فصل: تفسير الآيات رقم (34 - 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 35‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم، أوقع الله بهم بأسه يوم بدر، فقُتل صناديدهم وأسرت سُراتهم‏.‏ وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب، التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد‏.‏

قال قتادة والسُّدِّي وغيرهما‏:‏ لم يكن القوم يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا‏.‏

واختاره ابن جرير، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الذي لا يرد، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏25‏]‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قال‏:‏ وكان أولئك البقية من المؤمنين الذين بقوا فيها يستغفرون -يعني بمكة- فلما خرجوا، أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ قال‏:‏ فأذن الله في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم‏.‏

ورُوي عن ابن عباس، وأبي مالك والضحاك، وغير واحد نحو هذا‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية ناسخة لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في ‏"‏الأنفال‏"‏‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ فنسختها الآية التي تليها‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ فقُوتلوا بمكة، فأصابهم فيها الجوع والضر‏.‏ وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي تُمَيْلة يحيى بن واضح‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جُرَيْج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ثم استثنى أهل الشرك فقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي ببكة، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة عنده والطواف به؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ أي‏:‏ هم ليسوا أهل المسجد الحرام، وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17، 18‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ‏[‏وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد -هو الطبراني- حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك‏؟‏ قال كل تقي‏"‏، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ‏}‏ وقال الحاكم في مستدركه‏:‏ حدثنا أبو بكر الشافعي، حدثنا إسحاق بن الحسن، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال‏:‏ ‏"‏هل فيكم من غيركم‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ فينا ابن أختنا وفينا حليفنا، وفينا مولانا‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏حليفنا منا، وابن أختنا منا، ومولانا منا، إن أوليائي منكم المتقون‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ هذا ‏[‏حديث‏]‏ صحيح، ولم يخرجاهوقال عُرْوَة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم المجاهدون، من كانوا، وحيث كانوا‏.‏

ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال عبد الله بن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَيْر، وأبو رجاء العطاردي، ومحمد بن كعب القرظي، وحُجْر بن عَنْبَس، ونُبَيْط بن شُرَيْط، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هو الصفير -وزاد مجاهد‏:‏ وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم‏.‏

وقال السدي‏:‏ المُكَاء‏:‏ الصفير على نحو طير أبيض يقال له‏:‏ ‏"‏المُكَاء‏"‏، ويكون بأرض الحجاز‏.‏ والتصدية‏:‏ التصفيق‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو خَلاد سليمان بن خلاد، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا يعقوب -يعني ابن عبد الله الأشعري -حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال‏:‏ كانت قريش تطوف بالكعبة عراة تصفر وتصفق‏.‏ والمكاء‏:‏ الصفير، وإنما شبهوا بصفير الطير وتصدية التصفيق‏.‏

وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعَوْفي، عن ابن عباس‏.‏ وكذا روى عن ابن عمر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، وقتادة، وعطية العوفي، وحُجْر بن عَنْبَس، وابن أبزَى نحو هذا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو عمر، حدثنا قُرَّة، عن عطية، عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال‏:‏ المكاء‏:‏ الصفير‏.‏ والتصدية‏:‏ التصفيق‏.‏ قال قرة‏:‏ وحَكَى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر ابن عمر، وأمال خده، وصفق بيديه‏.‏

وعن ابن عمر أيضًا أنه قال‏:‏ كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويُصَفِّقُون ويُصَفِّرُون‏.‏ رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ كانوا يطوفون بالبيت على الشمال‏.‏

قال مجاهد‏:‏ وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته‏.‏ وقال الزهري‏:‏ يستهزئون بالمؤمنين‏.‏

وعن سعيد بن جُبَيْر وعبد الرحمن بن زيد‏:‏ ‏{‏وَتَصْدِيَة‏}‏ قال‏:‏ صدُّهم الناس عن سبيل الله، عز وجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ قال الضحاك، وابن جُرَيْج، ومحمد بن إسحاق‏:‏ هو ما أصابهم يوم بَدْر من القتل والسَّبْي‏.‏ واختاره ابن جرير، ولم يحك غيره‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال‏:‏ عذاب أهل الإقرار بالسيف، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 - 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حِبَّان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ، قالوا‏:‏ لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فَلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بِعِيرِه، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم، وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا‏:‏ يا معشر قريش، إن محمدا قد وَتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا‏!‏ ففعلوا‏.‏ قال‏:‏ ففيهم -كما ذكر عن ابن عباس -أنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ‏[‏لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ‏]‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏

وهكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والحَكَم بن عتيبة، وقتادة، والسُّدِّي، وابن أبزَى‏:‏ أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت في أهل بدر‏.‏

وعلى كل تقدير، فهي عامة‏.‏ وإن كان سبب نزولها خاصا، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ أي‏:‏ ندامة؛ حيث لم تُجْدِ شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومُعْلِن كلمته، ومظهر دينه على كل دين‏.‏ فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم، رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قُتِل منهم أو مات، فإلى الخِزْي الأبدي والعذاب السَّرْمَدِيّ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وقال السُّدِّي‏:‏ يميز المؤمن من الكافر‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏28‏]‏،وقال تعالى ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 14‏]‏،وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم43‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏59‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، وتكون ‏"‏اللام‏"‏ معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله، أي‏:‏ إنما أقدرناهم على ذلك؛ ‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ أي‏:‏ من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏166، 167‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏ونظيرتها في براءة أيضا‏.‏

فمعنى الآية على هذا‏:‏ إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك؛ ليتميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض، ‏{‏فَيَرْكُمَهُ‏}‏ أي‏:‏ يجمعه كله، وهو جمع الشيء بعضه على بعض، كما قال تعالى في السحاب‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏43‏]‏أي‏:‏ متراكما متراكبا، ‏{‏فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 40‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا‏}‏ أي‏:‏ عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، يغفر لهم ما قد سَلَف، أي‏:‏ من كفرهم، وذنوبهم وخطاياهم، كما جاء في الصحيح، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أحْسَن في الإسلام، لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أخذ بالأول والآخر‏"‏

وفي الصحيح أيضًا‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الإسلام يَجُبُّ ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَعُودُوا‏}‏ أي‏:‏ يستمروا على ما هم فيه، ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم، أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم‏.‏ وقال السدي ومحمد بن إسحاق‏:‏ أي‏:‏ يوم بدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا الحسن بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن يحيى، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، عن بكر بن عمرو، عن بُكَيْر، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رجلا جاءه فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏9‏]‏، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه‏؟‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي، أُعَيَّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلي من أن أُعَيَّر بالآية التي يقول الله، عز وجل‏:‏‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏النساء‏:‏93‏]‏، قال‏:‏ فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏‏؟‏ قال ابن عمر‏:‏ قد فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن في دينه‏:‏ إما أن يقتلوه، وإما أن يوثقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال‏:‏ فما قولك في علي وعثمان‏؟‏ قال ابن عمر‏:‏ ما قولي في علي وعثمان‏؟‏ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه، وكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه -وأشار بيده -وهذه ابنته أو‏:‏ بنته -حيث ترون‏.‏

وحدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زُهَيْر، حدثنا بَيَان أن وَبَرة حدثه قال‏:‏ حدثني سعيد بن جُبَيْر قال‏:‏ خرج علينا -أو‏:‏ إلينا -ابن عمر، رضي الله عنهما، فقال رجل‏:‏ كيف ترى في قتال الفتنة‏؟‏ فقال‏:‏ وهل تدري ما الفتنة‏؟‏ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك‏.‏ هذا كله سياق البخاري، رحمه الله‏.‏

وقال عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر بن الخطاب، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج‏؟‏ قال‏:‏ يمنعني أن الله حرم عليَّ دم أخي المسلم‏.‏ قالوا‏:‏ أو لم يقل الله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏‏؟‏

قال‏:‏ قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين كله لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله‏.‏

وكذا رواه حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال‏:‏ كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فأتاه رجل فقال‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ فقال ابن عمر‏:‏ قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله، وذهب الشرك ولم تكن فتنة، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله‏.‏ رواهما ابن مَرْدُوَيه‏.‏

وقال أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيْمِي، عن أبيه قال‏:‏ قال ذو البطين -يعني أسامة بن زيد -لا أقاتل رجلا يقول‏:‏ لا إله إلا الله أبدا‏.‏ قال‏:‏ فقال سعد بن مالك‏:‏ وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول‏:‏ لا إله إلا الله أبدا‏.‏ فقال رجل‏:‏ ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏‏؟‏ فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين كله لله‏.‏ رواه ابن مردويه‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ ‏[‏حتى‏]‏ لا يكون شرك، وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع عن أنس، والسدي، ومُقاتِل بن حَيَّان، وزيد بن أسلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ بلغني عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا‏:‏ ‏{‏حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ حتى لا يفتن مسلم عن دينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال‏:‏ يخلص التوحيد لله‏.‏

وقال الحسن وقتادة، وابن جُرَيْج‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ أن يقال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ويكون التوحيد خالصا لله، ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ لا يكون مع دينكم كفر‏.‏

ويشهد له ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل‏"‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رِيَاءً، أيُّ ذلك في سبيل الله، عز وجل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من قاتل لتكون

كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، عز وجل‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا‏}‏ أي‏:‏ بقتالكم عما هم فيه من الكفر، فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم، ‏{‏فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏5‏]‏،وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏11‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏193‏]‏‏.‏وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة -لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله -فقال لأسامة‏:‏ ‏"‏أقتلته بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏؟‏ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله، إنما قالها تعوذا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏هلا شَقَقْتَ عن قلبه‏؟‏‏"‏، وجعل يقول ويكرر عليه‏:‏ ‏"‏من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة‏؟‏‏"‏ قال أسامة‏:‏ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏ أي‏:‏ وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم، ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ‏}‏ سيدكم وناصركم على أعدائكم، فنعم المولى ونعم النصير‏.‏

وقال محمد بن جرير‏:‏ حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أبان العطار، حدثنا هشام بن عروة، عن عُرْوَة‏:‏ أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة‏:‏ ‏"‏سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو‏.‏ أما بعد، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ كان من شأن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فَنِعْم النَّبِيُّ، ونعم السيد، ونعم العشيرة، فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانا على ملته، وأماتنا عليها، وبعثنا عليه وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكادوا يسمعون منه، حتى ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال، أنكر ذلك عليه الناس واشتدوا عليه وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل‏.‏ فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم، وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتُتِن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة‏.‏ وكان بالحبشة ملك صالح يقال له‏:‏ ‏"‏النجاشي‏"‏، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يُثْنَى عليه مع ذلك، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش، يتجرون فيها، وكانت مَسْكَنًا لتجارهم، يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن‏.‏ ومكث هو فلم يبرح‏.‏ فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم‏.‏ ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم‏.‏ فلما رأوا ذلك‏.‏ استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل أرض الحبشة مخافتها، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال، فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم، تحدث باسترخائهم عنهم، فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه‏:‏ قد استرخي عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون، فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، وجعلوا يزدادون ويكثرون‏.‏ وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت قريش ذلك، تآمرت على أن يفتنوهم ويشتدوا، فأخذوهم، فحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، فكانت الفتنة الأخيرة، فكانت فتنتان‏:‏ فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها -وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة‏.‏ ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم على أنا منك وأنت منا، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي أنزل الله، عز وجل، فيها‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير‏:‏ أنه كتب إلى الوليد -يعني ابن عبد الملك بن مروان -بهذا، فذكر مثله وهذا صحيح إلى عروة، رحمه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة، من بين سائر الأمم المتقدمة، من إحلال المغانم‏.‏ و‏"‏الغنيمة‏"‏‏:‏ هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب‏.‏ و‏"‏الفيء‏"‏‏:‏ ما أخذ منهم بغير ذلك، كالأموال التي يصالحون عليها، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم، والجزية والخراج ونحو ذلك‏.‏ هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف‏.‏

ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة، والغنيمة على الفيء أيضا؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية ‏"‏الحشر‏"‏‏:‏ ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، قال‏:‏ فنسخت آية ‏"‏الأنفال‏"‏ تلك، وجعلت الغنائم‏:‏ أربعة أخماسها للمجاهدين، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين‏.‏ وهذا الذي قاله بعيد؛ لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بَدْر، وتلك نزلت في بني النَّضِير، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة أن بني النضير بعد بدر، هذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب، فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة يقول‏:‏ تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في المغانم‏.‏ ومن يجعل أمر المغانم والفيء راجعا إلى رأي الإمام يقول‏:‏ لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس إذا رآه الإمام، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ اختلف المفسرون هاهنا، فقال بعضهم‏:‏ لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة‏.‏

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرِّيَاحي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله‏.‏ ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك، وسهم لرسوله عليه السلامقال الضحاك، عن ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سَرِيَّة فغنموا، خَمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏قال‏:‏ وقوله‏]‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا‏.‏

وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي، والحسن بن محمد ابن الحنفية‏.‏ والحسن البصري، والشعبي، وعَطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة وقتادة، ومغيرة، وغير واحد‏:‏ أن سهم الله ورسوله واحد‏.‏

ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل من بلقين قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرى، وهو يعرض فرسًا، فقلت‏:‏ يا رسول الله، ما تقول في الغنيمة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لله خمسها، وأربعة أخماس للجيش‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ فما أحد أولى به من أحد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولا السهم تستخرجه من جنبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم‏"‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أبان، عن الحسن قال‏:‏ أوصى أبو بكر بالخمس من ماله، وقال‏:‏ ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه‏.‏

ثم اختلف قائلو هذا القول، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها بين من قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة فربع لله وللرسول ولذي القربى -يعني‏:‏ قرابة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فما كان لله وللرسول فهو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا، ‏[‏والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَرِي، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ قال‏:‏ الذي لله فلنبيه، والذي للرسول لأزواجه‏.‏

وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ خمس الله والرسول واحد، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء -يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا أعم وأشمل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء، ويرده في أمته كيف شاء -ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلام الأعرج، عن المقدام بن معد يكرب الكندي‏:‏ أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي، رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة‏:‏ يا عبادة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس‏؟‏ فقال عبادة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال‏:‏ ‏"‏إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في ‏[‏سبيل‏]‏ الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ‏[‏عظيم‏]‏ ينجي به الله من الهم والغم‏"‏ هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه‏.‏ ولكن روى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول‏.‏

وعن عمرو بن عَبَسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من ذلك البعير ثم قال‏:‏ ‏"‏ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه، إلا الخمس، والخمس مردود فيكم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والنسائي‏.‏

وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من المغانم شيء يصطفيه لنفسه عبدًا أو أمة أو فرسًا أو سيفًا أو نحو ذلك، كما نص على ذلك محمد بن سيرين وعامر الشعبي، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء‏.‏

وروى الإمام أحمد، والترمذي -وحسنه -عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد

وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ كانت صفية من الصّفي‏.‏ رواه أبو داود في سننه‏.‏

وروى أيضًا بإسناده، والنسائي أيضًا عن يزيد بن عبد الله قال‏:‏ كنا بالمِرْبَد إذ دخل رجل معه قطعة أديم، فقرأناها فإذا فيها‏:‏ ‏"‏من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي وسهم الصّفي، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله‏"‏‏.‏ فقلنا‏:‏ من كتب لك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرر هذا وثبوته؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء‏.‏

وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية، رحمه الله‏:‏ وهذا قول مالك وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال‏.‏

فإذا ثبت هذا وعلم، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس، ماذا يُصنع به من بعده‏؟‏ فقال قائلون‏:‏ يكون لمن يلي الأمر من بعده‏.‏ روى هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة جماعة، وجاء فيه حديث مرفوع

وقال آخرون‏:‏ يصرف في مصالح المسلمين‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هو مردود على بقية الأصناف‏:‏ ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، اختاره ابن جرير‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وذلك قول جماعة من أهل العراق‏.‏

وقيل‏:‏ إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير‏.‏

حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا عبد الغفار، حدثنا المِنْهَال بن عمرو، وسألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين، عن الخمس فقالا هو لنا‏.‏ فقلت لعلي‏:‏ فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ فقالا يتامانا ومساكيننا‏.‏

وقال سفيان الثوري، وأبو نُعَيْم، وأبو أسامة، عن قيس بن مسلم‏:‏ سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية، رحمه الله تعالى، عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ قال هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة‏.‏ ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قائلون‏:‏ سهم النبي صلى الله عليه وسلم تسليما للخليفة من بعده‏.‏ وقال قائلون‏:‏ لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال قائلون‏:‏ سهم القرابة لقرابة الخليفة‏.‏ فاجتمع قولهم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعُدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما‏.‏ قال الأعمش، عن إبراهيم كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم‏:‏ ما كان علي يقول فيه‏؟‏ قال‏:‏ كان ‏[‏علي‏]‏ أشدهم فيه‏.‏ وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء، رحمهم الله‏.‏

وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية ‏[‏وفي أول الإسلام‏]‏ ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له‏:‏ مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حَمِيَّة للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله‏.‏ وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل -وإن كانوا أبناء عمهم -فلم يوافقوهم على ذلك، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول؛ ولهذا كان ذَمُّ أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم، لشدة قربهم‏.‏ ولهذا يقول في أثناء قصيدته جَزَى الله عَنَّا عبدَ شمس ونَوفلاعُقُوبة شرٍّ عاجل غير آجلِ

بميزان قسْط لا يَخيس شَعِيرة *** لهُ شَاهدٌ مِنْ نَفْسه غير عائلِ

لقد سَفُهت أحلامُ قوم تَبَدَّلوا *** بني خَلَف قَيْضا بنا والغَيَاطِلِ

ونحنُ الصَّميم من ذؤابة هاشم *** وآل قُصَى في الخُطُوب الأوائلِ‏}‏

وقال جبير بن مطعم بن عدي ‏[‏بن نوفل‏]‏ مشيت أنا وعثمان بن عفان -يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس -إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وَهُم منك بمنزلة واحدة، فقال‏:‏ ‏"‏إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد‏"‏‏.‏ رواه مسلم وفي بعض روايات هذا الحديث‏:‏ ‏"‏إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام‏"‏ وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هم بنو هاشم‏.‏ ثم روى عن خُصَيْف، عن مجاهد قال‏:‏ علم الله أن في بني هاشم فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة‏.‏

وفي رواية عنه قال‏:‏ هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة‏.‏ ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ بل هم قريش كلها‏.‏

حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثني عبد الله بن نافع، عن أبي مَعْشَر، عن سعيد المقْبُرِي قال‏:‏ كتب نَجْدَة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ‏"‏ذي القربى‏"‏، فكتب إليه ابن عباس‏:‏ كنا نقول‏:‏ إنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا‏:‏ قريش كلها ذوو قربى‏.‏ وهذا الحديث في صحيح مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمُز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله‏:‏ ‏"‏فأبى ذلك علينا قومنا‏"‏ والزيادة من أفراد أبي معشر نَجِيح بن عبد الرحمن المدني، وفيه ضعف‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حَنَش، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رغبت لكم عن غُسَالة الأيدي؛ لأن لكم من خُمْس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم‏"‏‏.‏

هذا حديث حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهدي هذا وَثَّقه أبو حاتم، وقال يحيى بن معين

يأتي بمناكير والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْيَتَامَى‏}‏ أي‏:‏ يتامى المسلمين‏.‏ واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء، أو يعم الأغنياء والفقراء‏؟‏ على قولين‏.‏ و‏{‏الْمَسَاكِينِ‏}‏ هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم‏.‏

‏{‏وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ هو المسافر، أو المريد للسفر، إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك‏.‏ وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة ‏"‏براءة‏"‏، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة، وعليه التكلان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ أي‏:‏ امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله؛ ولهذا جاء في الصحيحين، من حديث عبد الله بن عباس، في حديث وفد عبد القيس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏"‏وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع‏:‏ آمركم بالإيمان بالله ثم قال‏:‏ هل تدرون ما الإيمان بالله‏؟‏ شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم‏.‏‏.‏‏"‏ الحديث بطوله فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقد بوَّب البخاري على ذلك في ‏"‏كتاب الإيمان‏"‏ من صحيحه فقال‏:‏‏(‏باب أداء الخمس من الإيمان‏)‏، ثم أورد حديث ابن عباس هذا، وقد بسطنا الكلام عليه في ‏"‏شرح البخاري‏"‏ ولله الحمد والمنة

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ أي‏:‏ في القسمة، وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فَرَق به بين الحق والباطل ببدر ويسمى ‏"‏الفرقان‏"‏؛ لأن الله تعالى أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه‏.‏

قال علي بن أبي طالب والعَوْفِي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ يوم بدر، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل‏.‏ رواه الحاكم‏.‏

وكذا قال مجاهد، ومِقْسَم وعبيد الله بن عبد الله، والضحاك، وقتادة، ومُقَاتل بن حيان، وغير واحد‏:‏ أنه يوم بدر‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ يوم فرق الله ‏[‏فيه‏]‏ بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسعَ عشرةَ -أو‏:‏ سبع عشرة -مضت من رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة‏.‏ فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على السبعين، وأسر منهم مثل ذلك‏.‏

وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن ابن مسعود، قال في ليلة القدر‏:‏ تحروها لإحدى عشرة يبقين فإن صبيحتها يوم بدر‏.‏ وقال‏:‏ على شرطهما

وروي مثله عن عبد الله بن الزبير أيضًا، من حديث جعفر بن بُرْقَان، عن رجل، عنه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن ابن عَوْن محمد بن عبيد الله الثقفي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال‏:‏ قال الحسن بن علي‏:‏ كانت ليلة ‏"‏الفرقان يوم التقى الجمعان‏"‏ لسبع عشرة من رمضان إسناد جيد قوي‏.‏

ورواه ابن مَرْدُوَيه، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب، عن علي قال‏:‏ كانت ليلة الفرقان، ليلة التقى الجمعان، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان‏.‏ وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير‏.‏

وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه‏:‏ كان يوم بدر يوم الاثنين ولم يتابع على هذا، وقول الجمهور مقدم عليه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏

يقول تعالى ‏[‏مخبرًا‏]‏ عن يوم الفرقان‏:‏ ‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة، ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ المشركون نزول ‏{‏بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى‏}‏ أي‏:‏ البعيدة التي من ناحية مكة، ‏{‏والرَّكْبُ‏}‏ أي‏:‏ العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة ‏{‏أَسْفَلَ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مما يلي سيف البحر ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أنتم والمشركون إلى مكان ‏{‏لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ‏}‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه في هذه الآية قال‏:‏ ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم، ‏{‏وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، عن غير ملأ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه‏.‏

وفي حديث كعب بن مالك قال‏:‏ إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب، حدثني ابن عُلَيَّة، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال‏:‏ أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، لا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت السقاة، ونهد الناس بعضهم لبعض‏.‏ وقال محمد بن إسحاق في السيرة‏:‏ ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبًا من ‏"‏الصفراء‏"‏ بعث بَسْبَس بن عمرو، وعدي بن أبي الزَّغباء الجُهَنيين، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان، فانطلقا حتى إذا وردا بدرًا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء، فاستقيا في شَنٍّ لهما من الماء، فسمعا جاريتين يَختصمان، تقول إحداهما لصاحبتها‏:‏ اقضيني حقي‏.‏ وتقول الأخرى‏:‏ إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأقضيك حقك‏.‏ فَخَلَّص بينهما مَجْدي بن عمرو، وقال‏:‏ صَدقت، فسمع ذلك بَسْبَسُ وعَدِيّ، فجلسا على بعيريهما، حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر‏.‏ وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حَذِر، فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو‏:‏ هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، فاستقيا في شَنّ لهما، ثم انطلقا‏.‏ فجاء أبو سفيان إلى مُناخ بعيريهما، فأخذ من أبعارهما، فَفَتَّه، فإذا فيه النوى، فقال‏:‏ هذه والله علائف يثرب‏.‏ ثم رجع سريعًا فضرب وجه عيره، فانطلق بها فَسَاحَل حتى إذا رأى أن قد أحرز عيره بعث إلى قريش فقال‏:‏ إن الله قد نجى عيرَكم وأموالكم ورجالكم، فارجعوا‏.‏

فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرجع حتى نأتي بدرا -وكانت بدرُ سوقًا من أسواق العرب -فنقيم بها ثلاثا، فَنُطْعمُ بها الطعام، وننحَرُ بها الجُزُر ونُسْقَى بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا‏.‏

فقال الأخنس بن شُرَيْق‏:‏ يا معشر بني زُهَرة، إن الله قد نَجَّى أموالكم، ونَجَّى صاحبكم، فارجعوا‏.‏ فأطاعوه، فرجعت بنو زهرة، فلم يشهدوها ولا بنو عدي قال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني يزيد بن رُوَمان، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين دنا من بدر -عليَّ بن أبي طالب، وسعدَ بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، في نفر من أصحابه، يتجسسون له الخبر فأصابوا سُقَاةً لقريش‏:‏ غلاما لبني سعيد بن العاص، وغلاما لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه يصلي، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما‏:‏ لمن أنتما‏؟‏ فيقولان‏:‏ نحن سُقاة لقريش، بعثونا نسقيهم من الماء‏.‏ فكره القوم خبرهما، ورجَوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما ذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان‏.‏ فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين، ثم سلم وقال‏:‏ ‏"‏إذا صدَقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما‏.‏ صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش‏"‏‏.‏ قالا هم وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعدوة القصوى -والكثيب‏:‏ العَقَنْقَل -فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كم القوم‏؟‏ ‏"‏ قالا كثير‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ما عدَّتهم‏؟‏ ‏"‏ قالا ما ندري‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كم ينحَرُون كل يوم‏؟‏ ‏"‏ قالا يوما تسعًا، ويوما عشرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏القوم ما بين التسعمائة إلى الألف‏"‏‏.‏ ثم قال لهما‏:‏ ‏"‏فمن فيهم من أشراف قريش‏؟‏ ‏"‏ قالا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخْتري بن هشام، وحكيم بن حِزَام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطُعَيمة بن عدي بن ‏[‏نوفل، والنضر بن الحارث، وزَمَعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية‏]‏ بن خلف، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود‏.‏ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال‏:‏ ‏"‏هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها‏"‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق، رحمه الله تعالى‏:‏ وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم‏:‏ أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما التقى الناس يوم بدر‏:‏ يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونُنِيخ إليك ركائبك، ونلقى عدونا، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب، فقال‏:‏ وإن تكن الأخرى فتَجلسَ على ركائبك، وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد -والله- تخلف عنك أقوام ما نحن بأشدَّ لك حبا منهم، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، ويوادونك وينصرونك‏.‏ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له به‏.‏ فبُنِيَ له عريش، فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ما معهما غيرهما‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وارتحلت قريش حين أصبحت، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تُصَوِّب من العَقَنْقَل -وهو الكثيب -الذي جاءوا منه إلى الوادي قال‏:‏ ‏"‏اللهم هذه قريش قد أقبلت بفخرها وخيلائها تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ‏}‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ أي ليكفر من كفر بعد الحجة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك‏.‏

وهذا تفسير جيد‏.‏ وبَسْطُ ذلك أنه تعالى يقول‏:‏ إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع كلمة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ ‏{‏يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ‏}‏ أي‏:‏ يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل، لقيام الحجة عليه، ‏{‏وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ‏}‏ أي‏:‏ يؤمن من آمن ‏{‏عَنْ بَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ حجة وبصيرة‏.‏ والإيمان هو حياة القلوب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏،وقالت عائشة في قصة الإفك‏:‏ فيَّ هلك من هلك أي‏:‏ قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ‏}‏ أي‏:‏ لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 44‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏

قال مجاهد‏:‏ أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فكان تثبيتا لهم‏.‏

وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد‏.‏ وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام بها‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن موسى المدبر، حدثنا أبو قتيبة، عن سهل السراج، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا‏}‏ قال‏:‏ بعينك‏.‏

وهذا القول غريب، وقد صرح بالمنام هاهنا، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْأَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم، ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ‏}‏ أي‏:‏ من ذلك‏:‏ بأن أراكهم قليلا ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ بما تجنه الضمائر، وتنطوي عليه الأحشاء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا‏}‏ وهذا أيضًا من لطفه تعالى بهم، إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين، فيجرؤهم عليهم، ويطمعهم فيهم‏.‏

قال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جانبي‏:‏ تراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ لا بل ‏[‏هم‏]‏ مائة، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه، قال كنا ألفا‏.‏ رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الخرِّيت عن عكرمة‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ حضض بعضهم على بعض‏.‏ إسناد صحيح‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ ليلقي بينهم الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته‏.‏

ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر، وقلَّله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة‏.‏ فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّفِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏،وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين، فإن كلا منها حق وصدق، ولله الحمد والمنة‏.‏