فصل: تفسير الآية رقم (157)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ‏}‏ وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب، قال‏:‏ جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي قلت‏:‏ لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال‏:‏ فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي‏؟‏‏"‏ فقال برأسه هكذا، أي‏:‏ لا‏.‏ فقال ابنه، إي‏:‏ والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏أقيموا اليهودي عن أخيكم‏"‏‏.‏ ثم ولى كفنه والصلاة عليه‏.‏ هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس‏.‏

وقال الحاكم صاحب المستدرك‏:‏ أخبرنا أبو محمد -عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال‏:‏ بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا‏:‏ والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال‏:‏ فأذن لنا فقال‏:‏ تكلموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ فقال له هشام‏:‏ وما هذه التي عليك‏؟‏ فقال‏:‏ لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام‏.‏ قلنا‏:‏ ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم‏؟‏ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال‏:‏ قوموا‏.‏ وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا‏:‏ إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال‏؟‏ قلنا‏:‏ والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك‏.‏ فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا‏:‏ لا إله إلا الله، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح، فأرسل إلينا‏:‏ ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم‏.‏ وأرسل إلينا‏:‏ أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال‏:‏ ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم‏؟‏ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا‏:‏ إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها‏.‏ قال‏:‏ كيف تحيتكم فيما بينكم‏؟‏ قلنا‏:‏ السلام عليك‏.‏ قال‏:‏ وكيف تحيون ملككم‏؟‏ قلنا‏:‏ بها‏.‏ قال‏:‏ وكيف يرد عليكم‏؟‏ قلنا‏:‏ بها‏.‏ قال‏:‏ فما أعظم كلامكم‏؟‏ قلنا‏:‏ لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم -لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال‏:‏ فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم‏؟‏ قلنا‏:‏ لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك‏.‏ قال‏:‏ لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم‏.‏ وإني خرجت من نصف ملكي‏.‏ قلنا‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من حيل الناس‏.‏ ثم سألنا عما أراد فأخبرناه‏.‏ ثم قال‏:‏ كيف صلاتكم وصومكم‏؟‏ فأخبرناه، فقال‏:‏ قوموا فقمنا‏.‏ فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير، فأقمنا ثلاثًا‏.‏

فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه‏.‏ ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين‏.‏ عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله‏.‏ قال‏:‏ أتعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا نوح، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا إبراهيم، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله -رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وبكينا‏.‏ قال‏:‏ والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال‏:‏ والله إنه لهو‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال‏:‏ أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم‏.‏

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص الشفة كأنه غضبان، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا موسى عليه السلام‏.‏ وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا هارون بن عمران، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا لوط، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال هذا إسحاق، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ هذا يعقوب، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا إسماعيل جد نبيكم، عليهما السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا يوسف، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا داود، عليه السلام‏.‏ ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا سليمان بن داود، عليه السلام‏.‏

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ‏}‏ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام‏.‏

قلنا‏:‏ من أين لك هذه الصور‏؟‏ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله‏.‏ فقال‏:‏ إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال‏.‏ ثم قال‏:‏ أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت‏.‏ ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال‏:‏ فبكى أبو بكر وقال‏:‏ مسكين‏!‏ لو أراد الله به خيرًا لفعل‏.‏ ثم قال‏:‏ أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم‏.‏ هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب ‏"‏دلائل النبوة‏"‏، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال‏:‏ لقيت عبد الله بن عمرو فقلت‏:‏ أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة‏.‏ قال‏:‏ أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا‏"‏ قال عطاء‏:‏ ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال‏:‏ ‏"‏قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا‏"‏‏.‏

وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي -فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله‏:‏ ‏"‏ليس بفظ ولا غليظ‏"‏‏:‏ ‏"‏ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح‏"‏‏.‏

ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق ‏"‏التوراة‏"‏ على كتب أهل الكتاب‏.‏ وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعم -قال‏:‏ حدثتني أم عثمان بنت سعيد -وهي جدتي -عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال‏:‏ خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال‏:‏ هل عندكم رجل نبيًا‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ هل تعرف صورته إذا رأيتها‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال‏:‏ فيم أنتم‏؟‏ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت‏:‏ من هذا الرجل القابض على عقبه‏؟‏ قال‏:‏ إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر، رضي الله عنه‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال‏:‏ بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر‏:‏ هل تجدني في الكتاب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ كيف تجدني‏؟‏ قال‏:‏ أجدك قَرْنا‏.‏ قال‏:‏ فرفع عمر الدرة وقال قرن مه‏؟‏ قال‏:‏ قرن حديد، أمير شديد‏.‏ قال‏:‏ فكيف تجد الذي بعدي‏؟‏ قال‏:‏ أجد خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر‏:‏ يرحم الله عثمان، ثلاثا‏.‏ قال‏:‏ كيف تجد الذي بعده‏؟‏ قال‏:‏ أجد صدأ حديد‏.‏ قال‏:‏ فوضع عمر يده على رأسه وقال‏:‏ يا دفراه، يا دَفْراه‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كان حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود‏:‏ إذا سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه‏.‏ ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله ‏[‏تعالى‏]‏ به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر -هو العقدي عبد الملك بن عمرو -حدثنا سليمان -هو ابن بلال -عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضيالله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به‏.‏ وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه‏"‏ هذا ‏[‏حديث‏]‏ جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب ‏[‏الستة‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، ‏[‏والذي هو أنجي‏]‏ والذي هو أتقى

ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ‏}‏ أي‏:‏ يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين‏.‏

وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له‏.‏

وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته‏.‏ وفيه كلام طويل أيضا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏بعثت بالحنيفية السمحة‏"‏‏.‏ وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن‏:‏ ‏"‏بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا‏"‏‏.‏ وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي‏:‏ إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره‏.‏

وقد كانت الأمم الذين كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏"‏ ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏ وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه‏:‏ قد فعلت، قد فعلت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ عظموه ووقروه، ‏{‏وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ‏}‏ أي‏:‏ القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، ‏{‏إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏20‏]‏ والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم‏.‏

قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بسر ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال‏:‏ سمعت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يقول‏:‏ كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقال أبو الدرداء‏:‏ ونحن عنده -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أما صاحبكم هذا فقد غامر‏"‏ -أي‏:‏ غاضب وحاقد -قال‏:‏ وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر -قال أبو الدرداء‏:‏ وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول‏:‏ والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل أنتم تاركوا لي صاحبي‏؟‏ إني قلت‏:‏ يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم‏:‏ كذبت وقال أبو بكر‏:‏ صدقت‏"‏‏.‏ انفرد به البخاري‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقوله فخرًا‏:‏ بعثت إلى الناس كافة‏:‏ الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا‏"‏ إسناده جيد، ولم يخرجوه‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم‏:‏ ‏"‏لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي‏:‏ سل؛ فإن كل نبي قد سأل‏.‏ فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله‏"‏ إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة‏"‏ وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة‏:‏ يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار‏"‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس -وهو سليم بن جبير -عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة‏:‏ يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار‏"‏‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعطيت خمسًا‏:‏ بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة -وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا‏"‏ وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ صفة الله تعالى، في قوله ‏{‏رَسُولُ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ‏}‏ أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، ‏{‏النَّبِيِّ الأمِّيِّ‏}‏ أي‏:‏ الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه ‏{‏وَاتَّبِعُوهُ‏}‏ أي‏:‏ اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ إلى الصراط المستقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏113‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏199‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ‏[‏وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏]‏ ‏[‏القصص‏:‏52-54‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏121‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏107-109‏]‏

وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ قال‏:‏ بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا -وكانوا اثني عشر سبطا -تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏104‏]‏ و‏"‏وعد الآخرة‏"‏‏:‏ عيسى ابن مريم -قال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ساروا في السرب سنة ونصفًا‏.‏

وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ قال‏:‏ قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160 - 162‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ‏}‏

تقدم تفسير هذا كله في سورة ‏"‏البقرة‏"‏، وهي مدنية، وهذا السياق مكي، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏

هذا السياق هو بسط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏65‏]‏ يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم‏.‏ وهذه القرية هي ‏"‏أيلة‏"‏ وهي على شاطئ بحر القلزم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ‏}‏ قال‏:‏ هي قرية يقال لها ‏"‏أيلة‏"‏ بين مدين والطور‏.‏ وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي‏.‏

وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة‏.‏ وقيل‏:‏ هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد‏:‏ هي قرية يقال لها‏.‏ ‏"‏مقنا‏"‏ بين مدين وعَيدُوني‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ‏}‏ أي‏:‏ يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك‏.‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ أي ظاهرة على الماء‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏شُرَّعًا‏}‏ من كل مكان‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل لهم صيده ‏{‏كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ‏}‏ نختبرهم ‏{‏بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ يقول‏:‏ بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها‏.‏

وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام‏.‏

وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل‏"‏ وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164 - 166‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق‏:‏ فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة‏.‏ وفرقة نهت عن ذلك، ‏[‏وأنكرت‏]‏ واعتزلتهم‏.‏ وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله‏؟‏ فلا فائدة في نهيكم إياهم‏.‏ قالت لهم المنكرة‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره‏:‏ هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي‏:‏ نفعل ذلك ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يقولون‏:‏ ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة، ‏{‏أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ ارتكبوا المعصية ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم‏:‏ هل كانوا من الهالكين أو من الناجين‏؟‏ على قولين‏:‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ ‏[‏قال‏:‏‏]‏ هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها‏:‏ ‏"‏أيلة‏"‏، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها‏.‏ فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا‏:‏ تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم‏؟‏ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة‏:‏ تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ‏[‏أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏]‏‏}‏ وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ والذين قالوا‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة‏.‏ وروى العوفي، عن ابن عباس قريبًا من هذا‏.‏

وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏قال‏:‏ ما أدري أنجا الذين قالوا‏:‏ ‏"‏أتعظون قوما الله مهلكهم‏"‏، أم لا‏؟‏ قال‏:‏ فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا، فكساني حلة‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا ابن جُرَيْج، حدثني رجل، عن عكرمة قال‏:‏ جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت‏:‏ ما يبكيك يا أبا عباس، جعلني الله فداك‏؟‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ هؤلاء الورقات‏.‏ قال‏:‏ وإذا هو في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏، قال‏:‏ تعرف أيلة قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم‏.‏ فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال‏:‏ إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام‏.‏ فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة‏:‏ بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت‏.‏ فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت‏.‏ وقال الأيمنون‏:‏ ويلكم، الله، الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله‏.‏ وقال الأيسرون‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏‏؟‏ قال الأيمنون‏:‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم‏.‏ فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون‏:‏ فقد فعلتم، يا أعداء الله‏.‏ والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب‏.‏ فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال‏:‏ أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب‏.‏ قال‏:‏ ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول‏:‏ ألم ننهكم عن كذا‏؟‏ فتقول برأسها، أي نعم‏.‏ ثم قرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ قال‏:‏ فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين وكذا روى مجاهد، عنه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يونس، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال‏:‏ زعم ابن رومان أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ -لذلك -رجل خيطًا ووتدًا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم‏:‏ ‏"‏فإنه جلد حوت وجدناه‏"‏‏.‏ فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك -ولا أدري لعله قال‏:‏ ربط حوتين -فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا فسألوه فقال لهم‏:‏ لو شئتم صنعتم كما أصنع‏.‏ فقالوا له‏:‏ وما صنعت‏؟‏ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك‏.‏ وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم‏.‏ فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به‏.‏ وقد قدمنا في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية، ولله الحمد والمنة‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن الساكتين كانوا من الهالكين‏.‏

قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه قال‏:‏ ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر‏.‏ فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء‏.‏ فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية‏.‏ قال‏:‏ فقالت طائفة للذين ينهونهم‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ‏}‏ فقالوا‏:‏ سخط أعمالهم ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا أثلاثًا‏:‏ ثلث نهوا، وثلث قالوا‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ‏}‏ وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم‏.‏

وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا‏.‏ و‏{‏بَئِيسٍ‏}‏ فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد‏:‏ ‏"‏الشديد‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏أليم‏"‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ موجع‏.‏ والكل متقارب، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خاسئين‏}‏ أي‏:‏ ذليلين حقيرين مهانين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

‏{‏تَأَذَّنَ‏}‏ تَفَعَّل من الإذن أي‏:‏ أعلم، قاله مجاهد‏.‏ وقال غيره‏:‏ أمر‏.‏

وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على اليهود ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم‏.‏

ويقال‏:‏ إن موسى، عليه السلام، ضرب عليهم الخراج سبع سنين -وقيل‏:‏ ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج‏.‏ ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم وإياهم، أخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى

قال العوفي، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال‏:‏ هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عنه‏:‏ هي الجزية، والذين يسومهم سوء العذاب‏:‏ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، وابن جُرَيْج، والسُّدِّي، وقتادة‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية‏.‏

قلت‏:‏ ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار الدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم، عليه السلام، وذلك آخر الزمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ لمن عصاه وخالف ‏[‏أمره و‏]‏ شرعه، ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ لمن تاب إليه وأناب‏.‏

وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن ‏[‏الله‏]‏ تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168 - 170‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏

يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما، أي‏:‏ طوائف وفرقًا، كما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ ‏[‏الأسراء‏:‏104‏]‏ ‏{‏مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ فيهم الصالح وغير ذلك، كما قالت الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏11‏]‏، ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختبرناهم ‏{‏بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ‏}‏ أي‏:‏ بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة ‏[‏هذا‏]‏ الكتاب وهو التوراة -وقال مجاهد‏:‏ هم النصارى -وقد يكون أعم من ذلك، ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى‏}‏ أي‏:‏ يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ كما قال سعيد بن جبير‏:‏ يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله منه، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه‏.‏

وقول مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى‏}‏ قال‏:‏ لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون‏:‏ ‏{‏سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه‏.‏

وقال قتادة في‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ أي‏:‏ والله، لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏، قال ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ تمنوا على الله أماني، وغرَّة يغترون بها، ‏{‏وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من ‏[‏أمر‏]‏ الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا‏.‏

وقال السُّدِّي ‏[‏في‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له‏:‏ ما شأنك ترتشي في الحكم، فيقول‏:‏ ‏"‏سيغفر لي‏"‏، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي‏.‏ يقول‏:‏ وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه‏.‏قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‏}‏ يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس، ولا يكتمونه كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏187‏]‏

وقال ابن جُرَيْج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏}‏ قال‏:‏ فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها، ولا يتوبون منها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه، ويحذرهم من وبيل عقابه، أي‏:‏ وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم، وترك هوى نفسه، وأقبل على طاعة ربه‏.‏

‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير‏؟‏ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى ‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ رفعناه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏154‏]‏

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رفعته الملائكة فوق رءوسهم‏.‏

وقال القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ ثم سار بهم موسى، عليه السلام، متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره الله تعالى ‏[‏به‏]‏ -أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال‏:‏ رفعته الملائكة فوق رءوسهم‏.‏ رواه النسائي بطوله‏.‏ وقال سنيد بن داود في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال‏:‏ هذا كتاب، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم‏؟‏ قالوا‏:‏ انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة، وحدودها خفيفة قبلناها‏.‏ قال‏:‏ اقبلوها بما فيها‏.‏ قالوا‏:‏ لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها‏؟‏ فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى‏:‏ ألا ترون ما يقول ربي، عز وجل‏؟‏ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا الجبل‏.‏ قال‏:‏ فحدثني الحسن البصري قال‏:‏ لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقًا من أن يسقط ‏[‏عليه‏]‏ فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون‏:‏ هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير، ولا كبير، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه‏.‏ ‏[‏أي‏:‏ حرك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏51‏]‏ أي يحركونها‏]‏