فصل: تفسير الآيات رقم (117 - 122)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏117 - 122‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى، عليه السلام، في ذلك الموقف العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه، ‏{‏فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ‏}‏ أي‏:‏ تأكل ‏{‏مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فجعلت لا تَمُرّ بشيء من حبالهم ولا من خُشُبهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا وقالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ جعلت تبتلع تلك الحبال والعصى واحدة، واحدة حتى ما يُرَى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا ‏{‏قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏.‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ لو كان هذا ساحرا ما غُلبنا‏.‏

وقال القاسم بن أبي بَزَّة‏:‏ أوحى الله إليه أن ألق عصاك، فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان فاغرٌ فَاهُ، يبتلع حبالهم وعصيهم‏.‏ فألقي السحرة عند ذلك سجدا، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123 - 126‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى عما توعد به فرعون، لعنه الله، السحرة لما آمنوا بموسى، عليه السلام، وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ أي‏:‏ إن غَلَبَه لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏70‏]‏ وهو يعلم وكلّ من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل؛ فإن موسى، عليه السلام، بمجرد ما جاء من ‏"‏مَدْين‏"‏ دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل‏.‏ وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسى، عليه السلام، لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجَهَلتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏54‏]‏ فإن قوما صدّقوه في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏ من أجْهَل خلق الله وأضلهم‏.‏

وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ قاوا‏:‏ التقى موسى، عليه السلام، وأميرُ السحرة، فقال له موسى‏:‏ أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق‏؟‏ قال الساحر‏:‏ لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق‏.‏ وفرعون ينظر إليهما، قالوا‏:‏ فلهذا قال ما قال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ أي‏:‏ تجتمعوا أنتم وهو، وتكون لكم دولة وصولة، وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء، وتكون الدولة والتصرف لكم، ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أصنع بكم‏.‏

ثم فسر هذا الوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ‏}‏ يعني‏:‏ يقطع يد الرّجُل اليمنى ورجْله اليسرى أو بالعكس‏.‏ و‏{‏لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏71‏]‏ أي‏:‏ على الجذوع‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ وكان أولَ من صلب، وأولَ من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون‏.‏

وقول السحرة‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد تحققنا أنا إليه راجعون، وعذابه أشد من عذابك، ونكاله ما تدعونا إليه، وما أكرهتنا عليه من السحر، أعظم من نكالك، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله، لما قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ أي‏:‏ عمنا بالصبر على دينك، والثبات عليه، ‏{‏وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ متابعين لنبيك موسى، عليه السلام‏.‏ وقالوا لفرعون‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُالدَّرَجَاتُ الْعُلا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏72-75‏]‏ فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة‏.‏

قال ابن عباس، وعُبَيد بن عُمَيْر، وقتادة، وابن جُرَيْج‏:‏ كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127 - 129‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏

يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه، وما أظهروه لموسى، عليه السلام، وقومه من الأذى والبغضة‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ لفرعون ‏{‏أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ‏}‏ أي‏:‏ أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي‏:‏ يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يالله للعجب ‏!‏ صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه‏!‏ ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون، ولكن لا يشعرون؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ ‏"‏الواو‏"‏ هنا حالية، أي‏:‏ أتذره وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك‏؟‏ وقرأ ذلك أُبيّ بن كعب‏:‏ ‏"‏وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك‏"‏، حكاه ابن جرير‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي عاطفة، أي‏:‏ لا تدع موسى يصنع هو وقومه من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى تركه آلهتك‏.‏

وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏إلاهتك‏"‏ أي‏:‏ عبادتك، ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد‏.‏

وعلى القراءة الأولى قال بعضهم‏:‏ كان لفرعون إله يعبده‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ كان لفرعون إله يعبده في السر‏.‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ كان له جُمَانة في عنقه معلقة يسجد لها‏.‏

وقال السدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ‏}‏ وآلهته، فيما زعم ابن عباس، كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا جسدا‏.‏

فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله‏:‏ ‏{‏سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ‏}‏ وهذا أمر ثان بهذا الصنيع، وقد كان نكل بهم به قبل ولادة موسى، عليه السلام، حذرا من وجوده، فكان خلاف ما رامه وضدّ ما قصده فرعون‏.‏ وهكذا عومل في صنيعه ‏[‏هذا‏]‏ أيضا، إنما أراد قهر بني إسرائيل وإذلالهم، فجاء الأمر على خلاف ما أراد‏:‏ نصرهم الله عليه وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده‏.‏

ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل، ‏{‏قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا‏}‏ ووعدهم بالعاقبة، وأن الدار ستصير لهم في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ أي‏:‏ قد جرى علينا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى، ومن بعد ذلك‏.‏ فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضرة وهذا تحضيض لهم على العزم على الشكر، عند حلول النعم وزوال النقم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130 -131‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم ‏{‏بِالسِّنِينَ‏}‏ وهي سِنِي الجوع بسبب قلة الزروع ‏{‏وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ وهو دون ذلك‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن رجاء بن حَيْوة‏:‏ كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ‏}‏ أي‏:‏ من الخصب والرزق ‏{‏قَالُوا لَنَا هَذِهِ‏}‏ أي‏:‏ هذا لنا بما نستحقه‏:‏، ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ أي‏:‏ جدب وقحط ‏{‏يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ أي‏:‏ هذا بسببهم وما جاؤوا به‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ يقول‏:‏ مصائبهم عند الله، قال الله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏

وقال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ إلا من قِبَل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132 - 135‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ‏}‏

هذا إخبار من الله، عز وجل، عن تَمرد قوم فرعون وعتوهم، وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم‏:‏ ‏{‏مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ يقولون‏:‏ أيُّ آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها، رددناها فلا نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ‏}‏

اختلفوا في معناه، فعن ابن عباس في رواية‏:‏ كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار‏.‏ وبه قال الضحاك بن مُزَاحِم‏.‏

وقال ابن عباس في رواية أخرى‏:‏ هو كثرة الموت‏.‏ وكذا قال عطاء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الطُّوفَانَ‏}‏ الماء، والطاعون على كل حال‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا يحيى بن يَمان، حدثنا المِنْهَال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن مِيناء، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏الطوفان الموت‏"‏‏.‏

وكذا رواه ابن مردويه، من حديث يحيى بن يمان، به وهو حديث غريب‏.‏

وقال ابن عباس في رواية أخرى‏:‏ هو أمر من الله طاف بهم، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ‏.‏ ‏[‏فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ‏]‏ ‏[‏القلم‏:‏19، 20‏]‏ وأما الجراد فمعروف مشهور، وهو مأكول؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفُور قال‏:‏ سألت عبد الله بن أبي أَوْفَى عن الجراد، فقال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وروى الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أحلت لنا ميتتان ودمان‏:‏ الحوت والجراد، والكبد والطحال‏"‏

ورواه أبو القاسم البغوي، عن داود بن رُشَيْد، عن سُوَيْد بن عبد العزيز، عن أبي تمام الأيليّ، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا مثله‏.‏ وروى أبو داود، عن محمد بن الفرج، عن محمد بن الزِّبْرِقان الأهوازي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال‏:‏ ‏"‏أكثر جنود الله، لا آكله، ولا أحرمه‏"‏ وإنما تركه، عليه السلام لأنه كان يعافه، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب، وأذن فيه‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد، حدثنا يحيى بن خالد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد، ولا الكلوتين، ولا الضب، من غير أن يحرمها‏.‏ أما الجراد‏:‏ فرجز وعذاب‏.‏ وأما الكلوتان‏:‏ فلقربهما من البول‏.‏ وأما الضب فقال‏:‏ ‏"‏أتخوف أن يكون مسخا‏"‏، ثم قال غريب، لم أكتبه إلا من هذا الوجه‏.‏ وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يشتهيه ويحبه، فروى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر‏:‏ أن عمر سُئل عن الجراد فقال‏:‏ ليت أن عندنا منه قَفْعَة أو قفعتين نأكله‏.‏ وروى ابن ماجة‏:‏ حدثنا أحمد بن مَنِيع، عن سفيان بن عيينة، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال، سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَتَهادَيْن الجراد على الأطباق‏.‏ وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا داود بن رُشَيْد، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن نُمَيْر بن يزيد القَيْني حدثني أبي، عن صُدَيّ بن عَجْلان، عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن مريم بنت عمران، عليها السلام، سألت ربها ‏[‏عز وجل‏]‏ أن يطعمها لحما لا دم له، فأطعمها الجراد، فقالت‏:‏ اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بَيْنَه بغير شياع‏"‏ وقال نُمَير‏:‏ ‏"‏الشَيَاع‏"‏‏:‏ الصوت‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليَزَني حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن أبي زُهَيْر النميري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تقاتلوا الجراد، فإنه جند الله الأعظم‏"‏‏.‏ غريب جدًا‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ‏}‏ قال‏:‏ كانت تأكل مسامير أبوابهم، وتَدَع الخشب‏.‏

وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي، عن محمد بن كثير، سمعت الأوزاعي يقول‏:‏ خرجت إلى الصحراء، فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء، وإذا برَجل راكب على جَرَادة منها، وهو شاك في الحديد، وكلما قال بيده هكذا، مال الجراد مع يده، وهو يقول‏:‏ الدنيا باطل باطل ما فيها، الدنيا باطل باطل ما فيها، الدنيا باطل باطل ما فيها‏.‏

وروى الحافظ أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا وَكِيع، عن الأعمش، أنبأنا عامر قال‏:‏ سئل شُرَيْح القاضي عن الجراد، فقال‏:‏ قبح الله الجرادة‏.‏ فيها خلقة سبعة جبابرة‏:‏ رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل‏.‏ وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب‏.‏

و‏[‏قد‏]‏ قدمنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏96‏]‏ حديث حماد بن سلمة، عن أبي المُهزَم، عن أبي هريرة، قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا رجْلُ جراد، فجعلنا نضربه بالعِصِيِّ، ونحن محرمون، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏عن ذلك‏]‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا بأس بصيد البحر‏"‏

وروى ابن ماجه، عن هارون الحمال عن هاشم بن القاسم، عن زياد بن عبد الله بن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أنس وجابر ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان إذا دعا على الجراد قال‏:‏ ‏"‏اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء‏"‏‏.‏ فقال له جابر‏:‏ يا رسول الله، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنما هو نثرة حوت في البحر‏"‏ قال هاشم أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال‏:‏ من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس، أنه يفقس كله جرادًا طيارًا‏.‏

وقدمنا عند قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏38‏]‏ حديث عُمَر، رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏إن الله خلق ألف أمة، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وإن أولها هلاكًا الجراد‏"‏

وقال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا يزيد بن المبارك، حدثنا عبد الرحمن بن قَيْس، حدثنا سالم بن سالم، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك، عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا وَباء مع السيف، ولا نجاء مع الجراد‏"‏‏.‏ حديث غريب‏.‏ وأما ‏{‏الْقُمَّلَ‏}‏ فعن ابن عباس‏:‏ هو السوس الذي يخرج من الحنطة‏.‏ وعنه أنه الدبى -وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له‏.‏ وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة‏.‏

وعن الحسن وسعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏الْقُمَّلَ‏}‏ دواب سود صغار‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏الْقُمَّلَ‏}‏ البراغيث‏.‏

وقال ابن جرير ‏{‏الْقُمَّل‏}‏ جمع واحدتها ‏"‏قُمَّلة‏"‏، وهي دابة تشبه القَمْل، تأكلها الإبل، فيما بلغني، وهي التي عناها الأعشى بقوله‏:‏

قوم تعالج قُمَّلا أبناؤهم *** وسلاسلا أجُدا وبابًا مؤصدا

قال‏:‏ وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب ‏"‏الحمنان‏"‏، واحدتها ‏"‏حمنانة‏"‏، وهي صغار القردان فوق القمقامة‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما أتى موسى، عليه السلام، فرعون قال له‏:‏ أرسل معي بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم الطوفان -وهو المطر -فصب عليهم منه شيئا، خافوا أن يكون عذابا، فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل‏.‏ فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ فقالوا‏:‏ هذا ما كنا نتمنى‏.‏ فأرسل الله عليهم الجراد، فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا‏:‏ يا موسى، ادع لنا ربك ليكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا‏:‏ قد أحرزنا‏.‏ فأرسل الله عليهم القمل- وهو السوس الذي يخرج منه -فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا ربه، فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل‏.‏ فبينما هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون‏:‏ ما تلقى أنت وقومك من هذا‏.‏ قال وما عسى أن يكون كيد هذا‏؟‏ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفدع في فيه‏.‏ فقالوا لموسى‏:‏ ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم فلم يؤمنوا‏.‏ وأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، وما كان في أوعيتهم، وجدوه دمًا عبيطًا، فشكوا إلى فرعون، فقالوا‏:‏ إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب‏.‏ فقال‏:‏ إنه قد سحركم ‏!‏‏!‏ فقالوا‏:‏ من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دمًا عَبِيطًا‏؟‏ فأتوه وقالوا‏:‏ يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل‏.‏ وقد روي نحو هذا عن ابن عباس، والسدي، وقتادة وغير واحد من علماء السلف‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله‏:‏ فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه الآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات‏.‏ فأرسل الطوفان -وهو الماء -ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعًا، فلما بلغهم ذلك ‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغني، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر لي أن موسى، عليه السلام، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا‏.‏ فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع، قد غلبت عليه‏.‏ فلما جهدهم ذلك، قالوا له مثل ما قالوا، فسأل ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دمًا، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دما عبيطا‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن منصور المروزي، أنبأنا النضر، أنبأنا إسرائيل، أنبأنا جابر ابن يزيد عن عكرمة، قال عبد الله بن عَمْرو‏:‏ لا تقتلوا الضفادع، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار، يطلب بذلك مرضات الله، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء، وجعل نقيقهن التسبيح‏.‏ وروي من طريق عكرمة، عن ابن عباس، نحوه‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ يعني بالدم‏:‏ الرعاف‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136 - 137‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة، ‏[‏أنه‏]‏ انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم، وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها‏.‏

وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون -وهم بنو إسرائيل -‏{‏مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏5، 6‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏25-28‏]‏

وعن الحسن البصري وقتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ الشام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا‏}‏ قال مجاهد وابن جرير‏:‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ‏}‏ أي‏:‏ وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع، ‏{‏وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏يَعْرِشُونَ‏}‏ يبنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138 - 139‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى، عليه السلام، حين جاوزوا البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، ‏{‏فَأَتَوْا‏}‏ أي‏:‏ فمروا ‏{‏عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ‏}‏ قال بعض المفسرين‏:‏ كانوا من الكنعانيين‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا من لخم‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك، فقالوا‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل‏.‏

‏{‏إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ هالك ‏{‏وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ‏[‏رحمه الله‏]‏ تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل، ومعمر كلهم، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي‏:‏ أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال‏:‏ وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها‏:‏ ‏"‏ذات أنواط‏"‏، قال‏:‏ فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏قلتم والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ ‏{‏اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏.‏ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي، عن أبي واقد الليثي قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت‏:‏ يا نبي الله اجعل لنا هذه ‏"‏ذات أنواط‏"‏، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ‏[‏قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏]‏‏}‏ إنكم تركبون سنن من قبلكم‏"‏

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده مرفوعا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140 - 141‏]‏

‏{‏قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏

يذكِّرهم موسى، عليه السلام، بنعمة الله عليهم، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه، وغرقه ودماره‏.‏ وقد تقدم تفسيرها في ‏[‏سورة‏]‏ البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل، بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى، عليه السلام، وإعطائه التوراة، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة‏.‏

قال المفسرون‏:‏ فصامها موسى، عليه السلام، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين‏.‏

وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي‏؟‏ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة، والعشر عشر ذي الحجة‏.‏ قاله مجاهد، ومسروق، وابن جريج‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى، عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏

فلما تم الميقات عزم موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ‏}‏ الآية ‏[‏طه‏:‏ 80‏]‏، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد‏.‏ وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون، عليه السلام، نبي شريف كريم على الله، له وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله ‏[‏تعالى‏]‏ سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي‏}‏ وقد أشكل حرف ‏"‏لن‏"‏ هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏.‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏.‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏22، 23‏]‏‏.‏ وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار‏:‏ ‏{‏كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‏}‏ المطففين‏:‏15‏]‏

وقيل‏:‏ إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ وقد تقدم ذلك في الأنعام ‏[‏الآية‏:‏103‏]‏‏.‏

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى، عليه السلام‏:‏ ‏"‏يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده‏"‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا قُرَّة بن عيسى، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما تجلى ربه للجبل، أشار بإصبعه فجعله دكًا‏"‏ وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم، ثم قال‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن لَيْث، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هكذا بإصبعه -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر- فساخ الجبل‏"‏ هكذا وقع في هذه الرواية ‏"‏حماد بن سلمة، عن ليث، عن أنس‏"‏‏.‏ والمشهور‏:‏ ‏"‏حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس‏"‏، كما قال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ قال‏:‏ وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال‏:‏ فساخ الجبل -قال حميد لثابت‏:‏ تقول هذا‏؟‏ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال‏:‏ يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس وأنا أكتمه‏؟‏ وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا أبو المثنى، معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا حماد بنسلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ‏[‏جَعَلَهُ دَكًّا‏]‏‏}‏ قال‏:‏ قال هكذا -يعني أنه خرج طرف الخنصر -قال أحمد‏:‏ أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل‏:‏ ما تريد إلى هذا يا أبا محمد‏؟‏ قال‏:‏ فضرب صدره ضربة شديدة وقال‏:‏ من أنت يا حميد‏؟‏‏!‏ وما أنت يا حميد‏؟‏‏!‏ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت‏:‏ ما تريد إليه‏؟‏‏!‏

وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق، عن معاذ بن معاذ به‏.‏ وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن سليمان بن حرب، عن حماد ‏[‏بن سلمة‏]‏ به ثم قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد‏.‏

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق، عن حماد بن سلمة، به‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه

ورواه أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، عن محمد بن علي بن سُوَيْد، عن أبي القاسم البغوي، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، فذكره وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح لا علة فيه‏.‏

وقد رواه داود بن المحبر، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا ‏[‏وهذا ليس بشيء، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر‏]‏ بنحوه‏.‏ وأسنده ابن مردويه من طريقين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنس مرفوعا بنحوه، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح أيضًا‏.‏

وقال السُّدِّي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ قال‏:‏ ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ‏{‏جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ قال‏:‏ ترابا ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ قال‏:‏ مغشيًا عليه‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ قال‏:‏ ميتًا‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه

وقال سُنَيْد، عن حجاج بن محمد الأعور، عن أبي بكر الهذلي‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة‏.‏

وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، رواه ابن مردويه‏.‏وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة‏:‏ أحد، وورقان، ورضوى‏.‏ ووقع بمكة‏:‏ حراء، وثَبِير، وثور‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب، بل منكر‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا الهَيْثَم بن خارجة، حدثنا عثمان بن حُصَين بن عَلاق، عن عُرْوة بن رُوَيم قال‏:‏ كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صُمًا مُلْسا، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور، صار مثل دك من الدكاك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ أي‏:‏ فتته‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي‏}‏ فإنه أكبر منك وأشد خلقا، ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل، فخر صعقًا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ قال‏:‏ نظر الله إلى الجبل، فصار صحراء ترابًا‏.‏

وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء، واختارها ابن جرير، وقد ورد فيها حديث مرفوع، رواه بن مردويه‏.‏

والمعروف أن ‏"‏الصَّعْق‏"‏ هو الغشي هاهنا، كما فسره ابن عباس وغيره، لا كما فسره قتادة بالموت، وإن كان ذلك صحيحًا في اللغة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏68‏]‏ فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي، وهي قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ والإفاقة إنما تكون من غشي‏.‏

‏{‏قَالَ سُبْحَانَكَ‏}‏ تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أن أسألك الرؤية‏.‏

‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ من بني إسرائيل‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏ وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أنه لا يراك أحد‏.‏ وكذا قال أبو العالية‏:‏ قد كان قبله مؤمنون، ولكن يقول‏:‏ أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة‏.‏

وهذا قول حسن له اتجاه‏.‏ وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب، عن محمد بن إسحاق بن يسار ‏[‏رحمه الله‏]‏ وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله ‏[‏تعالى‏]‏ أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا‏}‏ فيه أبو سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا، فقال‏:‏

حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال‏:‏ جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه، فقال‏:‏ يا محمد، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ادعوه‏"‏ فدعوه، قال‏:‏ ‏"‏لم لطمت وجهه‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله، إني مررت باليهودي فسمعته يقول‏:‏ والذي اصطفى موسى على البشر‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ وعلى محمد‏؟‏ فأخذتني غضبة فلطمته، قال‏:‏ ‏"‏لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور‏"‏‏.‏

وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه، وأبو داود في كتاب ‏"‏السنة‏"‏ من سننه من طرق، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني، عن أبيه، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، به‏.‏ وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ استب رجلان‏:‏ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم‏:‏ والذي اصطفى محمدًا على العالمين‏.‏ وقال اليهودي‏:‏ والذي اصطفى موسى على العالمين، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأخبره، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترف بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى ممسكًا بجانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله، عز وجل‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، من حديث الزهري، به‏.‏

وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا، رحمه الله‏:‏ أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار، وهذا هو أصح وأصرح، والله أعلم‏.‏

والكلام في قوله، عليه السلام‏:‏ ‏"‏لا تخيروني على موسى‏"‏، كالكلام على قوله‏:‏ ‏"‏لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى‏"‏، قيل‏:‏ من باب التواضع‏.‏ وقيل‏:‏ قبل أن يعلم بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب‏.‏ وقيل‏:‏ على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏فإن الناس يصعقون يوم القيامة‏"‏، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة، يحصل أمر يصعقون منه، والله أعلم به‏.‏ وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وتجلى للخلائق الملك الديان، كما صعق موسى من تجلي الرب، عز وجل، ولهذا قال، عليه السلام‏:‏ ‏"‏فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور‏"‏‏؟‏ وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه ‏"‏الشفاء‏"‏ بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق‏:‏ حدثنا قتادة، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما تجلى الله لموسى، عليه السلام، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء، مسيرة عشرة فراسخ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى‏.‏

انتهى ما قاله، وكأنه صحح هذا الحديث، وفي صحته نظر، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله، حتى ينتهي إلى منتهاه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144 - 145‏]‏

‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏

يذكر تعالى أنه خاطب موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وبكلامه تعالى ولا شك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، التي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، عليه السلام، ثم موسى ‏[‏بن عمران‏]‏ كليم الرحمن، عليه السلام؛ ولهذا قال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ‏}‏ أي‏:‏ من الكلام ‏[‏والوحي‏]‏ والمناجاة ‏{‏وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ على ذلك، ولا تطلب ما لا طاقة لك به‏.‏

ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، قيل‏:‏ كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ فيها‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏43‏]‏ وقيل‏:‏ الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، فالله أعلم‏.‏ وعلى كل تقدير كانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بعزم على الطاعة ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا‏}‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ حدثنا أبو سعد عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أمر موسى -عليه السلام -أن يأخذ بأشد ما أمر قومه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب‏؟‏

قال ابن جرير‏:‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ كما يقول القائل لمن يخاطبه‏:‏ ‏"‏سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري‏"‏، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره‏.‏ ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ من أهل الشام، وأعطيكم إياها‏.‏ وقيل‏:‏ منازل قوم فرعون، والأول أولى، والله أعلم؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146 - 147‏]‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ سأمنع فهم الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي‏:‏ كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏110‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏5‏]‏ وقال بعض السلف‏:‏ لا ينال العلم حيي ولا مستكبر‏.‏

وقال آخر‏:‏ من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا‏.‏

وقال سفيان بن عُيَينة في قوله‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏}‏ قال‏:‏ أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة

قلت‏:‏ ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏96، 97‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي‏:‏ طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا‏.‏

ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ كذبت بها قلوبهم، ‏{‏وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمون شيئًا مما فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات، حبط عمله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكما تدين تدان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148 - 149‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل، عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار، و‏"‏الخوار‏"‏ صوت البقر‏.‏

وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ لميقات ربه تعالى، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة‏:‏ ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏85‏]‏ وقد اختلف المفسرون في هذا العجل‏:‏ هل صار لحما ودما له خوار‏؟‏ أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر‏؟‏ على قولين، والله أعلم‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به، ‏{‏فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏88‏]‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏89‏]‏

وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا‏}‏ ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير‏.‏ ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم عَمَى الجهل والضلال، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حبك الشيء يُعْمي ويُصِم‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ندموا على ما فعلوا، ‏{‏وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏لئن لم ترحمنا‏"‏ بالتاء المثناة من فوق، ‏"‏ربنا‏"‏ منادى، ‏"‏وتَغْفِر لنا‏"‏، ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150 - 151‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى أن موسى، عليه السلام، رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف‏.‏ قال أبو الدرداء ‏"‏الأسف‏"‏‏:‏ أشد الغضب‏.‏ ‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي‏}‏ يقول‏:‏ بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ‏}‏‏؟‏ يقول‏:‏ استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ قيل‏:‏ كانت الألواح من زُمُرُّد‏.‏ وقيل‏:‏ من ياقوت‏.‏ وقيل‏:‏ من بَرَد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ليس الخبر كالمعاينة‏"‏

ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبًا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا‏.‏ وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبًا، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رَدّه ابن عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تَلَقَّاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذابون ووَضّاعون وأفاكون وزنادقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ‏}‏ خوفًا أن يكون قد قَصَّر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏.‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏92-94‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تَسُقني مَسَاقهم، ولا تخلطني معهم‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏ابْنَ أُمَّ‏}‏؛ لتكون أرأف وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه‏.‏ فلما تحقق موسى، عليه السلام، براءة ساحة هارون ‏[‏عليه السلام‏]‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏90‏]‏ فعند ذلك قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر؛ أخبره ربه، عز وجل، أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152 - 153‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة، حتى قَتَل بعضهم بعضًا، كما تقدم في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏54‏]‏

وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارًا في الحياة الدنيا، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ نائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذُلَّ البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري‏:‏ إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هَمْلَجَت بهم البغلات، وطقطقت بهم البراذين‏.‏

وهكذا روى أيوب السَّخْتَيَاني، عن أبي قِلابة الجَرْمي، أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ قال‏:‏ هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كل صاحب بدعة ذليل‏.‏

ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق؛ ولهذا عقب هذه القصة بقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد، يا رسول الرحمة ونبي النور ‏{‏مِنْ بَعْدِهَا‏}‏ أي‏:‏ من بعد تلك الفعلة ‏{‏لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة عن الحسن العُرَفي، عن عَلْقَمة، عن عبد الله بن مسعود؛ أنه سئل عن ذلك -يعني عن الرجل يزني بالمرأة، ثم يتزوجها -فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ فتلاها عبد الله عشر مرات، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ‏}‏ أي‏:‏ سكن ‏{‏عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ‏}‏ أي‏:‏ غضبه على قومه ‏{‏أَخَذَ الألْوَاحَ‏}‏ أي‏:‏ التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غيرةً لله وغضبًا له ‏{‏وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ يقول كثير من المفسرين‏:‏ إنها لما ألقاها تكسرت، ثم جمعها بعد ذلك؛ ولهذا قال بعض السلف‏:‏ فوجد فيها هدى ورحمة‏.‏ وأما التفصيل فذهب، وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية، والله أعلم بصحة هذا‏.‏ وأما الدليل القاطع على أنها تكسرت حين ألقاها، وهي من جوهر الجنة فقد أخبر ‏[‏الله‏]‏ تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها هدى ورحمة‏.‏

‏{‏لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ضمن الرهبة معنى الخضوع؛ ولهذا عدَّاها باللام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخَذَ الألْوَاحَ‏}‏ قال‏:‏ رب، إني أجدُ في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون -أي آخرون في الخَلْقِ -السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها -كتابهم -وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا ‏[‏منها‏]‏ شيئًا، ولم يعرفوه‏.‏ قال قتادة‏:‏ وإن الله أعطاهم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدًا من الأمم‏.‏ قال‏:‏ رب، اجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول، وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجرون عليها -وكان مَنْ قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه، بعث الله عليها نارًا فأكلتها، وإن ردت عليه تُركَت، فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم -قال‏:‏ رب، اجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال رب، إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ‏[‏ضعف‏]‏ رب اجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هَم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلهم أمتي‏:‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ رب، إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي‏.‏ قال‏:‏ تلك أمة أحمد‏.‏ قال‏:‏ قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ نبذ الألواح، وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 156‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية‏:‏ كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دَعَوُا الله قالوا‏:‏ اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ‏}‏ الآية‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا‏.‏ فلما أتوا ذلك المكان قالوا‏:‏ لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه‏.‏ فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول‏:‏ رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم‏؟‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ‏}‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيّرَ فالخيّر، وقال‏:‏ انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهَّروا، وطهِّروا ثيابكم‏.‏ فخرج بهم إلى طُور سَيْناء، لميقات وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم -فقال له السبعون -فيما ذكر لي -حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، ‏[‏فقالوا‏]‏ لموسى‏:‏ اطلب لنا نسمع كلام ربنا‏.‏ فقال‏:‏ أفعل‏.‏ فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تَغَشَّى الجبل كله‏.‏ ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم‏:‏ ادنوا‏.‏ وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه‏.‏ فضرب دونه بالحجاب‏.‏ ودنا القوم، حتى إذا دخلوا وقعوا سُجُودا فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه‏:‏ افعل، ولا تفعل‏.‏ فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى‏:‏ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏.‏ فأخذتهم الرجفة -وهي الصاعقة -فافتُلتَت أرواحهم، فماتوا جميعا‏.‏ فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول‏:‏ ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ‏}‏ قد سفهوا، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلُولي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال‏:‏ انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَل، فنام هارون على سرير، فتوفاه الله، عز وجل‏.‏ فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له‏:‏ أين هارون‏؟‏ قال‏:‏ توفاه الله، عز وجل‏.‏ قالوا ‏[‏له‏]‏ أنت قتلته، حَسَدتنا على خُلقه ولينه -أو كلمة نحوها -قال‏:‏ فاختاروا من شئتم‏.‏ قال‏:‏ فاختاروا سبعين رجلا‏.‏ قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا‏}‏ فلما انتهوا إليه قالوا‏:‏ يا هارون، من قتلك‏؟‏ قال‏:‏ ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله‏.‏ قالوا‏:‏ يا موسى، لن تعصى بعد اليوم‏.‏ قال‏:‏ فأخذتهم الرجفة‏.‏ قال‏:‏ فجعل موسى، عليه السلام، يرجع يمينًا وشمالا وقال‏:‏ يا ‏{‏رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ‏}‏ قال‏:‏ فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم‏.‏ هذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد هذا لا أعرفه‏.‏ وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي، فذكره‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج‏:‏ إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى‏:‏ ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ‏}‏ أي‏:‏ ابتلاؤك واختبارك وامتحانك‏.‏ قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وربيع بن أنس، وغير واحد من علماء السلف والخلف‏.‏ ولا معنى له غير ذلك؛ يقول‏:‏ إن الأمرُ إلا أمرُك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضِل لمن هَدَيت، ولا مُعطِي لما مَنَعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ الغَفْر هو‏:‏ الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، ‏{‏وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يغفر الذنوب إلا أنت، ‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود ‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم ‏[‏تفسير‏]‏ ذلك في سورة البقرة‏.‏ ‏[‏الآية‏:‏201‏]‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ تبنا ورجعنا وأنبنا إليك‏.‏ قاله ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي، والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد‏.‏ وهو كذلك لُغَة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ عن علي ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ إنما سميت اليهود لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ جابر -هو ابن يزيد الجُعْفي -ضعيف‏.‏

قال تعالى مجيبا لموسى في قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ ‏[‏تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ‏]‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ‏[‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏7‏]‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب -هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله عنه -قال‏:‏ جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى‏:‏ اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أتقولون هذا أضل أم بعيره‏؟‏ ألم تسمعوا ما قال‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لقد حَظَرْت رحمةً واسعة؛ إن الله، عز وجل، خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره‏؟‏‏"‏‏.‏ رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضًا‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏ تفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان -هو ابن طِرْخان -وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرحمن بن مل -عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لله مائة رحمة، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير‏"‏‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به‏.‏ وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته‏.‏ والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه‏.‏ والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب جدا، ‏"‏وسعد‏"‏ هذا لا أعرفه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الآية، يعني‏:‏ فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي‏:‏ الشرك والعظائم من الذنوب‏.‏

‏{‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ قيل‏:‏ زكاة النفوس‏.‏ وقيل‏:‏ ‏[‏زكاة‏]‏ الأموال‏.‏ ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصدقون‏.‏