فصل: تفسير الآيات رقم (38 - 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 39‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عما يقوله لهؤلاء المشركين به، المفترين عليه المكذبين بآياته‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ‏}‏ أي‏:‏ من أشكالكم وعلى صفاتكم، ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأمم السالفة الكافرة، ‏{‏مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ‏}‏ يحتمل أن يكون بدلا من قوله‏:‏ ‏{‏فِي أُمَمٍ‏}‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏فِي أُمَمٍ‏}‏ أي‏:‏ مع أمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ كما قال الخليل، عليه السلام‏:‏ ‏{‏ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ‏[‏وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏25‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏166، 167‏]‏‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ اجتمعوا فيها كلهم، ‏{‏قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أخراهم دخولا -وهم الأتباع -لأولاهم -وهم المتبوعون -لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، فيقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ أضعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ‏[‏وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏]‏‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏66-68‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا ‏[‏فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏]‏‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏88‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ‏[‏وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏]‏‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏13‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ‏[‏أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏‏]‏‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏25‏]‏ ‏{‏وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قال المتبوعون للأتباع‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ‏}‏ قال السدي‏:‏ فقد ضللتم كما ضللنا‏.‏

‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ وهذا الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏31-33‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 41‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ‏}‏ قيل‏:‏ المراد‏:‏ لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء‏.‏قاله مجاهد، وسعيد بن جبير‏.‏ ورواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏.‏ وكذا رواه الثوري، عن ليْث، عن عطاء، عن ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء‏.‏ رواه الضحاك، عن ابن عباس‏.‏ وقاله السُّدِّي وغير واحد، ويؤيده ما قال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن المِنْهَال -هو ابن عمرو -عن زاذان، عن البراء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قَبْض روح الفاجر، وأنه يُصْعَد بها إلى السماء، قال‏:‏ ‏"‏فيصعدون بها، فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الخبيثة‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُدْعَى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون بابها له فلا يفتح له‏"‏‏.‏ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ‏[‏وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏ هكذا رواه، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من طرق، عن المنهال بن عمرو، به وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَد‏.‏ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال‏:‏ ‏"‏استعيذوا بالله من عذاب القبر‏"‏‏.‏ مرتين أو ثلاثًا ثم قال‏:‏ ‏"‏إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ بصره‏.‏ ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول‏:‏ أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط‏.‏ ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض‏.‏ فيصعدون بها فلا يمرون -يعني- بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذا الروح الطيب‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله، عز وجل‏:‏ اكتبوا كتاب عبدي في عِليِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏فتعاد روحه، فيأتيه مَلَكان فيجلسانه فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله‏.‏ فيقولان له ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ ديني الإسلام‏.‏ فيقولان له‏:‏ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فيقولان له‏:‏ وما علمك‏؟‏ فيقول‏:‏ قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت‏.‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة‏"‏‏.‏ ‏"‏فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مَدّ بصره‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول‏:‏ أبشر بالذي يسُرك، هذا يومك الذي كنت توعد‏.‏ فيقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فوجهك الوجه يجيء بالخير‏.‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح‏.‏ فيقول‏:‏ رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مَدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول‏:‏ أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وغضب‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فَتُفَرّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض‏.‏ فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذا الروح الخبيث‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ‏}‏ فيقول الله، عز وجل‏:‏ اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى‏.‏ فتطرح روحه طرحا‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏31‏]‏ ‏"‏فتعاد روحه في جسده‏.‏ ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه‏!‏ لا أدري‏.‏ فيقولان ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه‏!‏ لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه هاه ‏!‏ لا أدري‏.‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار‏.‏ فيأتيه من حَرّها وسمومها، ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول‏:‏ أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا يومك الذي كنت توعد فيقول‏:‏ من أنت‏؟‏ فوجهك الوجه يجيء بالشر‏.‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الخبيث‏.‏ فيقول‏:‏ رب لا تقم الساعة‏"‏وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يونس بن خَبَّاب، عن المِنْهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة، فذكر نحوه‏.‏

وفيه‏:‏ ‏"‏حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك من السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله، عز وجل، أن يعرج بروحه من قبلهم‏"‏‏.‏ وفي آخره‏:‏ ‏"‏ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، في يده مَرْزَبَّة لو ضرب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربة فيصير ترابًا، ثم يعيده الله، عز وجل، كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين‏"‏‏.‏ قال البراء‏:‏ ‏"‏ثم يفتح له باب من النار، ويمهد له فرش من النار‏"‏ وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه وابن جرير -واللفظ له -من حديث محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يَسَار، عن أبي هريرة ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا‏:‏ اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حَمِيدة، وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فيقولون ذلك حتى يُعْرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقولون‏:‏ من هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان‏.‏ فيقال‏:‏ مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهى به إلى السماء التي فيها الله، عز وجل‏.‏ وإذا كان الرجل السَّوْء قالوا‏:‏ اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغَسّاق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان‏.‏ فيقولون‏:‏ لا مرحبًا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لم تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر‏"‏

وقد قال ابن جُرَيج في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ‏}‏ قال‏:‏ لا تفتح لأعمالهم، ولا لأرواحهم‏.‏ وهذا فيه جمع بين القولين، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ‏}‏ هكذا قرأه الجمهور، وفسروه بأنه البعير‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ هو الجمل ابن الناقة‏.‏ وفي رواية‏:‏ زوج الناقة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ حتى يدخل البعير في خُرْق الإبرة‏.‏ وكذا قال أبو العالية، والضحاك‏.‏ وكذا روى علي بن أبي طلحة، والعَوْفي عن ابن عباس‏.‏

وقال مجاهد، وعكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏"‏‏[‏حتى‏]‏ يلج الجُمَّل في سم الخياط‏"‏ بضم الجيم، وتشديد الميم، يعني‏:‏ الحبل الغليظ في خرم الإبرة‏.‏

وهذا اختيار سعيد بن جبير‏.‏ وفي رواية أنه قرأ‏:‏ ‏"‏حتى يلج الجُمَّل‏"‏ يعني‏:‏ قُلُوس السفن، وهي الحبال الغلاظ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ‏[‏وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏]‏‏}‏ قال محمد بن كعب القُرَظِي‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ‏}‏ قال‏:‏ الفرش، ‏{‏وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ قال‏:‏ اللحُفُ‏.‏

وكذا قال الضحاك بن مُزاحِم، والسُّدِّي، ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 43‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء، فقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ أي‏:‏ آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم، ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله، واستكبروا عنها‏.‏

وينبه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل؛ لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏.‏ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏ أي‏:‏ من حسد وبغضاء، كما جاء في الصحيح للبخاري، من حديث قتادة، عن أبي المتوكِّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة؛ فوالذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا‏"‏

وقال السُّدِّي في قوله‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ‏}‏ الآية‏:‏ إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو ‏"‏الشراب الطهور‏"‏، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم ‏"‏نضرة النعيم‏"‏ فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا‏.‏وقد روى أبو إسحاق، عن عاصم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك كما سيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قال علي، رضي الله عنه‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن عيينة، عن إسرائيل قال‏:‏ سمعت الحسن يقول‏:‏ قال علي‏:‏ فينا والله أهل بدر نزلت‏:‏ ‏{‏وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏ وروى النسائي وابن مَرْدُويه -واللفظ له -من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول‏:‏ لولا أن الله هداني، فيكون له شكرًا‏.‏ وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول‏:‏ لو أن الله هداني فيكون له حسرة‏"‏

ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا‏:‏ ‏{‏أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم‏.‏ وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44 - 45‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ‏}‏

يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ‏:‏ ‏{‏أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ‏[‏فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا‏]‏‏}‏ أن‏"‏ هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف، و‏"‏قد‏"‏ للتحقيق، أي‏:‏ قالوا لهم‏:‏ ‏{‏قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ‏}‏ كما أخبر تعالى في سورة ‏"‏الصافات‏"‏ عن الذي كان له قرين من الكفار‏:‏ ‏{‏فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الآيات‏:‏55-59‏]‏ أي‏:‏ ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذا تقرعهم الملائكة يقولون لهم‏:‏ ‏{‏هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏14-16‏]‏ وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر، فنادى‏:‏ ‏"‏يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة -وسمى رءوسهم-‏:‏ هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏؟‏ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا‏"‏‏.‏ وقال عمر‏:‏ يا رسول الله، تخاطب قومًا قد جَيفوا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعلم معلم ونادى مُنَاد‏:‏ ‏{‏أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ مستقرة عليهم‏.‏

ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي‏:‏ جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به‏.‏ فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه، ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 47‏]‏

‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏

لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهو السور الذي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏13‏]‏ وهو الأعراف الذي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ‏}‏ ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ‏}‏ وهو ‏"‏السور‏"‏، وهو ‏"‏الأعراف‏"‏‏.‏وقال مجاهد‏:‏ الأعراف‏:‏ حجاب بين الجنة والنار، سور له باب‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والأعراف جمع ‏"‏عُرْف‏"‏، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى ‏"‏عرفًا‏"‏، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه‏.‏

وحدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن عيينة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول‏:‏ الأعراف هو الشيء المشرف‏.‏

وقال الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ الأعراف‏:‏ سور كعُرْف الديك‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ الأعراف، تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ هو سور بين الجنة والنار‏.‏ وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنما سمي ‏"‏الأعراف‏"‏ أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس‏.‏

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم‏.‏ نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله‏.‏ وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه‏:‏ حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن الحسين، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا شيخ لنا يقال له‏:‏ أبو عباد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال‏:‏ ‏"‏أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه من وجه آخر، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال‏:‏ ‏"‏إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله‏"‏

وقال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا يحيى بن شِبْل، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ‏"‏أصحاب الأعراف‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار قتلهم في سبيل الله‏"‏‏.‏

هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق، عن أبي معشر به وكذلك رواه ابنُ ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏ والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال‏:‏ فقال‏:‏ هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار‏.‏ قال‏:‏ فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم‏.‏

وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال‏:‏ حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال‏:‏ قال الشعبي‏:‏ أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن -وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش -وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلت لهما‏:‏ إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات‏.‏ فقلت‏:‏ إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال‏:‏ هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ فبينا هم كذلك، اطلع عليهم ربك فقال لهم‏:‏ اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال‏:‏ قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار‏.‏ ثم قرأ قول الله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏[‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون‏]‏‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏102، 103‏]‏ ثم قال‏:‏ إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال‏:‏ ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا‏:‏ سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ فتعوذوا بالله من منازلهم‏.‏ قال‏:‏ فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمة نورًا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة‏.‏ فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏8‏]‏‏.‏ وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع، فهنالك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ‏}‏ فكان الطمع دخولا‏.‏ قال‏:‏ وقال ابن مسعود‏:‏ على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة‏.‏ ثم يقول‏:‏ هلك من غلبت واحدته أعشاره‏.‏ رواه ابن جرير وقال أيضا‏:‏ حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏الأعراف‏"‏‏:‏ السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له‏:‏ ‏"‏الحياة‏"‏، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال‏:‏ تمنوا ما شئتم فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم‏:‏ لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا‏.‏ فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين أهل الجنة‏.‏

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن يحيى بن المغيرة، عن جرير، به‏.‏ وقد رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، من قوله وهذا أصح، والله أعلم‏.‏ وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد‏.‏

وقال سُنَيْد بن داود‏:‏ حدثني جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد قال‏:‏ أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم‏"‏‏.‏ وهذا مرسل حسن وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ‏"‏الوليد بن موسى‏"‏، عن منبه بن عثمان عن عُرْوَة بن رُوَيْم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم فقال‏:‏ ‏"‏على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فسألناه‏:‏ وما الأعراف‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏حائط الجنة تجري فيها الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار‏"‏‏.‏ رواه البيهقي، عن ابن بشران، عن علي بن محمد المصري، عن يوسف بن يزيد، عن الوليد بن موسى، به وقال سفيان الثوري، عن خُصَيف، عن مجاهد قال‏:‏ أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال‏:‏ ‏{‏وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا‏}‏ في النار ‏{‏يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ‏}‏ قال‏:‏ فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏ وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق‏:‏ وقول الجمهور مقدم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه‏.‏ وكذا قول مجاهد‏:‏ إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها‏:‏ أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة، دخلوا يطلعون على أخبار الناس‏.‏ وقيل‏:‏ هم أنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ ملائكة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه‏.‏ وكذا روى الضحاك، عنه‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين‏.‏ وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله‏.‏

وكذا قال مجاهد، والضحاك، والسدي، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وقال مَعْمَر، عن الحسن‏:‏ إنه تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ‏}‏ قال‏:‏ والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم‏.‏ وقال قتادة ‏[‏قد‏]‏ أنبأكم الله بمكانهم من الطمع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ وقال السُّدِّي‏:‏ وإذا مروا بهم -يعني بأصحاب الأعراف -بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏

وقال عكرمة‏:‏ تحدد وجوههم في النار، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 49‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏

يقول الله تعالى مخبرًا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كثرتكم، ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله، بل صرتم إلى ما صرتم فيه من العذاب والنكال‏.‏ ‏{‏أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف ‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ‏[‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏]‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا -يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار- قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ لأهل التكبر والأموال‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ وقال حذيفة‏:‏ إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجُعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم فقالوا‏:‏ يا آدم، أنت أبونا، فاشفع لنا عند ربك‏.‏ فقال‏:‏ هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبَه، وسجدت له الملائكة غيري‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ فيقول‏:‏ ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم‏.‏ فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم، فيقول‏:‏ ‏[‏هل‏]‏ تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا‏؟‏ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم‏.‏ ولكن ائتوا ابني موسى‏.‏ فيأتون موسى، عليه السلام، ‏[‏فيقولون‏:‏ اشفع لنا عند ربك‏]‏ فيقول‏:‏ هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا فيقول‏:‏ ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى‏.‏ فيأتونه، عليه السلام، فيقولون له‏:‏ اشفع لنا عند ربك‏.‏ فيقول‏:‏ هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري‏؟‏ قال‏:‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ أنا حجيج نفسي‏.‏ ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم‏.‏ ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول‏:‏ أنا لها‏.‏ ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فآتي ربي، عز وجل، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط، ثم أسجد فيقال لي‏:‏ يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع‏.‏ فأرفع رأسي، فأقول‏:‏ ربي أمتي‏.‏ فيقول‏:‏ هم لك‏.‏ فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا غبطني بذلك المقام، وهو المقام المحمود‏.‏ فآتي بهم الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له‏:‏ نهر الحيوان، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت‏.‏ فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة، وريح ‏[‏أهل الجنة‏]‏ فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم‏:‏ مساكين أهل الجنة‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 51‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، وأنهم لا يجابون إلى ذلك‏.‏

قال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ يستطعمونهم ويستسقونهم‏.‏

وقال الثوري، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال‏:‏ ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول‏:‏ قد احترقت، أفض علي من الماء‏.‏ فيقال لهم‏:‏ أجيبوهم‏.‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ وروي من وجه آخر عن سعيد، عن ابن عباس، مثله ‏[‏سواء‏]‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ طعام الجنة وشرابها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا موسى بن المغيرة، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال‏:‏ سألت ابن عباس -أو‏:‏ سئل -‏:‏ أي الصدقة أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أفضل الصدقة الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا‏:‏ ‏{‏أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ‏}‏ وقال أيضا‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال‏:‏ لما مرض أبو طالب قالوا له‏:‏ لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا، فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به‏.‏ فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر‏:‏ إن الله حرمهما على الكافرين

ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة‏.‏

قوله ‏{‏فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ نعاملهم معاملة من نَسيهم؛ لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏52‏]‏ وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة، كما قال‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏67‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏126‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏34‏]‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في ‏[‏قوله‏]‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا‏}‏ قال‏:‏ نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ نتركهم، كما تركوا لقاء يومهم هذا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نتركهم في النار‏.‏ وقال السُّدِّي‏:‏ نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا‏.‏

وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة‏:‏ ‏"‏ألم أزوجك‏؟‏ ألم أكرمك‏؟‏ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ فيقول‏:‏ أظننت أنك ملاقي‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول الله‏:‏ فاليوم أنساك كما نسيتني‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52 - 53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ‏[‏مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏هود‏:‏1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ قال ابن جرير‏:‏ وهذه الآية مردودة على قوله‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ‏[‏لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏2‏]‏‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ ‏[‏فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ‏]‏‏}‏ الآية‏.‏

وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏15‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ‏}‏ أي‏:‏ ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار‏.‏ قاله مجاهد وغير واحد‏.‏

وقال مالك‏:‏ ثوابه‏.‏ وقال الربيع‏:‏ لا يزال يجيء تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، قاله ابن عباس -‏{‏يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا‏}‏ أي‏:‏ في خلاصنا مما نحن فيه، ‏{‏أَوْ نُرَدُّ‏}‏ إلى الدار الدنيا ‏{‏فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏27، 28‏]‏ كما قال هاهنا‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏قد‏]‏ خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيه، ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم مما هم فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏

يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم‏:‏ سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي‏:‏ الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة -وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم، عليه السلام‏.‏ واختلفوا في هذه الأيام‏:‏ هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان‏؟‏ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس‏؟‏ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة -عن أبي هريرة قال‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال‏:‏ ‏"‏خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل‏"‏‏.‏ فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج -وهو ابن محمد الأعور -عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح‏:‏ مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل‏.‏ والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏ بل الأمر كما قال الأئمة -منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -‏:‏ ‏"‏من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر‏"‏‏.‏ وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ أي‏:‏ يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي‏:‏ سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏37-40‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ‏}‏ -منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى، أي‏:‏ الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منَبِّها‏:‏ ‏{‏أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ له الملك والتصرف، ‏{‏تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه -وكانت له صحبة -قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله‏.‏ ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله‏:‏ ‏{‏أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏

وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء -وروي مرفوعا -‏:‏ ‏"‏اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 56‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

أرشد ‏[‏سبحانه و‏]‏ تعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏قيل‏]‏ معناه‏:‏ تذللا واستكانة، و‏{‏خُفْيَة‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ‏[‏تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏205‏]‏ وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب الحديث‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ قال‏:‏ السر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ‏{‏تَضَرُّعًا‏}‏ تذللا واستكانة لطاعته‏.‏ ‏{‏وَخُفْيَة‏}‏ يقول‏:‏ بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال‏:‏ إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس‏.‏ وإن كان الرجل لقد فقُه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس‏.‏ وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به‏.‏ ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا‏.‏ ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ‏[‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏]‏‏}‏ وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏3‏]‏ وقال ابن جُرَيْج‏:‏ يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ في الدعاء ولا في غيره‏.‏

وقال أبو مِجْلِز‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ لا يسأل منازل الأنبياء‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا شعبة، عن زياد ابن مِخْراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول‏:‏ اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها‏.‏ فقال‏:‏ لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء‏"‏‏.‏ وقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ‏[‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏]‏‏}‏ وإن بحسبك أن تقول‏:‏ ‏"‏اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل‏"‏ ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نَعَامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفَّان، حدثنا حَمَّاد بن سلمة، أخبرنا الجريري، عن أبي نَعَامة‏:‏ أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول‏:‏ اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها‏.‏ فقال‏:‏ يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور‏"‏‏.‏

وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به‏.‏ وأخرجه أبو داود، عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نَعَامة -واسمه‏:‏ قيس ابن عباية الحنفي البصري -وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا‏}‏ ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح‏!‏ فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد‏.‏ فنهى ‏[‏الله‏]‏ تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال‏:‏ ‏{‏وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ أي‏:‏ خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏.‏ ‏[‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ‏]‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏قَرِيبٌ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏"‏قريبة‏"‏؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال‏:‏ قريب من المحسنين‏.‏

وقال مطر الوراق‏:‏ تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم‏.‏