فصل: تفسير الآية رقم (72)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏

ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاؤوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك‏.‏ وإلى أنصار، وهم‏:‏ المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض أي‏:‏ كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري، عن ابن عباس ورواه العَوْفي، وعلي بن أبي طلحة، عنه وقال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن جَرير -هو ابن عبد الله البجلي -رضي الله عنه -قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة‏"‏ تفرد به أحمد‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا شيبان حدثنا عِكْرِمة -يعني ابن إبراهيم الأزدي -حدثنا عاصم، عن شَقِيق، عن ابن مسعود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏المهاجرون والأنصار، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة‏"‏‏.‏ هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود‏.‏

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه، فقال‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏

وأحسن ما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا‏}‏ أي‏:‏ لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، لا يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده‏:‏ حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن حذيفة قال‏:‏ خَيَّرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة‏.‏ ثم قال‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ‏}‏ ‏[‏قرأ حمزة‏:‏ ‏"‏ولايتهم‏"‏ بالكسر، والباقون بالفتح، وهما واحد كالدِّلالة والدَّلالة‏]‏ ‏{‏مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا‏}‏ هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بَوَاديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيْدة، عن أبيه‏:‏ بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال‏:‏ ‏"‏اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال -أو‏:‏ خلال -فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم‏:‏ ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين‏.‏ فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية‏.‏ فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم‏"‏‏.‏ انفرد به مسلم، وعنده زيادات أخر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ‏{‏بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏}‏ أي‏:‏ مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم‏.‏ وهذا مروي عن ابن عباس، رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏

لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه‏:‏ حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا أبو سعد يحيى بن منصور الهروي، حدثنا محمد بن أبان، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلما‏"‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ ثم قال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏

قلت‏:‏ الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم‏"‏ وفي المسند والسنن، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يتوارث أهل ملتين شتى‏"‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا محمد، ‏[‏عن محمد بن ثور‏]‏ عن معمر، عن الزهري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال‏:‏ ‏"‏تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب‏"‏

وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏"‏أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏لا يتراءى ناراهما‏"‏

وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد‏:‏ حدثنا محمد بن داود بن سفيان، أخبرني يحيى بن حسان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب ‏[‏حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة‏]‏ عن سمرة بن جندب‏:‏ أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله‏"‏

وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن هرمز، عن محمد وسعيد ابنى عبيد، عن أبي حاتم المزني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وإن كان‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه‏"‏ ثلاث مرات‏.‏ وأخرجه أبو داود والترمذي، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه‏.‏

ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن عَجْلان، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض‏"‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74 - 75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏

لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، كما تقدم في أول السورة، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه‏.‏

ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَااغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏وفي الحديث المتفق عليه، بل المتواتر من طرق صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المرء مع من أحب‏"‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏من أحب قوما حُشر معهُم‏"‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن جرير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏ قال شريك‏:‏ فحدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏ تفرد به أحمد من هذين الوجهين‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ في حكم الله، وليس المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُوا الأرْحَامِ‏}‏ خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة، بل يُدْلون بوارث، كالخالة، والخال، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة، بل الحق أن الآيةعامة تشمل جميع القرابات‏.‏ كما نص ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة وغير واحد‏:‏ على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص‏.‏ ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث‏:‏ ‏"‏إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصِيَّة لوارث‏"‏، قالوا‏:‏ فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا، والله أعلم‏.‏

آخر ‏[‏تفسير‏]‏ سورة ‏"‏الأنفال‏"‏، ولله الحمد والمنة، وعليه ‏[‏الثقة و‏]‏ التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

تفسير سورة التوبة

‏[‏بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل‏]‏

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ‏}‏

هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال البخاري‏.‏

حدثنا ‏[‏أبو‏]‏ الوليد، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء يقول‏:‏ آخر آية نزلت‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ وآخر سورة نزلت براءة‏.‏

وإنما لا يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، والاقتداء في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه وأرضاه، كما قال الترمذي‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعد، ومحمد بن جعفر وابن أبي عَدِيّ، وسَهْل بن يوسف قالوا‏:‏ حدثنا عوف بن أبي جَميلة أخبرني يزيد الفارسي، أخبرني ابن عباس قال‏:‏ قلت لعثمان بن عفان‏:‏ ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ووضعتموها في السبع الطّوّل، ما حملكم على ذلك‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو يُنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيءُ دعا بعض من كان يكتب، فيقول‏:‏ ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذْكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية فيقول‏:‏ ‏"‏ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا‏"‏، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحَسبْتُ أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ فوضعتها في السبع الطول‏.‏وكذا رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من طرق أخر، عن عوف الأعرابي، به وقال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏

وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج، ثم ذُكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم، فبعث أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، أميرًا على الحج هذه السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس ببراءة، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكونه عَصَبَة له، كما سيأتي بيانه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ هذه براءة، أي‏:‏ تبرؤ من الله ورسوله ‏{‏إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

اختلف المفسرون ها هنا اختلافا كثيرا، فقال قائلون‏:‏ هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقَّت فأجله إلى مدته، مهما كان؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏4‏]‏ ولما سيأتي في الحديث‏:‏ ‏"‏ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته‏"‏‏.‏ وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير، رحمه الله، ورُوي عن الكلبي ومحمد بن كعب القُرَظِيّ، وغير واحد‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ قال‏:‏ حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون في الأرض حيثما شاءوا، وأجل أجل من ليس له عهد، انسلاخَ الأشهر الحرم، ‏[‏من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏]‏ أمره بأن يضع السيف فيمن لا عهد له‏.‏ وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس‏.‏

وقال ‏[‏الضحاك‏]‏ بعد قوله‏:‏ فذلك خمسون ليلة‏:‏ فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام‏.‏ وأمر ممن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر، أن يضع فيهم السيف حتى يدخلوا في الإسلام‏.‏

وقال أبو معشر المدني‏:‏ حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من ‏"‏براءة‏"‏ فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأها عليهم يوم عرفة، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشرا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال‏:‏ لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ إلى أهل العهد‏:‏ خزاعة، ومُدْلِج، ومن كان له عهد أو غيرهم‏.‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، ثم قال‏:‏ ‏"‏إنما يحضر المشركون فيطوفون عُرَاة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك‏"‏‏.‏ فأرسل أبا بكر وعليًا، رضي الله عنهما، فطافا بالناس في ذي المجَاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها بالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات‏:‏ عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلَّهم بالقتال إلا أن يؤمنوا‏.‏ وهكذا روي عن السدي‏:‏ وقتادة‏.‏

وقال الزهري‏:‏ كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم‏.‏

وهذا القول غريب، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وإعلام ‏{‏مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ وتَقَدُّم وإنذار إلى الناس، ‏{‏يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ‏}‏ وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا ‏{‏أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ أي‏:‏ بريء منهم أيضا‏.‏

ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تُبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ مما أنتم فيه من الشرك والضلال ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ استمررتم على ما أنتم عليه ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ‏}‏ بل هو قادر، وأنتم في قبضته، وتحت قهره ومشيئته، ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا بالخزي والنَّكال، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال‏.‏

قال البخاري، رحمه الله‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني عَقيل، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر، رضي الله عنه، في تلك الحَجَّة في المُؤذِّنين، بعثهم يوم النحر، يُؤذِّنون بمنى‏:‏ ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ قال حميد‏:‏ ثم أردف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، فأمره أن يُؤَذِّن ببراءة‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ فأذَّنَ معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ ورواه البخاري أيضا‏:‏ حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شُعَيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال‏:‏ بعثني أبو بكر فيمن يُؤذِّن يوم النحر بمنى‏:‏ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل‏:‏ ‏"‏الأكبر‏"‏، من أجل قول الناس‏:‏ ‏"‏الحج الأصغر‏"‏، فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك‏.‏ وهذا لفظ البخاري في كتاب ‏"‏الجهاد‏"‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ قال‏:‏ لما كان النبي صلى الله عليه وسلم زمن حنين، اعتمر من الجِعِرَّانة، ثم أمرَ أبا بكر على تلك الحجة -قال معمر‏:‏ قال الزهري‏:‏ وكان أبو هريرة يحدِّث أن أبا بكر أمرَ أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر قال أبو هريرة‏:‏ ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم عليا، وأمره أن يؤذن ببراءة، وأبو بكر على الموسم كما هو، أو قال‏:‏ على هيئته‏.‏ وهذا السياق فيه غرابة، من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجِعرَّانة إنما هو عَتَّاب بن أسيد، فأما أبو بكر إنما كان أميرًا سنة تسع‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن الشعبي، عن مُحرِّر بن أبي هريرة، عن أبيه قال‏:‏ كنت مع علي بن أبي طالب، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ‏"‏ببراءة‏"‏، فقال‏:‏ ما كنتم تنادون‏؟‏ قال‏:‏ كنا ننادي‏:‏ ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله -أو أمَدَه -إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك‏.‏ قال‏:‏ فكنت أنادي حتى صَحل صوتي‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ حدثني مُحَرر بن أبي هريرة، عن أبيه قال‏:‏ كنت مع ابن أبي طالب رضي الله عنه، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي، فكان إذا صَحل ناديتُ‏.‏ قلت‏:‏ بأي شيء كنتم تنادون‏؟‏ قال‏:‏ بأربع‏:‏ لا يطوف بالكعبة عريان، ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا مشرك‏.‏

رواه ابن جرير من غير ما وجه، عن الشعبي‏.‏ ورواه شعبة، عن مغيرة، عن الشعبي، به إلا أنه قال‏:‏ ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى أربعة أشهر‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته؛ لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن سِماك، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ب‏"‏براءة‏"‏ مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال‏:‏ ‏"‏لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي‏"‏‏.‏ فبعث بها مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه‏.‏

ورواه الترمذي في التفسير، عن بندار، عن عفان وعبد الصمد، كلاهما عن حماد بن سلمة به ثم قال‏:‏ حسن غريب من حديث أنس، رضي الله عنه‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا محمد بن سليمان -لُوَين -حدثنا محمد بن جابر، عن سماك، عن حَنَش، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ لما نزلت عشر آيات من ‏"‏براءة‏"‏ على النبي صلى الله عليه وسلم، دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه، فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم‏"‏‏.‏ فلحقته بالجُحْفة، فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، نزل في شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا ولكن جبريل جاءني فقال‏:‏ لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك‏"‏ هذا إسناد فيه ضعف‏.‏

وليس المراد أن أبا بكر، رضي الله عنه، رجع من فوره، بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء مبينا في الرواية الأخرى‏.‏

وقال عبد الله أيضا‏:‏ حدثني أبو بكر، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط بن نصر، عن سماك، عن حنش، عن علي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ب‏"‏براءة‏"‏ قال‏:‏ يا نبي الله، إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال‏:‏ ‏"‏ما بُدُّ لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فإن كان ولا بدَّ فسأذهب أنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم وضع يده على فيه‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع -رجل من هَمْدان -‏:‏ سألنا عليا‏:‏ بأي شيء بعثت‏؟‏ يعني‏:‏ يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة، قال‏:‏ بعثت بأربع‏:‏ لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا‏.‏ ورواه الترمذي عن قلابة، عن سفيان بن عيينة، به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏ كذا قال، ورواه شعبة، عن أبي إسحاق فقال‏:‏ عن زيد بن يُثَيع وهم فيه‏.‏ ورواه الثوري، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحابه، عن علي، رضي الله عنه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع، عن علي قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ‏"‏براءة‏"‏ بأربع‏:‏ ألا يطوف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة‏.‏ ثم رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الأعلى، عن ابن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال‏:‏ أمرت بأربع‏.‏ فذكره‏.‏

وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع قال‏:‏ نزلت براءة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، ثم أرسل عليًا، فأخذها منه، فلما رجع أبو بكر قال‏:‏ نزل في شيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي‏"‏‏.‏ فانطلق إلى أهل مكة، فقام فيهم بأربع‏:‏ لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مدته وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنَيْف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال‏:‏ لما نزلت ‏"‏براءة‏"‏ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس، فقيل‏:‏ يا رسول الله، لو بعثت إلى أبي بكر‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي‏"‏‏.‏ ثم دعا عليا فقال‏:‏ ‏"‏اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى‏:‏ أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يَطُف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته‏"‏‏.‏

فخرج علي رضي الله عنه، على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال‏:‏ أمير أو مأمور‏؟‏ قال بل مأمور، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج، ‏[‏والعرب‏]‏ إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته‏.‏ فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فكان هذا من ‏"‏براءة‏"‏ فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام، وأهل المدة إلى الأجل المسمى‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زُرْعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حَيْوَة بن شُريح‏:‏ أخبرنا أبو صخر‏:‏ أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول‏:‏ سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول‏:‏ سألت علي بن أبي طالب عن ‏"‏يوم الحج الأكبر‏"‏ فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قُحَافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من ‏"‏ براءة‏"‏، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليَّ فقال‏:‏ قم، يا علي، فأدّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من ‏"‏براءة‏"‏، ثم صَدَرنا فأتينا منى، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم، فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم النحر ‏[‏ألا وهو يوم النحر‏]‏ ألا وهو يوم عرفة‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أبي إسحاق‏:‏ سألت أبا جُحَيفة عن يوم الحج الأكبر، قال‏:‏ يوم عرفة‏.‏ فقلت‏:‏ أمِنْ عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ كل في ذلك‏.‏ وقال عبد الرزاق أيضا، عن جُرَيْج، عن عطاء قال‏:‏ يوم الحج الأكبر، يوم عرفة‏.‏

وقال عُمَر بن الوليد الشَّنِّي‏:‏ حدثنا شهاب بن عباد العَصَريّ، عن أبيه قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ هذا يوم عرفة، هذا يوم الحج الأكبر، فلا يصومنه أحد‏.‏ قال‏:‏ فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا‏:‏ سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت‏:‏ إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا‏:‏ سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة‏؟‏ فقال‏:‏ أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر -أو‏:‏ ابن عمر -كان ينهى عن صومه، ويقول هو يوم الحج الأكبر‏.‏ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهكذا روي عن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وعِكْرِمة، وطاوس‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر‏.‏

وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جُرَيْج‏:‏ أخبرت عن محمد بن قيس بن مَخْرَمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة، فقال‏:‏ ‏"‏هذا يوم الحج الأكبر‏"‏

وروي من وجه آخر عن ابن جريج، عن محمد بن قيس، عن المِسْوَر بن مخرمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ ‏"‏أما بعد، فإن هذا يوم الحج الأكبر‏"‏‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه يوم النحر‏.‏ قال هُشَيْم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ يوم الحج الأكبر يوم النحر‏.‏

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن الحارث الأعور، سألت عليًا، رضي الله عنه، عن يوم الحج الأكبر، فقال‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ يوم النحر‏.‏

وقال شعبة، عن الحكم‏:‏ سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي، رضي الله عنه، أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة، فجاء رجل فأخذ بلجام دابته، فسأله عن الحج الأكبر، فقال‏:‏ هو يومك هذا، خَل سبيلها‏.‏

وقال عبد الرازق، عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال‏:‏ يوم الحج الأكبر يوم النحر‏.‏وروى شعبة وغيره، عن عبد الملك بن عمير، به نحوه‏.‏ وهكذا رواه هشيم وغيره، عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى‏.‏

وقال الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال‏:‏ خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال‏:‏ هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الحج الأكبر، يوم النحر‏.‏

وكذا روي عن أبي جُحَيْفة، وسعيد بن جُبَير، وعبد الله بن شداد بن الهاد، ونافع بن جُبَير بن مطعم، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِي، ومجاهد، وعِكْرِمة، وأبي جعفر الباقر، والزهري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا‏:‏ يوم الحج الأكبر هو يوم النحر‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏ وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري‏:‏ أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، وقد ورد في ذلك أحاديث أخر، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثني سهل بن محمد السجستاني، حدثنا أبو جابر الحرمي، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي- عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع، فقال‏:‏ ‏"‏هذا يوم الحج الأكبر‏"‏‏.‏ وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه من حديث أبي جابر -واسمه محمد بن عبد الملك، به، ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز، به‏.‏ ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز، عن نافع، به‏.‏

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة عن مرة الهَمْداني، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، فقال‏:‏ ‏"‏أتدرون أي يوم يومكم هذا‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ يوم النحر‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صدقتم، يوم الحج الأكبر‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال‏:‏ لما كان ذلك اليوم، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له، وأخذ الناس بخطامه -أو‏:‏ زمامه -فقال‏:‏ ‏"‏أي يوم هذا‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال‏:‏ ‏"‏أليس هذا يوم الحج الأكبر‏"‏ وهذا إسناد صحيح، وأصله مخرج في الصحيح‏.‏

وقال أبو الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه قال‏:‏

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال‏:‏ ‏"‏أي يوم هذا‏؟‏‏"‏ فقالوا‏:‏ اليوم الحج الأكبر‏.‏ وعن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ وقال مجاهد أيضا‏:‏ يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها‏.‏

وكذا قال أبو عبيد، قال سفيان‏:‏ ‏"‏يوم الحج‏"‏، و‏"‏يوم الجمل‏"‏، و‏"‏يوم صفين‏"‏ أي‏:‏ أيامه كلها‏.‏

وقال سهل السراج‏:‏ سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر، فقال‏:‏ ما لكم وللحج الأكبر، ذاك عام حج فيه أبو بكر، الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون‏:‏ سألت محمدا -يعني ابن سيرين -عن يوم الحج الأكبر فقال‏:‏ كان يوما وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حج أهل الوبر

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏

هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت، فأجله، أربعة أشهر، يسيح في الأرض، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء، إلا من له عهد مؤقت، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، وقد تقدمت الأحاديث‏:‏ ‏"‏ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته‏"‏ وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي‏:‏ يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته؛ ولهذا حرض الله تعالى على الوفاء بذلك فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ الموفين بعهدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا، ما هي‏؟‏ فذهب ابن جرير إلى أنها ‏[‏الأربعة‏]‏ المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏36‏]‏، قاله أبو جعفر الباقر، لكن قال ابن جرير‏:‏ آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب الضحاك أيضًا، وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله‏:‏ ‏{‏فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ‏}‏ أي‏:‏ إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأرض‏.‏ وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَخُذُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وأسروهم، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏ أي‏:‏ لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ولهذا اعتمد الصديق، رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته‏.‏ ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة، التي هي حق الله، عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة‏"‏ الحديث‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال‏:‏ يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدارسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم‏"‏‏.‏

ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث عبد الله بن المبارك، به

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس ‏[‏عن أنس‏]‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك به شيئا، فارقها والله عنه راض‏"‏ -قال‏:‏ وقال أنس‏:‏ هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث، واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ -قال‏:‏ توبتهم خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ ورواه ابن مردويه‏.‏

ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب ‏"‏الصلاة‏"‏ له‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا حَكَّام بن سِلْم حدثنا أبو جعفر الرازي، به سواء

وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم‏:‏ إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين، وكل عهد، وكل مدة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية، قال‏:‏ أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام، ونقض ما كان سمي لهم من العقد والميثاق، وأذهب الشرط الأول‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال‏:‏ قال سفيان قال علي بن أبي طالب‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف‏:‏ سيف في المشركين من العرب قال الله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ‏[‏وَخُذُوهُمْ‏]‏‏}‏ هكذا رواه مختصرا، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏29‏]‏ والسيف الثالث‏:‏ قتال المنافقين في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ‏[‏وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ‏]‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73، والتحريم‏:‏9‏]‏ والرابع‏:‏ قتال الباغين في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9‏]‏‏.‏

ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي‏:‏ هي منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏4‏]‏ وقال قتادة بالعكس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، ‏{‏اسْتَجَارَكَ‏}‏ أي‏:‏ استأمنك، فأجبه إلى طلبته ‏{‏حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏القرآن‏]‏ تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من ‏[‏أمر‏]‏ الدين تقيم عليه به حجة الله، ‏{‏ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ أي‏:‏ وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في تفسير هذه الآية، قال‏:‏ إنسان يأتيك يسمع ما تقول وما أنزل عليك، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاء‏.‏

ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدًا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم‏:‏ عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدًا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم‏.‏

ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏أتشهد أن مسيلمة رسول الله‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك‏"‏ وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له‏:‏ ابن النواحة، ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له‏:‏ إنك الآن لست في رسالة، وأمر به فضربت عنقه، لا رحمه الله ولعنه‏.‏

والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه‏.‏ لكن قال العلماء‏:‏ لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏

يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ‏}‏ وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله، ‏{‏إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ‏}‏ الآية ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏، ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست، إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء‏:‏ منهم صفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏

يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأدِيلوا عليهم، لم يبقوا ولم يذروا، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، وعِكْرِمة، والعوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏الإل‏"‏‏:‏ القرابة، ‏"‏والذمة‏"‏‏:‏ العهد‏.‏ وكذا قال الضحاك والسدي، كما قال تميم بن مُقْبِل‏:‏

أفسد الناس خُلوفٌ خلفوا *** قطعوا الإلَّ وأعراقَ الرحم

وقال حسان بن ثابت، رضي الله عنه‏:‏

وجدناهُمُ كاذبًا إِلّهُمْ *** وذو الإلِّ والعهد لا يكذب

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا‏}‏ قال‏:‏ الله‏.‏ وفي رواية‏:‏ لا يرقبون الله ولا غيره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏"‏جبرائيل‏"‏، ‏"‏ميكائيل‏"‏، ‏"‏إسرافيل‏"‏، ‏[‏كأنه يقول‏:‏ يضيف ‏"‏جبر‏"‏، و‏"‏ميكا‏"‏، و‏"‏إسراف‏"‏، إلى ‏"‏إيل‏"‏، يقول عبد الله‏:‏ ‏{‏لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا‏}‏‏]‏ كأنه يقول‏:‏ لا يرقبون الله‏.‏

والقول الأول أشهر وأظهر، وعليه الأكثر‏.‏

وعن مجاهد أيضا‏:‏ ‏"‏الإل‏"‏‏:‏ العهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏"‏الإل‏"‏‏:‏ الحلف‏.‏