏)‏‏.‏

ثم قال البخاري، رحمه الله‏:‏ البكاء عند القراءة

وأورد فيه من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرأ عليّ‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إني أشتهي أن أسمعه من غيري‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقرأت النساء، حتى إذا بلغت‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، قال لي‏:‏ ‏"‏كفّ أو أمسك‏"‏، فرأيت عيناه تذرفان‏"‏‏.‏

وهذا من المتفق عليه كما تقدم، وكما سيأتي إن شاء الله‏.‏ من راءى بقراءة القرآن

أو تَأكَّل به أو فجر به

حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثنا الأعمش، عن خَيْثَمة، عن سُوَيد بن غفلة، قال علي، رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏.‏ وقد روى في موضعين آخرين، ومسلم وأبو داود والنسائي، من طرق عن الأعمش به حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئًا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق‏"‏‏.‏

ورواه في موضع آخر، ومسلم -أيضا- والنسائي من طرق عن الزهري، عن أبي سلمة به‏.‏

حدثنا مُسَدَّد بن مسرهد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي موسى، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مرّ‏"‏‏.‏

ورواه في موضع آخر مع بقية الجماعة من طرق، عن قتادة به‏.‏

ومضمون هذه الأحاديث التحذير من المراءاة بتلاوة القرآن التي هي من أعظم القرب، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏واعلم أنك لن تتقرب إلى الله بأعظم مما خرج منه ‏"‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏

والمذكورون في حديث علي وأبي سعيد هم الخوارج، وهم الذين لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وقد قال في الرواية الأخرى‏:‏ ‏"‏يحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم، وصلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم‏"‏‏.‏ ومع هذا أمر بقتلهم لأنهم مراؤون في أعمالهم في نفس الأمر، وإن كان بعضهم قد لا يقصد ذلك، إلا أنهم أسسوا أعمالهم على اعتقاد غير صالح، فكانوا في ذلك كالمذمومين في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏، وقد اختلف العلماء في تكفير الخوارج وتفسيقهم ورد روايتهم، كما سيأتي ‏[‏تفصيله‏]‏ في موضعه إن شاء الله‏.‏ والمنافق المشبه بالريحانة التي لها الريح ظاهر وطعمها مر هو المرائي بتلاوته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم

حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا ‏[‏عنه‏]‏‏"‏‏.‏

حدثنا عمرو بن علي بن بحر الفلاس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سلام بن أبي مطيع، عن أبي عمران الجوني، عن جُنْدُب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا ‏[‏عنه‏]‏‏"‏‏.‏

تابعه الحارث بن عُبَيْد وسعيد بن زيد، عن أبي عمران، ولم يرفعه حماد بن سلمة وأبان‏.‏

وقال غُنْدَر‏:‏ عن شعبة، عن أبي عمران قال‏:‏ سمعت جُنْدُبا‏.‏ قوله‏:‏ وقال ابن عون، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر قوله‏.‏ وجندب أصح وأكثر‏.‏

وقد رواه في موضع آخر، ومسلم كلاهما عن إسحاق بن منصور، عن عبد الصمد، عن همام، عن أبي عمران به ومسلم -أيضا- عن يحيى بن يحيى، عن الحارث بن عبيد أبي قدامة، عن أبي عمران به، ورواه مسلم -أيضا- عن أحمد بن سعيد، عن حبان بن هلال، عن أبان العطار، عن أبي عمران به مرفوعا‏.‏

وقد حكى البخاري‏:‏ أن أبان وحماد بن سلمة لم يرفعاه، فالله أعلم‏.‏

ورواه النسائي والطبراني من حديث مسلم بن إبراهيم، عن هارون بن موسى الأعور النحوي، عن أبي عمران به‏.‏ ورواه النسائي -أيضا- من طرق عن سفيان، عن حجاج بن فرافصة، عن أبي عمران به مرفوعا وفي رواية عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، عن أبيه، عن سفيان عن حجاج، عن أبي عمران، عن جُنْدُب موقوفا، ورواه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الله بن عون، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر قوله‏.‏

قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ لم يخطئ ابن عون في حديث قط إلا في هذا، والصواب عن جندب‏.‏ ‏[‏ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن مسلم بن إبراهيم وسعيد بن منصور قالا حدثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران، عن جندب مرفوعا‏]‏‏.‏

فهذا مما تيسر من ذكر طرق هذا الحديث على سبيل الاختصار، والصحيح منها ما أرشد إليه شيخ هذه الصناعة أبو عبد الله البخاري، رحمه الله، من أن الأكثر والأصح‏:‏ أنه عن جندب بن عبد الله مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومعنى الحديث أنه، عليه السلام، أرشد وحض أمته على تلاوة القرآن إذا كانت القلوب مجتمعة على تلاوته، متفكرة فيه، متدبرة له، لا في حال شغلها وملالها، فإنه لا يحصل المقصود من التلاوة بذلك كما ثبت في الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا وقال‏:‏ ‏"‏أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ‏"‏، وفي اللفظ الآخر‏:‏ ‏"‏أحب الأعمال إلى الله أدومها ‏[‏وإن قل‏]‏‏"‏‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال ابن سبرة، عن عبد الله -هو ابن مسعود- ‏"‏ أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏كلاكما محسن فاقرآ‏"‏ أكبر علمي قال‏:‏ ‏"‏فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم الله عز وجل‏"‏‏"‏‏.‏

وأخرجه النسائي من رواية شعبة به وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه، وأنه ينهى عن الاختلاف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك، والله أعلم‏.‏

وقريب من هذا ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه‏:‏ حدثنا أبو محمد سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن الأعمش، عن عاصم، عن زر بن حبيش قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ تمارينا في سورة من القرآن فقلنا‏:‏ خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية قال‏:‏ فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا عليا بناصية فقلنا له‏:‏ اختلفنا في القراءة، فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما قد علمتم‏.‏

وهذا آخر ما أورده البخاري، رحمه الله، في كتاب فضائل القرآن، جل منزله، وتعالى قائله، ولله الحمد والمنة‏.‏