فصل: تفسير الآيات رقم (57 -58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏57 -58‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر -نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال‏:‏ ‏"‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا ‏"‏ أي‏:‏ ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ ‏{‏بُشْرًا‏}‏ كقوله ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏46‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ بين يدي المطر، كما قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏28‏]‏ وقال ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى أَثَر رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏50‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا‏}‏ أي‏:‏ حملت الرياح سحابًا ثقالا أي‏:‏ من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله‏.‏

وأسلمتُ وجْهِي لمنْ أسْلَمَتْ *** لَهُ المُزْنُ تَحْمل عَذْبا زُلالا

وأسلَمْتُ وَجْهي لمن أسلَمَتْ *** له الأرض تحملُ صَخرًا ثقالا

وقوله‏:‏ ‏{‏سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى أرض ميتة، مجدبة لا نبات فيها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ‏[‏وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ‏}‏‏]‏‏}‏ ‏[‏يس‏:‏33‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى‏}‏ أي‏:‏ كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رَمِيمًا يوم القيامة، ينزل الله، سبحانه وتعالى، ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض‏.‏ وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله مثلا للقيامة بإحياء الأرض بعد موتها؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا، كما قال‏:‏ ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏37‏]‏

‏{‏وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ كالسباخ ونحوها‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة عن بُرَيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير‏.‏ وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا‏.‏ وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا‏.‏ ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به‏"‏‏.‏ رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 62‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم السلام، الأول فالأولَ، فابتدأ بذكر نوح، عليه السلام، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه السلام، وهو‏:‏ نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ -وهو إدريس ‏[‏النبي‏]‏ عليه السلام -فيما، يزعمون، وهو أول من خط بالقلم -ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه السلام‏.‏ هكذا نسبه ‏[‏محمد‏]‏ بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق‏:‏ ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل‏.‏

وقال يزيد الرقاشي‏:‏ إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه‏.‏

وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام ‏[‏قاله عبد الله ابن عباس‏]‏ قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير‏:‏ وكان أول ما عبدت الأصنام، أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم‏.‏ فلما طال الزمان، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور‏.‏ فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين ‏"‏ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا‏"‏‏.‏ فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة -رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ من عذاب يوم القيامة إنْ لقيتم الله وأنتم مشركون به ‏{‏قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا‏.‏ وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏32‏]‏، ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏11‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما أنا ضال، ولكن أنا رسول من رب كل شيء ومليكه، ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ وهذا شأن الرسول، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا‏:‏ ‏"‏أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم اشهد، اللهم اشهد

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 64‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ‏}‏

يقول تعالى إخبارًا عن نوح ‏[‏عليه السلام‏]‏ أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ ‏[‏أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏]‏‏}‏ أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس يعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي‏:‏ فتمادوا على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر، ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ‏}‏ وهي السفينة، كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏15‏]‏‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏25‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له‏.‏

فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ‏[‏وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ‏]‏ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار ‏[‏غافر‏:‏51، 52‏]‏ وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح ‏[‏عليه االسلام‏]‏ بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين‏.‏

قال مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ما عذب الله قوم نوح ‏[‏عليه السلام‏]‏ إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز‏.‏

وقال ابن وَهْب‏:‏ بلغني عن ابن عباس‏:‏ أنه نجا مع نوح ‏[‏عليه السلام‏]‏ في السفينة ثمانون رجلا أحدهم ‏"‏جُرْهم‏"‏، وكان لسانه عربيا‏.‏

رواهن ابن أبي حاتم‏.‏ وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 69‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ هم ‏[‏من‏]‏ ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح‏.‏

قلت‏:‏ وهؤلاء هم عاد الأولى، الذين ذكرهم الله ‏[‏تعالى‏]‏ وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏6-8‏]‏ وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏15‏]‏‏.‏

وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل‏.‏قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، سمعت علي بن أبي طالب ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ يقول لرجل من حضرموت‏:‏ هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين‏.‏ والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه‏.‏ قال‏:‏ لا ولكني قد حدِّثتُ عنه‏.‏ فقال الحضرمي‏:‏ وما شأنه يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ فيه قبرُ هود، عليه السلام‏.‏ رواه ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، وأن هودا، عليه السلام، دفن هناك، وقد كان من أشرف قومه نسبا؛ لأن الرسل ‏[‏صلوات الله عليهم‏]‏ إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق؛ ولهذا دعاهم هود، عليه السلام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه‏.‏

‏{‏قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ -والملأ هم‏:‏ الجمهور والسادة والقادة منهم -‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ في ضلالة حيث دعوتنا إلى ترك عبادة الأصنام، والإقبال إلى عبادة الله وحده ‏[‏لا شريك له‏]‏ كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد ‏{‏فقالوا‏}‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ‏[‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏‏]‏‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ليست كما تزعمون، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء، فهو رب كل شيء ومليكه ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ‏}‏ وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة‏.‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم، ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أي‏:‏ واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته، لما خالفوه وكذبوه، ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ أي‏:‏ زاد طولكم على الناس بسطة، أي‏:‏ جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كما قال تعالى‏:‏ في قصة طالوت‏:‏ ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏247‏]‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نعمه ومنَنه عليكم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏وألاء جمع ألى وقيل‏:‏ إلى‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 72‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود، عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ‏[‏وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏]‏‏}‏ كما قال الكفار من قريش‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏32‏]‏ وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره‏:‏ أنهم كانوا يعبدون أصناما، فصنم يقال له‏:‏ صُدَاء، وآخر يقال له‏:‏ صمُود، وآخر يقال له‏:‏ الهباء

ولهذا قال هود، عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ‏}‏ أي‏:‏ قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس ‏[‏وغضب‏]‏ قيل‏:‏ هو مقلوب من رجز‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ معناه السخَط والغضب‏.‏

‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏ وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه؛ ولهذا عقب بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ وقد ذكر الله، سبحانه، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏6-8‏]‏ لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كانوا يسكنون باليمن من عمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، فبعث الله إليهم هودًا، عليه السلام، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا‏:‏ من أشد منا قوة‏؟‏ واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏128-131‏]‏‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏.‏ إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ بجنون ‏{‏قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏53-56‏]‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما أبوا إلا الكفر به، أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك، قال‏:‏ وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج فيه، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته، وكان معروفا عند المِلَل وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له‏:‏ ‏"‏معاوية بن بكر‏"‏، وكانت له أم من قوم عاد، واسمها كلهدة ابنة الخيبري، قال‏:‏ فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم، ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية -وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنياهم به، فقال‏:‏

ألا يا قيل ويحك قُْم فَهَيْنم *** لعلّ الله يُصْبحُنَا غَمَاما

فَيَسْقي أرضَ عادٍ إنّ عادًا *** قَد امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلاما

من العطش الشديد فليس نَرجُو *** به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما

وَقَْد كانَت نساؤهُم بخيرٍ *** فقد أمست نِسَاؤهم عَيَامى

وإنّ الوحشَ تأتيهمْ جِهارا *** ولا تَخْشَى لعاديَ سِهَاما

وأنتم هاهُنَا فيما اشتَهَيْتُمْ *** نهارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التماما

فقُبّحَ وَفُْدكم من وَفْدِ قَوْمٍ *** ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما

قال‏:‏ فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم، وهو‏:‏ ‏"‏قيل بن عنز‏"‏ فأنشأ الله سحابات ثلاثا‏:‏ بيضاء، وسوداء، وحمراء، ثم ناداه مناد من السماء‏:‏ ‏"‏اختر لنفسك -أو‏:‏ -لقومك من هذا السحاب‏"‏، فقال‏:‏ ‏"‏اخترت هذه السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء‏"‏ فناداه مناد‏:‏ اخترت رَمادا رِمْدَدًا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدًا تترك ولا ولدا، إلا جعلته هَمدا، إلا بني اللّوذيّة المهندًا قال‏:‏ وبنو اللوذية‏:‏ بطن من عاد مقيمون بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم -قال‏:‏ وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة -قال‏:‏ وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها ‏"‏قيل بن عنز‏"‏ بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له‏:‏ ‏"‏المغيث‏"‏، فلما رأوها استبشروا، وقالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا‏}‏ يقول‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏24، 25‏]‏ أي‏:‏ تهلك كل شيء مَرّت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها‏:‏ مَهْدد فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صُعِقت‏.‏ فلما أفاقت قالوا‏:‏ ما رأيت يا مَهْدد ‏؟‏ قالت ريحا فيها شُهُب النار، أمامها رجال يقودونها‏.‏ فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، كما قال الله‏.‏ و‏"‏الحسوم‏"‏‏:‏ الدائمة -فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود، عليه السلام، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلْتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة‏.‏

وذكر تمام القصة بطولها، وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏58‏]‏

وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال‏:‏ خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي‏:‏ يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه‏؟‏ قال‏:‏ فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ ما شأن الناس‏؟‏ فقالوا‏:‏ يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها‏.‏ قال‏:‏ فجلست، فدخل منزله -أو قال‏:‏ رحله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، قال‏:‏ هل بينكم وبين تميم شيء‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، وكانت لنا الدّبَرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب‏.‏ فأذن لها، فدخلت، فقلت‏:‏ يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء‏.‏ فحميت العجوز واستوفزت، فقالت‏:‏ يا رسول الله، فإلى أين يضطر مُضطَرُك ‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ إن مثلي مثل ما قال الأول‏:‏ ‏"‏معْزَى حَمَلت حتفها‏"‏، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد‏!‏ قال‏:‏ هيه، وما وافد عاد‏؟‏ -وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه -قلت‏:‏ إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له‏:‏ ‏"‏قيل‏"‏، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال لهما‏:‏ ‏"‏الجرادتان‏"‏، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه‏.‏ اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سُودُ، فنودي‏:‏ منها ‏"‏اختر‏"‏‏.‏ فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها‏:‏ ‏"‏خذها رمادا رِمْدِدا، لا تبقي من عاد أحدا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى، هلكوا -قال أبو وائل‏:‏ وصدق -قال‏:‏ وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا‏:‏ ‏"‏لا تكن كوافد عاد‏"‏‏.‏ هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به نحوه‏:‏ ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر‏.‏ عن عاصم -وهو ابن بَهْدَلة -ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، به‏.‏ ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب، به‏.‏ ووقع عنده‏:‏ ‏"‏عن الحارث بن يزيد البكري‏"‏ فذكره، ورواه أيضا عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره ولم أر في النسخة ‏"‏أبا وائل‏"‏، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 78‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏

قال علماء التفسير والنسب‏:‏ ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور‏.‏ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال‏:‏ ‏"‏إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم‏"‏

وقال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد أيضا‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر‏:‏ ‏"‏لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم‏"‏ وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه‏.‏ وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري، عن أبيه قال‏:‏ لما كان في غزوة تبوك، تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس‏:‏ ‏"‏الصلاة جامعة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول‏:‏ ‏"‏ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم‏"‏‏.‏ فناداه رجل منهم‏:‏ نعجبُ منهم يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك‏:‏ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسَدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا‏"‏ لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه‏:‏ عمر بن سعد، ويقال‏:‏ عامر بن سعد، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق‏:‏ حدثنا مَعْمَر، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال‏:‏ ‏"‏لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت -يعني الناقة -ترد من هذا الفَجّ، وتَصْدُر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أبو رِغال‏.‏ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه‏"‏ وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏ أي‏:‏ ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏ وقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً‏}‏ أي‏:‏ قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به‏.‏ وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها‏:‏ الكَاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه‏؟‏ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح، عليه السلام، إلى صلاته ودعا الله، عز وجل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو‏:‏ ‏"‏جُندَع بن عمرو‏"‏ ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ‏"‏ذُؤاب بن عمرو بن لبيد‏"‏ ‏"‏والحباب‏"‏ صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل‏"‏جندع بن عمرو‏"‏ ابن عم يقال له‏:‏ ‏"‏شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس‏"‏، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل، رحمه الله‏:‏

وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو *** إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا

عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعا *** فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو أجابا

لأصبحَ صالحٌ فينا عَزيزًا *** وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا

ولكنّ الغُوَاة من آل حُجْرٍ *** تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا

فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏28‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏155‏]‏ وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت -على ما ذكر -خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها‏.‏ فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي، عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال‏:‏ إنهم اتفقوا كلهم على قتلها‏.‏ قال قتادة‏:‏ بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان ‏[‏أيضا‏]‏‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏59‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ‏}‏ فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم‏.‏

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة‏:‏ أن امرأة منهم يقال لها‏:‏ ‏"‏عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز‏"‏ وتكنى أم غَنَمْ كانت عجوزا كافرة، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح، عليه السلام، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها‏:‏ ‏"‏صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا‏"‏ ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود، ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة، فدعت ‏"‏صدوف‏"‏ رجلا يقال له‏:‏ ‏"‏الحباب‏"‏ وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، فأبى عليها‏.‏ فدعت ابن عم لها يقال له‏:‏ ‏"‏مصدع بن مهرج بن المحيا‏"‏، فأجابها إلى ذلك -ودعت ‏"‏عنيزة بنت غنم‏"‏ قدار بن سالف بن جُنْدَع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان ولد زَنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه، وهو سالف، وإنما هو من رجل يقال له‏:‏ ‏"‏صهياد‏"‏ ولكن ولد على فراش ‏"‏سالف‏"‏، وقالت له‏:‏ أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة‏!‏ فعند ذلك، انطلق ‏"‏قدار بن سالف‏"‏ ‏"‏ومصدع بن مهرج‏"‏، فاستفزا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏48‏]‏ وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها ‏"‏قدار‏"‏ في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها ‏"‏مصدع‏"‏ في أصل أخرى، فمرت على ‏"‏مصدع‏"‏ فرماها بسهم، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت ‏"‏أم غَنَمْ عنيزة‏"‏، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف، فكسفَ‏}‏ عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها، وانطلق سَقْبَها -وهو فصيلها -حتى أتى جبلا منيعًا، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا -فروى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عمن سمع الحسن البصري أنه قال‏:‏ يا رب أين أمي‏؟‏ ويقال‏:‏ إنه رغا ثلاث مرات‏.‏ وإنه دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال‏:‏ بل اتبعوه فعقروه مع أمه، فالله أعلم‏.‏

فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة، بلغ الخبر صالحا، عليه السلام، فجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ‏[‏ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏]‏‏}‏ ‏[‏هود‏:‏65‏]‏ وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح ‏[‏عليه السلام‏]‏ وقالوا‏:‏ إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته‏!‏ ‏{‏قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏.‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا‏}‏ الآية‏.‏‏[‏النمل‏:‏49-52‏]‏ فلما عزموا على ذلك، وتواطؤوا عليه، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح، أرسل الله، سبحانه وتعالى، وله العزة ولرسوله، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح، عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب‏؟‏ و‏[‏قد‏]‏ أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى -قالوا‏:‏ إلا جارية كانت مقعدة -واسمها ‏"‏كلبة بنة السّلْق‏"‏، ويقال لها‏:‏ ‏"‏الزريقة‏"‏ -وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح، عليه السلام، فلما رأت ما رأت من العذاب، أُطلِقَت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها، ثم استسقتهم من الماء، فلما شربت، ماتت‏.‏

قال علماء التفسير‏:‏ ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح، عليه السلام، ومن اتبعه، رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له‏:‏ ‏"‏أبو رِغال‏"‏، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله‏.‏

وقد تقدم في أول القصة حديث ‏"‏جابر بن عبد الله‏"‏ في ذلك، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف‏"‏ الذين كانوا يسكنون الطائف‏.‏ قال عبد الرزاق‏:‏ قال مَعْمَر‏:‏ أخبرني إسماعيل بن أمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال‏:‏ ‏"‏أتدرون من هذا‏؟‏‏"‏ فقالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرمُ الله عذاب الله‏.‏ فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ قال معمر‏:‏ قال الزهري‏:‏ أبو رغال‏:‏ أبو ثقيف‏.‏ هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، كما قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بُجَير بن أبي بجير قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمرو يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال‏:‏ ‏"‏هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم فدفع عنه، فلما خرج ‏[‏منه‏]‏ أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه‏.‏ وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه ‏[‏معه‏]‏ فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن‏"‏‏.‏ وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به‏.‏ قال شيخنا أبو الحجاج المزي‏:‏ وهو حديث حسن عزيز

قلت‏:‏ تفرد بوصله ‏"‏بُجَيْر بن أبي بجير‏"‏ هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث‏.‏ قال يحيى ابن معين‏:‏ ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو، مما أخذه من الزاملتين‏.‏

قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك‏:‏ وهذا محتمل، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏

هذا تقريع من صالح، عليه السلام، لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى -قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر، أقام هناك ثلاثًا، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب، قليب بدر، فجعل يقول‏:‏ ‏"‏يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان‏:‏ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏؟‏ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا‏"‏‏.‏ فقال له عمر‏:‏ يا رسول الله، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون‏"‏‏.‏

وفي السيرة أنه، عليه السلام قال لهم‏:‏ ‏"‏بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم‏"‏‏.‏ وهكذا صالح، عليه السلام، قال لقومه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فلم تنتفعوا بذلك، لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، فالله أعلم‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، أيّ وادي هذا‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ هذا وادي عُسْفَان‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لقد مر به هود وصالح، عليهما السلام، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف، أزُرُهم العبَاء، وأرديتهم النّمار، يلبون يحجون البيت العتيق‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 81‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَ‏}‏ قَدْ أَرْسَلْنَا ‏{‏لُوطًا‏}‏ أو تقديره‏:‏ ‏{‏وَ‏}‏ اذكر ‏{‏لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ولوط هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم، عليه السلام، وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله ‏[‏تعالى‏]‏ إلى أهل ‏"‏سَدُوم‏"‏ وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور‏.‏ وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل ‏"‏سَدُوم‏"‏ عليهم لعائن الله‏.‏

قال عمرو بن دينار‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏:‏ ما نزا ذَكَر على ذَكَر، حتى كان قوم لوط‏.‏

وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، باني جامع دمشق‏:‏ لولا أن الله، عز وجل، قص علينا خبر لوط، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا‏.‏

ولهذا قال لهم لوط، عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ‏}‏ أي‏:‏ عدلتم عن النساء، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال، وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏[‏قَالَ‏]‏ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏71‏]‏ فأرشدهم إلى نسائهم، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن، ‏{‏قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏79‏]‏ أي‏:‏ لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء، ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك‏.‏

وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى بعضهن ببعض أيضًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏

أي‏:‏ ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه ‏[‏من المؤمنين‏]‏ من بين أظهرهم، فأخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ قال قتادة، عابوهم بغير عيب‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ من أدبار الرجال وأدبار النساء‏.‏ ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83 - 84‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏35، 36‏]‏ إلا امرأته فإنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم؛ ولهذا لما أمر لوط، عليه السلام، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل اتبعتهم، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم‏.‏ والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الباقين‏.‏ ومنهم من فسر ذلك ‏{‏مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ ‏[‏من‏]‏ الهالكين، وهو تفسير باللازم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا‏}‏ مفسر بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود 82، 83‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ انظر -يا محمد -كيف كان عاقبة من تجهرم على معاصي الله وكذّب رسله

وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أن اللائط يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط‏.‏

وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنًا أو غير محصن‏.‏ وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله، والحجة ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث الدراوردي، عن عمرو بن أبي عَمْرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏

وقال آخرون‏:‏ هو كالزاني، فإن كان محصنًا رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة‏.‏ وهو القول الآخر للشافعي‏.‏

وأما إتيان النساء في الأدبار، فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولا ‏[‏واحدا‏]‏ شاذًا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ هم من سلالة ‏"‏مدين بن إبراهيم‏"‏‏.‏ وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال‏:‏ واسمه بالسريانية‏:‏ ‏"‏يثرون‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وتطلق مدين على القبيلة، وعلى المدينة، وهي التي بقرب ‏"‏مَعَان‏"‏ من طريق الحجاز، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏23‏]‏ وهم أصحاب الأيكة، كما سنذكره إن شاء الله، وبه الثقة‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ هذه دعوة الرسل كلهم، ‏{‏قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به‏.‏ ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، أي‏:‏ لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏[‏الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ‏]‏ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏1-6‏]‏ وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، نسأل الله العافية منه‏.‏

ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب، الذي يقال له‏:‏ ‏"‏خطيب الأنبياء‏"‏، لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86 - 87‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏

ينهاهم شعيب، عليه السلام، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي، بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم‏.‏ قال السدي وغيره‏:‏ كانوا عشارين‏.‏ وعن ابن عباس ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ ومجاهد وغير واحد‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه‏.‏ والأول أظهر؛ لأنه قال‏:‏ ‏{‏بِكُلِّ صِرَاطٍ‏}‏ وهي الطرق، وهذا الثاني هو قوله‏:‏ ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة‏.‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك، ‏{‏وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الأمم الخالية والقرون الماضية، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏قد‏]‏ اختلفتم عليّ ‏{‏فاصبروا‏}‏ أي‏:‏ انتظروا ‏{‏حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا‏}‏ أي‏:‏ يفصل، ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين‏.‏