فصل: تفسير الآيات رقم (45 - 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 46‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏

هذا تعليم الله عباده المؤمنين آداب اللقاء، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، ‏[‏فقال‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا‏}‏ ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن أبي أوفى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف‏"‏‏.‏ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏اللهم، مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم‏"‏ وقال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن أجلبوا وضجوا فعليكم بالصمت‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي، حدثنا أمية بن بِسْطام، حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا ثابت بن زيد، عن رجل، عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يحب الصمت عند ثلاث‏:‏ عند تلاوة القرآن، وعند الزَّحف، وعند الجنازة‏"‏ وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه أي‏:‏ لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتي‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في هذه الآية، قال‏:‏ افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون عند الضراب بالسيوف‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جُريج، عن عطاء قال‏:‏ وجب الإنصات والذكر عند الزحف، ثم تلا هذه الآية، قلت‏:‏ يجهرون بالذكر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ قُرئ علي يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش عن يزيد بن قوذر، عن كعب الأحبار قال‏:‏ ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

قال الشاعر‏:‏

ذكرتك والخَطى يخطرُ بَيْنَنَا *** وَقَد نَهَلَتْ فِينَا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ

وقال عنترة‏:‏‏}‏

ولَقَد ذَكَرْتُك والرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ *** فِينَا وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُر منْ دَمِي

‏[‏فوددت تقبيل السيوف لأنها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم‏]‏

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك‏.‏ فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم‏.‏

‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال، ‏{‏وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏

وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم -في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه -ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش وأصناف السودان والقبْط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 49‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره، ناهيًا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم ‏{‏بَطَرًا‏}‏ أي‏:‏ دفعا للحق، ‏{‏وَرِئَاءَ النَّاسِ‏}‏ وهو‏:‏ المفاخرة والتكبر عليهم، كما قال أبو جهل -لما قيل له‏:‏ إن العير قد نجا فارجعوا -فقال‏:‏ لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجُزُر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا، فانعكس ذلك عليه أجمع؛ لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام، ورُمُوا في أطواء بدر مهانين أذلاء، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ أي‏:‏ عالم بما جاءوا به وله، ولهذا جازاهم على ذلك شر الجزاء لهم‏.‏قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ‏}‏ قالوا‏:‏ هم المشركون، الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ‏}‏ الآية‏:‏ حسَّن لهم -لعنه الله -ما جاؤوا له وما هموا به، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال‏:‏ أنا جار لكم، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم، سيد بني مُدْلج، كبير تلك الناحية، وكل ذلك منه، كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى عنه‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏120‏]‏‏.‏

قال ابن جريج قال ابن عباس في هذه الآية‏:‏ لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين‏:‏ أن أحدا لن يغلبكم، وإني جار لكم‏.‏ فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة، ‏{‏نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه‏}‏ قال‏:‏ رجع مدبرا، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ‏}‏ الآية‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين‏:‏ ‏{‏لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ‏}‏ فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين وأقبل جبريل، عليه السلام، إلى إبليس، فلما رآه -وكانت يده في يد رجل من المشركين -انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته، فقال الرجل‏:‏ يا سراقة، أتزعم أنك لنا جار‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ وذلك حين رأى الملائكة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس؛ أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فلما حضر القتال ورأى الملائكة، نكص على عقبيه، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ‏}‏ فتشبث الحارث بن هشام فنخر في وجهه، فخر صعقا، فقيل له‏:‏ ويلك يا سراقة، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

وقال محمد بن عمر الواقدي‏:‏ أخبرني عمر بن عقبة، عن شعبة -مولى ابن عباس -عن ابن عباس قال‏:‏ لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه، فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس، وإسرافيل في جند آخر ألف‏.‏ وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس‏.‏ فلما أبصر عدوُّ الله الملائكة، نكص على عقبيه، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ‏}‏ فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث، فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر، ورفع ثوبه وقال‏:‏ يا رب، موعدك الذي وعدتني وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه ذكرناه في السيرة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي -وكان من أشراف بني كنانة -فقال‏:‏ أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام -أو‏:‏ عمير بن وهب -فقال‏:‏ أين، أي سراق‏؟‏ ومثل عدو الله فذهب -قال‏:‏ فأوردهم ثم أسلمهم -قال‏:‏ ونظر عدو الله إلى جنود الله، قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين فانتكص على عقبيه، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ‏}‏ وصدق عدو الله، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ وهكذا روي عن السدي، والضحاك، والحسن البصري، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم، رحمهم الله‏.‏

وقال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه رأى جبريل، عليه السلام، تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ‏}‏ وكذب عدو الله، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم، وتبرأ منهم عند ذلك‏.‏

قلت‏:‏ يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏16‏]‏،وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏22‏]‏‏.‏ وقال يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن بعض بني ساعدة قال‏:‏ سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول‏:‏ لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم‏:‏ أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول له‏:‏ أبشر فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا عليهم‏.‏ فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ‏}‏ وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول‏:‏ لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه‏.‏ ثم قال‏:‏ واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذًا‏.‏ وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏123‏]‏، وكقوله ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏71‏]‏،وهو من باب البهت والافتراء، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة‏.‏

وقال مالك بن أنس، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما رُئِيَ إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما رأى يوم بدر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أما إنه رأى جبريل، عليه السلام، يزغ الملائكة‏"‏ هذا مرسل من هذا الوجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين فقال المشركون‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، فظنوا أنهم سيهزمونهم، لا يشكون في ذلك، فقال الله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ وقال قتادة‏:‏ رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله، وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال‏:‏ والله لا يعبدوا الله بعد اليوم، قسوة وعتوا‏.‏

وقال ابن جُرَيْج في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ هم قوم كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر‏.‏

وقال عامر الشعبي‏:‏ كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏

وقال مجاهد في قوله، عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ فئة من قريش‏:‏ ‏[‏أبو‏]‏ قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم‏.‏ وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار، سواء‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن في هذه الآية، قال‏:‏ هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين -قال معمر‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ هم قوم كانوا أقروا بالإسلام، وهم بمكة فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يعتمد على جنابه، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يُضام من التجأ إليه، فإن الله عزيز منيع الجناب، عظيم السلطان، حكيم في أفعاله، لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 51‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون لهم‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ قال ابن جريج، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وأدبارهم‏}‏ استاههم، قال‏:‏ يوم بدر‏.‏

قال ابن جُرَيْج، قال ابن عباس‏:‏ إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم‏.‏

قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ يوم بدر‏.‏

وقال وَكِيع، عن سفيان الثوري، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد، عن شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جُبَيْر‏:‏ ‏{‏يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ وأستاههم ولكن الله يَكْنِي‏.‏ وكذا قال عمر مولى غُفْرة‏.‏

وعن الحسن البصري قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك قال ما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ضرب الملائكة‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير وهو مرسل‏.‏

وهذا السياق -وإن كان سببه وقعة بدر -ولكنه عام في حق كل كافر؛ ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ وفي سورة القتال مثلها وتقدم في سورة الأنعام ‏[‏عند‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏أي‏:‏ باسطو أيديهم بالضرب فيهم، يأمرونهم إذ استصعبت أنفسهم، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرًا‏.‏ وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما ‏[‏جاء‏]‏ في حديث البراء‏:‏ إن ملك الموت -إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة -يقول‏:‏ اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سَمُوم وحميم، وظل من يحموم، فتتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده، كما يخرج السفود من الصوف المبلول فتخرج معها العروق والعصب؛ ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم‏:‏ ‏{‏وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا، جازاكم الله بها هذا الجزاء، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏ أي‏:‏ لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل، الذي لا يجور، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم، رحمه الله، من رواية أبي ذر، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يقول‏:‏ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا‏.‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏ ولهذا قال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فعل هؤلاء المشركون المكذبون بما أرسلت به يا محمد، كما فعل الأمم المكذبة قبلهم، ففعلنا بهم ما هو دأبنا، أي‏:‏ عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات الله‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ بسبب ذنوبهم أهلكهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر‏]‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 54‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْوَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏11‏]‏، وقوله ‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، أهلكهم بسبب ذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون، وزروع وكنوز ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وما ظلمهم الله في ذلك، بل كانوا هم الظالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 56‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏

أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، ‏{‏وَهُمْ لا يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام‏.‏

‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ‏}‏ أي‏:‏ تغلبهم وتظفر بهم في حرب، ‏{‏فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نكل بهم، قاله‏:‏ ابن عباس، والحسن البصري، والضحاك، والسدي، وعطاء الخراساني، وابن عيينة، ومعناه‏:‏ غَلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء، من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ وقال السدي‏:‏ يقول‏:‏ لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيُصنع بهم مثل ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ‏}‏ قد عاهدتهم ‏{‏خِيَانَةً‏}‏ أي‏:‏ نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، ‏{‏فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عهدهم ‏{‏عَلَى سَوَاءٍ‏}‏ أي‏:‏ أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي‏:‏ تستوي أنت وهم في ذلك، قال الراجز‏.‏ فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر ‏[‏الأعْداء‏]‏ حتى يجيبوك إلى السواء‏.‏ وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله‏:‏ ‏{‏فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ‏}‏ أي‏:‏ على مهل، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ حتى ولو في حق الكفارين، لا يحبها أيضًا‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي الفيض، عن سليم بن عامر، قال‏:‏ كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول‏:‏ الله أكبر ‏[‏الله أكبر‏]‏ وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء‏"‏ قال‏:‏ فبلغ ذلك معاوية، فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة، رضي الله عنه‏.‏

وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري عن سلمان -يعني الفارسي -رضي الله عنه‏:‏ أنه انتهى إلى حصن -أو‏:‏ مدينة -فقال لأصحابه‏:‏ دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال‏:‏ إنما كنت رجلا منهم فهداني الله عز وجل للإسلام، فإذا أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم نابذناكم على سواء، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ‏}‏ يفعل بهم ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 60‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ‏}‏ يا محمَّد ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا‏}‏ أي‏:‏ فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏أي‏:‏ يظنون، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 57‏]‏،وقال تعالى ‏{‏لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏

ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ مهما أمكنكم، ‏{‏مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي‏"‏ رواه مسلم، عن هارون بن معروف، وأبو داود عن سعيد بن منصور، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب، به‏.‏ ولهذا الحديث طرق أخر، عن عقبة بن عامر، منها ما رواه الترمذي، من حديث صالح بن كَيْسان، عن رجل، عنه‏.‏ وروى الإمام أحمد وأهل السنن، عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا‏"‏وقال الإمام مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل لثلاثة‏:‏ لرجل أجْر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج -أو‏:‏ روضة -فما أصابت في طيلها ذلك من المرج -أو‏:‏ الروضة -كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي به، كان ذلك حسنات له؛ فهي لذلك الرجل أجر‏.‏ ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر‏"‏‏.‏ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال‏:‏ ‏"‏ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏ رواه البخاري -وهذا لفظه -ومسلم، كلاهما من حديث مالك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، أخبرنا شريك، عن الرُّكَيْن بن الربيع عن القاسم بن حسان؛ عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل ثلاثة‏:‏ ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله، وذكر ما شاء الله‏.‏ وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي ستر من فقر‏"‏‏.‏

وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي، وقول الجمهور أقوى للحديث، والله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج وهشام قالا حدثنا ليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة‏:‏ أن معاوية بن حديج مر على أبي ذر، وهو قائم عند فرس له، فسأله ما تعالج من فرسك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته‏!‏ قال‏:‏ وما دعاء بهيمة من البهائم‏؟‏ قال‏:‏ والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول‏:‏ اللهم، أنت خولتني عبدا من عبادك، وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده‏.‏

قال‏:‏ وحدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الحميد بن جعفر؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيْد بن قيس؛ عن معاوية بن حديج؛ عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر، يدعو بدعوتين، يقول‏:‏ اللهم، إنك خولتني من خولتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه‏"‏ أو ‏"‏أحب أهله وماله إليه‏"‏‏.‏ رواه النسائي، عن عمرو بن علي الفلاس، عن يحيى القطَّان، به

وقال أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية -يعني‏:‏ سهلا -‏:‏ حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها‏"‏

والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة، وفي صحيح البخاري، عن عُرْوَة ابن أبي الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة‏:‏ الأجر والمغنم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ترهبون‏"‏ أي‏:‏ تخوفون ‏{‏بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الكفار ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ قريظة، وقال السدي‏:‏ فارس، وقال سفيان الثوري‏:‏ قال ابن يمان‏:‏ هم الشياطين التي في الدور‏.‏ وقد ورد حديث بمثل ذلك، قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي، حدثنا أبو حيوة -يعني‏:‏ شريح بن يزيد المقرئ -حدثنا سعيد بن سنان، عن ابن عريب -يعني‏:‏ يزيد بن عبد الله بن عريب -عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله‏:‏ ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هم الجن‏"‏ ورواه الطبراني، عن إبراهيم بن دُحَيْم؛ عن أبيه، عن محمد بن شعيب؛ عن سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن عريب، به، وزاد‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل‏"‏ وهذا الحديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه‏.‏ وقال مقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هم المنافقون‏.‏

وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مهما أنفقتم في الجهاد، فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال، ولهذا جاء في حديث رواه أبو داود‏:‏ أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏261‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي، حدثنا أبي، عن أبيه، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين‏.‏ وهذا أيضًا غريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 -63‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، ‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا‏}‏ أي‏:‏ مالوا ‏{‏لِلسَّلْمِ‏}‏ أي‏:‏ المسالمة والمصالحة والمهادنة، ‏{‏فَاجْنَحْ لَهَا‏}‏ أي‏:‏ فمل إليها، واقبل منهم ذلك؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا فضيل بن سليمان -يعني‏:‏ النميري -حدثنا محمد بن أبي يحيى، عن إياس بن عمرو الأسلمي، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنه سيكون بعدى اختلاف -أو‏:‏ أمر -فإن استطعت أن يكون السلم، فافعل‏"‏

وقال مجاهد‏:‏ نزلت في بني قريظة‏.‏ وهذا فيه نظر؛ لأن السياق كله في وقعة بدر، وذكرها مكتنف لهذا كله‏.‏

وقول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في ‏"‏براءة‏"‏‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏29‏]‏ فيه نظر أيضًا؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفًا، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ صالحهم وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك، ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، ‏{‏فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ كافيك وحده‏.‏

ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار؛ فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ جمعها على الإيمان بك، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم‏:‏ ‏"‏يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي‏"‏ كلما قال شيئا قالوا‏:‏ الله ورسوله أَمَنَّ‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عزيز الجناب، فلا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن القنديلي الإستراباذي، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار، حدثنا ميمون بن الحكم، حدثنا بكر بن الشرود، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس قال‏:‏ قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب؛ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ وذلك موجود في الشعر‏:‏ إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمهفَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم ولكن ذا القربى الذي إن دعوتهأجاب ومن يرمي العدو الذي ترميقال‏:‏ ومن ذلك قول القائل‏:‏ ولقد صحبت الناس ثم سبرتهموبلوت ما وصلوا من الأسباب‏.‏ فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعاوإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب‏.‏ قال البيهقي‏:‏ لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس، أو هو من قول من دونه من الرواة‏؟‏

وقال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، سمعته يقول‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ الآية، قال‏:‏ هم المتحابون في الله، وفي رواية‏:‏ نزلت في المتحابين في الله‏.‏ رواه النسائي والحاكم في مستدركه، وقال‏:‏ صحيح‏.‏

وقال عبد الرازق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ رواه الحاكم أيضًا‏.‏

وقال أبو عمرو الأوزاعي‏:‏ حدثني عبدة بن أبي لُبَابة، عن مجاهد -ولقيته فأخذ بيدي فقال‏:‏ إذا تراءى المتحابان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر‏.‏ قال عبدة‏:‏ فقلت له‏:‏ إن هذا ليسير‏!‏ فقال‏:‏ لا تقل ذلك؛ فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏!‏‏.‏ قال عبدة‏:‏ فعرفت أنه أفقه مني‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن يمان عن إبراهيم الخوزي عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال‏:‏ إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما، قال‏:‏ قلت لمجاهد‏:‏ بمصافحة يغفر لهما‏؟‏ فقال مجاهد‏:‏ أما سمعته يقول‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏؟‏ فقال الوليد لمجاهد‏:‏ أنت أعلم مني‏.‏ وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف، عن مجاهد‏.‏

وقال ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال‏:‏ كنا نحدث أن أول ما يرفع من الناس -‏[‏أو قال‏:‏ عن الناس‏]‏ -الألفة‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، رحمه الله‏:‏ حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا سالم بن غيلان، سمعت جعدا أبا عثمان، حدثني أبو عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده، تحاتت عنهما ذنوبهما، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار

تفسير الآيات رقم ‏[‏64 - 66‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏

يحرض تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران، ويخبرهم أنه حسبهم، أي‏:‏ كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا سفيان، عن شوذب عن الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال‏:‏ حسبك الله، وحسب من شهد معك‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد ‏[‏بن أسلم‏]‏ مثله‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏ أي‏:‏ حثهم وذمر عليه، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر، حين أقبل المشركون في عَدَدهم وعُدَدهم‏:‏ ‏"‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏"‏‏.‏ فقال عمير بن الحُمام‏:‏ عرضها السموات والأرض‏؟‏‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ فقال‏:‏ بخ بخ، فقال‏:‏ ‏"‏ما يحملك على قولك بخ بخ‏؟‏ ‏"‏ قال رجاء أن أكون من أهلها‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنك من أهلها‏"‏ فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال‏:‏ لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة‏!‏ ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه‏.‏ وقد روي عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير‏:‏ أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب، وكمل به الأربعون‏.‏ وفي هذا نظر؛ لأن هذه الآية مدنية، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى مُبَشِّرًا للمؤمنين وآمرا‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ كل واحد بعشرة ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة‏.‏

قال عبد الله بن المبارك‏:‏ حدثنا جرير بن حازم، حدثني الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف، فقال‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ خفف الله عنهم من العدة، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم‏.‏ وروى البخاري من حديث ابن المبارك، نحوه‏.‏

وقال سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين، ثم خفف الله عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا‏}‏ فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين‏.‏ وروى البخاري، عن علي بن عبد الله، عن سفيان، به ونحوه‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا‏}‏ الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم‏.‏

وروى علي بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عباس، نحو ذلك‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك‏.‏

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، من حديث المسيب بن شريك، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى الحاكم في مستدركه، من حديث أبي عمرو بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا‏}‏ رفع، ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه

تفسير الآيات رقم ‏[‏67 - 69‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس، رضي الله عنه، قال‏:‏ استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال‏:‏ ‏"‏إن الله قد أمكنكم منهم‏"‏ فقام عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله، اضرب أعناقهم‏.‏ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس‏"‏‏.‏ فقام عمر فقال‏:‏ يا رسول الله، اضرب أعناقهم‏.‏ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، فقال‏:‏ يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء‏.‏ قال‏:‏ فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء‏.‏ قال‏:‏ وأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ الآية‏.‏ وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك‏.‏

وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تقولون في هؤلاء الأسارى‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم، لعل الله أن يتوب عليهم‏.‏ قال‏:‏ وقال عمر‏:‏ يا رسول الله، أخرجوك، وكذبوك، فقدمهم فاضرب أعناقهم‏.‏ قال‏:‏ وقال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فأضرم الوادي عليهم نارًا، ثم ألقهم فيه‏.‏ ‏[‏قال‏:‏ فقال العباس‏:‏ قطعت رحمك‏]‏ قال‏:‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا، ثم قام فدخل فقال ناس‏:‏ يأخذ بقول أبي بكر‏.‏ وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عمر‏.‏ وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عبد الله بن رواحة‏.‏ ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، عليه السلام، قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌرَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏، وإن مثلك يا عمر مثل موسىعليه السلام، قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏،وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام، قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق‏"‏‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلا سهيل بن بيضاء‏"‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

رواه الإمام أحمد والترمذي، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، والحاكم في مستدركه، وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري‏.‏

وروى ابن مردويه أيضا -واللفظ له -والحاكم في مستدركه، من حديث عبيد الله بن موسى‏:‏ حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ لما أسر الأسارى يوم بدر، أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال‏:‏ وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه‏.‏ فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه‏"‏ فقال له عمر‏:‏ فآتهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ فأتى عمر الأنصار فقال لهم‏:‏ أرسلوا العباس فقالوا‏:‏ لا والله لا نرسله‏.‏ فقال لهم عمر‏:‏ فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى‏؟‏ قالوا‏:‏ فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه‏.‏ فأخذه عمر فلما صار في يده قال له‏:‏ يا عباس، أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، قال‏:‏ فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر‏:‏ عشيرتك‏.‏ فأرسلهم، فاستشار عمر، فقال‏:‏ اقتلهم، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ‏}‏ الآية‏.‏ قال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن هشام -هو ابن حسان -عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال‏:‏ خَيِّر أصحابك في الأسارى‏:‏ إن شاءوا الفداء، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم‏.‏ قالوا‏:‏ الفداء ويقتل منا‏.‏ رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري، به وهذا حديث غريب جدا‏.‏

وقال ابن عون ‏[‏عن محمد بن سيرين‏]‏ عن عبيدة، عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر‏:‏ ‏"‏إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة، رضي الله عنه‏.‏ ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا فالله أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى‏}‏ فقرأ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ غنائم بدر، قبل أن يحلها لهم، يقول‏:‏ لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏.‏ وكذا روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا‏.‏ وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن جبير، وعطاء‏.‏

وقال شعبة، عن أبي هاشم عن مجاهد‏:‏ ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ أي‏:‏ لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري، رحمه الله‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ يعني‏:‏ في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم، ‏{‏لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ‏}‏ من الأسارى ‏{‏عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وكذا روى العوفي، عن ابن عباس‏.‏ وروي مثله عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة والأعمش أيضا‏:‏ أن المراد ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله‏.‏

ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة‏"‏ وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا‏"‏

ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوااللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء‏.‏

وقد روى الإمام أبو داود في سننه‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة‏.‏ وقد استقر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء‏:‏ أن الإمام مخير فيهم‏:‏ إن شاء قتل -كما فعل ببني قريظة -وإن شاء فادى بمال -كما فعل بأسرى بدر -أو بمن أسر من المسلمين -كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر‏.‏ هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر‏:‏ ‏"‏إني قد عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم، قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا منهم -أي‏:‏ من بني هاشم -فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرها‏"‏‏.‏ فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس‏؟‏ ‏!‏ والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف‏؟‏ فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏يا أبا حفص‏"‏ -قال عمر‏:‏ والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -‏"‏أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف‏؟‏ ‏"‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه، فوالله لقد نافق‏.‏ فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك‏:‏ والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة‏.‏ فقتل يوم اليمامة شهيدا، رضي الله عنه‏.‏

وبه، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه‏:‏ يا رسول الله، ما لك لا تنام‏؟‏ -وقد أسر العباس رجل من الأنصار -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سمعت أنين عمي العباس في وثاقه‏"‏ فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب، وذلك أنه كان رجلا مُوسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا‏.‏ وفي صحيح البخاري، من حديث موسى بن عقبة، قال ابن شهاب‏:‏ حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ ائذَنْ لنا فَلْنَتْرُكْ لابن أختنا عباس فداءه‏.‏ قال لا والله لا تَذَرون منه درهما‏"‏

وقال يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رُومان، عن عُرْوَة -وعن الزهري، عن جماعة سماهم قالوا‏:‏ بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس‏:‏ يا رسول الله، قد كنت مسلما‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابنيْ أخيك‏:‏ نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعَقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر‏"‏ قال‏:‏ ما ذاك عندي يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل‏؟‏ فقلت لها‏:‏ إن أصبتُ في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبَني‏:‏ الفضل، وعبد الله، وقُثم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغيرُ أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني‏:‏ عشرين أوقية من مال كان معي فقال‏؟‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك‏"‏‏.‏ ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله، عز وجل فيه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ قال العباس‏:‏ فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله، عز وجل‏.‏

وقد روى ابن إسحاق أيضا، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن إدريس ‏[‏عن ابن إسحاق‏]‏ عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ قال العباس‏:‏ في نزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ‏}‏ فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني، فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدا، كلهم تاجر، مالي في يده‏.‏

وقال ابن إسحاق أيضا‏:‏ حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله ابن رئاب قال‏:‏ كان العباس بن عبد المطلب يقول‏:‏ فيَّ نزلت -والله -حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي -ثم ذكر نحو الحديث الذي قبله‏.‏

وقال ابن جُريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى‏}‏ عباس وأصحابه‏.‏ قال‏:‏ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ‏}‏ إيمانا وتصديقا، يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ الشرك الذي كنتم عليه‏.‏ قال‏:‏ فكان العباس يقول‏:‏ ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال‏:‏ ‏{‏يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ‏}‏ فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ وأرجو أن يكون غُفر لي‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ كان العباس أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين قرئت هذه الآية‏:‏ لقد أعطانا الله، عز وجل، خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا‏:‏ إني أسرت يوم بدر فَفَدَيت نفسي بأربعين أوقية‏.‏ فآتاني أربعين عبدا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله، جل ثناؤه‏.‏

وقال قتادة في تفسير هذه الآية‏:‏ ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكتًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ‏.‏ قال‏:‏ فكان العباس يقول‏:‏ هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال‏:‏ بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين ثمانين ألفا، ما أتاه مال أكثر منه لا قَبلُ ولا بَعدُ‏.‏ قال‏:‏ فنثرت على حصير ونودي بالصلاة‏.‏ قال‏:‏ وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثل قائما على المال، وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عددٌ ولا وزنٌ، ما كان إلا قَبْضًا، ‏[‏قال‏]‏ وجاء العباس بن عبد المطلب يحثى في خَميصة عليه، وذهب يقوم فلم يستطع، قال‏:‏ فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ارفع علي‏.‏ قال‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه -أو‏:‏ نابه -وقال له‏:‏ ‏"‏أعدْ من المال طائفة، وقم بما تطيق‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ففعل، وجعل العباس يقول -وهو منطلق -‏:‏ أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ هذا خير مما أخذ منا، ولا أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مائلا على ذلك المال، حتى ما بقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى‏.‏

حديث آخر في ذلك‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي، حدثنا مَحْمَش بن عصام، حدثنا حفص بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال‏:‏ ‏"‏انثروه في المسجد‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه‏.‏ فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاء العباس فقال‏:‏ يا رسول الله، أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عَقيلا‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خذ‏"‏‏.‏ فحثا في ثوبه، ثم ذهب يُقِلُّه فلم يستطع، فقال‏:‏ مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فارفعه أنت عليَّ‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خَفِيَ عنه، عَجَبًا من حِرْصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم‏.‏

وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم، يقول‏:‏ ‏"‏وقال إبراهيم بن طهمان‏"‏ ويسوقه، وفي بعض السياقات أتم من هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ‏}‏ أي‏:‏ فيما أظهروا لك من الأقوال، ‏{‏فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل بدر بالكفر به، ‏{‏فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالإسار يوم بدر، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عليم بما يفعله، حكيم فيه‏.‏

قال قتادة‏:‏ نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الكاتب حين ارتد، ولحق بالمشركين‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس‏:‏ نزلت في عباس وأصحابه، حين قالوا‏:‏ لننصحن لك على قومنا‏.‏ وفسرها السُّدِّيّ على العموم، وهو أشمل وأظهر، والله أعلم‏.‏