فصل: تفسير الآيات رقم (88 - 89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏88 - 89‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏

هذا إخبار من الله ‏[‏تعالى‏]‏ عما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين، في توعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية، أو الإكراه على الرجوع في مِلَّتهم والدخول معهم فيما هم فيه‏.‏ وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ‏}‏ يقول‏:‏ أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه‏؟‏ فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا‏.‏ وهذا تعبير منه عن اتباعه‏.‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا‏}‏ وهذا ردّ إلى المشيئة، فإنه يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علمًا، ‏{‏عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي‏:‏ في أمورنا ما نأتي منها وما نذر ‏{‏رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ افصل بيننا وبين قومنا، وانصرنا عليهم، ‏{‏وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90 - 92‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن شدة كفر قوم شعيب وتمردهم وعتوهم، وما هم فيه من الضلال، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا ‏{‏لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}‏ فلهذا عقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة ‏"‏هود‏"‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏94‏]‏ والمناسبة في ذلك -والله أعلم -أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في قولهم‏:‏ ‏{‏أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ فجاءت الصيحة فأسكتتهم‏.‏

وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏189‏]‏ وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة‏:‏ ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ‏[‏إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏]‏‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏187‏]‏ فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله‏:‏ أصابهم عذاب يوم الظلة،‏"‏ وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب ووهَج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد، ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها‏.‏ ثم قال مقابلا لقيلهم‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏

أي‏:‏ فتولى عنهم ‏"‏شعيب‏"‏ عليه السلام بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال مقرعًا لهم وموبخًا‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد أديتُ إليكم ما أُرْسِلْت به، فلا أسفة عليكم وقد كفرتم بما جئتم به، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94 - 95‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني ‏{‏بالْبَأْسَاءِ‏}‏ ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام‏.‏ ‏{‏وَالضَّرَّاءِ‏}‏ ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم‏.‏

وتقدير الكلام‏:‏ أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ‏}‏ أي‏:‏ حولَّنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فما فعلوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى عَفَوْا‏}‏ أي‏:‏ كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال‏:‏ عفا الشيء إذا كثر، ‏{‏وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا ويُنيبوا إلى الله، فما نَجَع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا بل قالوا‏:‏ قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين‏.‏ وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏"‏عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له‏"‏ فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء ؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نَقِيِّا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه‏"‏، أو كما قال‏.‏ ولهذا عقب هذه الصفة بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي‏:‏ على بغتة منهم، وعدم شعور منهم، أي‏:‏ أخذناهم فجأة كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96 - 99‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى ‏{‏فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏98‏]‏ أي‏:‏ ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏147، 148‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ‏[‏إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُون‏]‏‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏34‏]‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا‏}‏ أي‏:‏ آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ قطر السماء ونبات الأرض‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم‏.‏

ثم قال تعالى مخوفًا ومحذرًا من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏}‏ أي‏:‏ الكافرة ‏{‏أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا ونكالنا، ‏{‏بياتا‏}‏ أي‏:‏ ليلا ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ في حال شغلهم وغفلتهم، ‏{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم ‏{‏فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏؛ ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله‏:‏ المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ‏}‏

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ أو لم نُبَيًن، ‏[‏وكذا قال مجاهد والسدي، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أو لم نبين‏]‏ لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها‏:‏ يقول تعالى‏:‏ أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم‏:‏ ‏{‏أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، ‏{‏وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ ونختم على قلوبهم ‏{‏فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ موعظة ولا تذكيرًا‏.‏

قلت‏:‏ وهكذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏128‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏29‏]‏ وقال ‏{‏أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ‏.‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ‏[‏وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ‏]‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏44، 45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏98‏]‏ أي‏:‏ هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏6‏]‏ وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ‏.‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏.‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏25-27‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ‏.‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏45، 46‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏10‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه، وحصول نعمه لأوليائه؛ ولهذا عقب ذلك بقوله، وهو أصدق القائلين ورب العالمين‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101 - 102‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ‏}‏

لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب ‏[‏عليهم الصلاة والسلام‏]‏ وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد ‏{‏مِنْ أَنْبَائِهَا‏}‏ أي‏:‏ من أخبارها، ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏15‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏101، 102‏]‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ الباء سببية، أي‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم‏.‏ حكاه ابن عطية، رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ ‏[‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون‏]‏‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏110، 111‏]‏؛ ولهذا قال هنا‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لأكثر الأمم الماضية ‏{‏مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال‏.‏ والعهد الذي أخذه ‏[‏عليهم‏]‏ هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه‏"‏ الحديث‏.‏ وقال تعالى في كتابه العزيز‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏25‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏45‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد قيل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ ما روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق، أي‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ هذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا ‏[‏لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏28‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ الرسل المتقدم ذكرهم، كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين‏.‏ ‏{‏مُوسَى بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ بحججنا ودلائلنا البينة إلى ‏{‏فِرْعَوْنَ‏}‏ وهو ملك مصر في زمن موسى، ‏{‏وَمَلَئِهِ‏}‏ أي‏:‏ قومه، ‏{‏فَظَلَمُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا، كقوله تعالى ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏14‏]‏ أي‏:‏ الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي‏:‏ انظر -يا محمد -كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه‏.‏ وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله -موسى وقومه -من المؤمنين به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104 - 106‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون، وإلجامه إياه بالحجة، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ أرسلني الذي هو خالقُ كل شيء وربه ومليكه‏.‏

‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ معناه‏:‏ حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي‏:‏ جدير بذلك وحري به‏.‏

وقالوا و‏"‏الباء‏"‏ و‏"‏على‏"‏ يتعاقبان، فيقال رميت بالقوس‏"‏ و‏"‏على القوس‏"‏، و‏"‏جاء على حال حسنة‏"‏ و‏"‏بحال حسنة‏"‏‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ معناه‏:‏ حريص على ألا أقول على الله إلا الحق‏.‏

وقرأ آخرون من أهل المدينة‏:‏ ‏{‏حَقِيقٌ عَلَيّ‏}‏ بمعنى‏:‏ واجب وحق عَلَيّ ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه‏.‏

‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به، ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ أطلقهم من أسْرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو‏:‏ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ‏[‏عليهم صلوات الرحمن‏]‏ ‏{‏قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ قال فرعون‏:‏ لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقًا فيما ادعيت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107 - 108‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ الحية الذكر‏.‏ وكذا قال السدي، والضحاك‏.‏ وفي حديث ‏"‏الفُتُون‏"‏، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال ‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ‏}‏ فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها ‏[‏عنه‏]‏ ففعل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تحولت حية عظيمة مثل المدينة‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ والثعبان‏:‏ الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لِحْيها، الأسفل في الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه‏.‏ فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث، ولم يكن يُحْدث قبل ذلك، وصاح‏:‏ يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فأخذها موسى، عليه السلام، فعادت عصا‏.‏ وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا‏.‏

وقال وَهْب بن مُنَبِّه‏:‏ لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون‏:‏ أعرفك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏18‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون‏:‏ خذوه، فبادره موسى ‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ‏}‏ فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت‏.‏ رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه ‏"‏الزهد‏"‏، وابن أبي حاتم‏.‏ وفيه غرابة في سياقه والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ نزع يده‏:‏ أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير بَرَص ولا مرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏12‏]‏

وقال ابن عباس في حديث الفتون‏:‏ ‏[‏أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء‏]‏ ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ يعني‏:‏ من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول‏.‏ وكذا قال مجاهد وغير واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109 - 110‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏

أي‏:‏ قال الملأ -وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون -موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه رَوْعه، واستقر على سرير مملكته بعد ذلك، قال للملأ حوله -‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ فوافقوه وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائهم، وتخوفوا من ‏[‏معرفته‏]‏ أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏6‏]‏ فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111 - 112‏]‏

‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَرْجِهِ‏}‏ أخّره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ احبسهُ‏.‏ ‏{‏وَأَرْسِلْ‏}‏ أي‏:‏ ابعث ‏{‏فِي الْمَدَائِنِ‏}‏ أي‏:‏ في الأقاليم ومعاملة ملكك، ‏{‏حَاشِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم‏.‏

وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا‏.‏ واعتقد من اعتقد منهم، وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء موسى، عليه السلام، من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى‏.‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى‏.‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى‏.‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏57-60‏]‏ وقال تعالى هاهنا‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113 - 114‏]‏

‏{‏وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏}‏

يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى، عليه السلام‏:‏ إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا‏.‏ فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، ويجعلنهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115 - 116‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏

هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه السلام، في قولهم‏:‏ ‏{‏إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ‏}‏ أي‏:‏ قَبْلك‏.‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏65‏]‏ فقال لهم موسى، عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَلْقُوا‏}‏ أي‏:‏ أنتم أولا قبلي‏.‏ والحكمة في هذا -والله أعلم -ليري الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فُرغ من بهرجهم ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس‏.‏ وكذا كان‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏66‏:‏ 69‏]‏‏.‏

قال سفيان بن عُيَيْنَة‏:‏ حدثنا أبو سعيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا‏.‏ قال‏:‏ فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، عليه السلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏65، 66‏]‏ فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا، ‏{‏فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فَرَقوهم أي‏:‏ من الفرَق‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام الدَّستَوَائي، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال‏:‏ جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏