فصل: تفسير الآياتة رقم (9 -11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآياتة رقم ‏[‏9 -11‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم‏:‏ ‏{‏اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ يعني‏:‏ أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة، ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ منعوا المؤمنين من اتباع الحق، ‏{‏إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً‏}‏ تقدم تفسيره، وكذا الآية التي بعدها‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ‏}‏ إلى آخرها، تقدمت‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا أبو جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته، لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث واختلاف الأهواء‏"‏‏.‏ وتصديق ذلك في كتاب الله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا‏}‏ يقول‏:‏ فإن خلعوا الأوثان وعبادتها ‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ‏}‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏

ثم قال البزار‏:‏ آخر الحديث عندي والله أعلم‏:‏ ‏"‏فارقها وهو عنه راض‏"‏، وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم، أي‏:‏ عهودهم ومواثيقهم، ‏{‏وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ عابوه وانتقصوه‏.‏ ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بتنقص؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال‏.‏

وقد قال قتادة وغيره‏:‏ أئمة الكفر كأبي جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، وعدد رجالا‏.‏

وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ مر سعد برجل من الخوارج، فقال الخارجي‏:‏ هذا من أئمة الكفر‏.‏ فقال سعد‏:‏ كذبت، بل أنا قاتلت أئمة الكفر‏.‏ رواه ابن مردويه‏.‏

وقال الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال‏:‏ ما قوتل أهل هذه الآية بعد‏.‏

وروى عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مثله‏.‏

والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير‏:‏ أنه كان في عهد أبي بكر، رضي الله عنه، إلى الناس حين وجههم إلى الشام، قال‏:‏ إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 -15‏]‏

‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم، الذين هموا بإخراج الرسول من مكة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏30‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ‏[‏إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي‏]‏‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏1‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏76‏]‏وقوله ‏{‏وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ قيل‏:‏ المراد بذلك يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم طلبا للقتال، بغيا وتكبرا، كما تقدم بسط ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان ما كان، ولله الحمد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ لا تخشوهم واخشون، فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي، فبيدي الأمر، وما شئت كان، وما لم أشأ لم يكن‏.‏

ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين، وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وهذا عام في المؤمنين كلهم‏.‏

وقال مجاهد، وعِكْرِمة، والسدي في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ خزاعة‏.‏

وأعاد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ عليهم أيضا‏.‏

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذنٍ لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، عن مسلم بن يسار، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها، وقال‏:‏ ‏"‏يا عويش، قولي‏:‏ اللهم، رب النبي محمد اغفر ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن‏"‏‏.‏

ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم، عن الباغندي، عن هشام بن عمار، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجون، عنه‏.‏

‏{‏وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من عباده، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بما يصلح عباده، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا، ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ أيها المؤمنون أن نترككم مهملين، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب‏؟‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً‏}‏ أي‏:‏ بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر، كما قال الشاعر‏:‏

وما أدري إذا يممت أرضا *** أريد الخير أيهما يليني

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏[‏الم‏]‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1-3‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏

والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده، بين أن له فيه حكمة، وهو اختبار عبيده‏:‏ من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون‏؟‏ فيعلم الشيء قبل كونه، ومع كونه على ما هو عليه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولا راد لما قدره وأمضاه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 18‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏"‏مسجد الله‏"‏ فأراد به المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ وأسسه خليل الرحمن هذا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي‏:‏ بحالهم وقالهم، كما قال السُّدِّي‏:‏ لو سألت النصراني‏:‏ ما دينك‏؟‏ لقال‏:‏ نصراني، واليهودي‏:‏ ما دينك‏؟‏ لقال يهودي، والصابئي، لقال‏:‏ صابئي، والمشرك، لقال‏:‏ مشرك‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بشركهم، ‏{‏وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏34‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد، كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سريج حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث؛ أن دراجا أبا السمح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ ورواه الترمذي، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب، به‏.‏

وقال عبد بن حميد في مسنده‏:‏ حدثنا يونس بن محمد، حدثنا صالح المري، عن ثابت البناني، عن ميمون بن سياه، وجعفر بن زيد، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما عمار المساجد هم أهل الله‏"‏ ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبد الواحد بن غياث، عن صالح بن بشير المري، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما عمار المساجد هم أهل الله‏"‏ ثم قال‏:‏ لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح‏.‏

وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار، عن أبيها، عن أخيه مالك بن دينار، عن أنس مرفوعا‏:‏ ‏"‏إذا أراد الله بقوم عاهة، نظر إلى أهل المساجد، فصرف عنهم‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ غريب‏.‏

وروى الحافظ البهاء في المستقصى، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي‏:‏ حدثنا منصور بن صقير، حدثنا صالح المرى، عن ثابت، عن أنس مرفوعا‏:‏ ‏"‏يقول الله‏:‏ وعزتي وجلالي، إني لأهم بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت ذلك عنهم‏"‏‏.‏ ثم قال ابن عساكر‏:‏ حديث غريب‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة، حدثنا العلاء بن زياد، عن معاذ بن جبل؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد‏"‏‏.‏

وقال عبد الرازق، عن مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي قال‏:‏ أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون‏:‏ إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها‏.‏

وقال المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي، فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الآية رواه ابن مردويه‏.‏

وقد روي مرفوعا من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقَامَ الصَّلاةَ‏}‏ أي‏:‏ التي هي أكبر عبادات البدن، ‏{‏وَآتَى الزَّكَاةَ‏}‏ أي‏:‏ التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ ولم يخف إلا من الله تعالى، ولم يخش سواه، ‏{‏فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ يقول‏:‏ من وحد الله، وآمن باليوم الآخر يقول‏:‏ من آمن بما أنزل الله، ‏{‏وَأَقَامَ الصَّلاةَ‏}‏ يعني‏:‏ الصلوات الخمس، ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ‏}‏ يقول‏:‏ لم يعبد إلا الله -ثم قال‏:‏ ‏{‏فَعَسَى أُولَئِكَ ‏[‏أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏]‏‏}‏ يقول‏:‏ إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏79‏]‏ يقول‏:‏ إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة، وكل ‏"‏عسى‏"‏ في القرآن فهي واجبة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله‏:‏ و‏"‏عسى‏"‏ من الله حق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 21‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ‏}‏

اسْتَحَبُّوا - أمر الله تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا ‏(‏اسْتَحَبُّوا‏)‏‏}‏ أي‏:‏ اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وروى الحافظ ‏[‏أبو بكر‏]‏ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال‏:‏ جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية‏:‏ ‏{‏لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله، فقال‏:‏ ‏(‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا‏)‏ أي‏:‏ اكتسبتموها وحصلتموها ‏(‏ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا‏)‏ أي‏:‏ تحبونها لطيبها وحسنها، أي‏:‏ إن كانت هذه الأشياء ‏(‏أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا‏)‏‏}‏ أي‏:‏ فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏)‏‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جده قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه‏"‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي‏.‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏الآن يا عمر‏"‏ انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين‏"‏ وروى الإمام أحمد، وأبو داود -واللفظ له -من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم‏"‏

وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 26‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏

قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد‏:‏ هذه أول آية نزلت من ‏[‏سورة‏]‏ ‏"‏براءة‏"‏‏.‏ يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعَددهم ولا بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حُنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أنزل ‏[‏الله‏]‏ نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت يونس يحدث عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي ثم قال‏:‏‏}‏ هذا حديث حسن غريب، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما روي عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏

وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره، عن أكثم بن الجون، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه والله أعلم‏.‏

وقد كانت وقعة‏:‏ ‏"‏حُنين‏"‏ بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك لما فرغ عليه السلام من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أنهوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جُشم وبنو سعد بن بكر، وأوزاع من بني هلال، وهم قليل، وناس من بني عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم، وجاءوا بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين أيضا، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له ‏"‏حنين‏"‏، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم ملكهم‏.‏ فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين، كما قال الله، عز وجل وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير، وهو ينوه باسمه، عليه الصلاة والسلام، ويدعو المسلمين إلى الرجعة ‏[‏ويقول‏]‏‏:‏‏"‏ أين يا عباد الله‏؟‏ إليَّ أنا رسول الله‏"‏، ويقول في تلك الحال‏:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ومنهم من قال‏:‏ ثمانون، فمنهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، والعباس وعلي، والفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وغيرهم، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس -وكان جهير الصوت -أن ينادي بأعلى صوته‏:‏ يا أصحاب الشجرة -يعني شجرة بيعة الرضوان، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على ألا يفروا عنه -فجعل ينادي بهم‏:‏ يا أصحاب السمرة ويقول تارة‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون‏:‏ يا لبيك، يا لبيك، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع، لبس درعه، ثم انحدر عنه، وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما رجعت شرذمة منهم، أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره، وقال‏:‏ ‏"‏اللهم أنجز لي ما وعدتني‏"‏ ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار أبي همام، عن أبي عبد الرحمن الفهري -واسمه يزيد بن أسيد، ويقال‏:‏ يزيد بن أنيس، ويقال‏:‏ كُرْز -قال‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه، فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، حان الرواح‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أجل‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا بلال‏"‏ فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر، فقال‏:‏ لبيك وسعديك، وأنا فداؤك فقال‏:‏ ‏"‏أسرج لي فرسي‏"‏‏.‏ فأخرج سرجا دفتاه من ليف، ليس فيهما أشرٌ ولا بَطَر‏.‏

‏(‏ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏يا معشر المهاجرين، أنا عبد الله ورسوله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه قال‏:‏ فأسرج، فركب وركبنا، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا، فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين، كما قال الله، عز وجل‏:‏ ‏(‏ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏يا معشر المهاجرين، أنا عبد الله ورسوله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه فأخذ كفا من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني‏:‏ أنه ضرب به وجوههم، وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏‏.‏ فهزمهم الله عز وجل‏.‏ قال يعلى بن عطاء‏:‏ فحدثني أبناؤهم، عن آبائهم، أنهم قالوا‏:‏ لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض، كإمرار الحديد على الطست الجديد‏.‏

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في ‏"‏دلائل النبوة‏"‏ من حديث أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة به‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر عن عبد الله قال‏:‏ فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل، فاشتدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين، لا يُقْبِل أحد عن أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول‏:‏ ‏"‏أيها الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله‏"‏ فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال‏:‏ ‏"‏يا عباس، اصرخ‏:‏ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة‏"‏‏.‏ فأجابوه‏:‏ لبيك، لبيك، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه في عنقه، ويأخذ سيفه وقوسه، ثم يَؤُمَّ الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار، ثم جعلت آخرًا بالخزرج وكانوا صُبُرًا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مُجتَلَد القوم، فقال‏:‏ ‏"‏الآن حمي الوَطيس‏"‏‏:‏ قال‏:‏ فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم‏.‏

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، رضي الله عنهما، أنه قال له رجل‏:‏ يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال‏:‏ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو يقول‏:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

قلت‏:‏ وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى، وقد انكشف عنه جيشه، هو مع ذلك على بغلة وليست سريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلا عليه، وعلمًا منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏(‏ ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ‏)‏ أي‏:‏ طمأنينته وثباته على رسوله، ‏(‏ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏)‏ أي‏:‏ الذين معه، ‏(‏ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا‏)‏‏}‏ وهم الملائكة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ ‏[‏حدثنا القاسم قال‏]‏ حدثني الحسن بن عرفة قال‏:‏ حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف -هو ابن أبي جميلة الأعرابي -قال‏:‏ سمعت عبد الرحمن مولى ابن بُرْثُن، حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال‏:‏ لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حَلَب شاة -قال‏:‏ فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال‏:‏ فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا‏:‏ شاهت الوجوه، ارجعوا‏.‏ قال‏:‏ فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني محمد بن أحمد بن بَالُويَه، حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حَصِيرة، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال‏:‏ قال ابن مسعود، رضي الله عنه‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فولى عنه الناس، وبقيتُ معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة‏.‏ قال‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قُدُما، فحادَت بغلته، فمال عن السرج، فقلت‏:‏ ارتفع رفعك الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ناولني كفًا من التراب‏"‏‏.‏ فناولته، قال‏:‏ فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابًا، قال‏:‏ ‏"‏أين المهاجرون والأنصار‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ هم هناك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اهتف بهم‏"‏‏.‏ فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم‏.‏ ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان، به نحوه‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ حدثني عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهُذلي، عن عِكْرِمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال‏:‏ لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عَرى، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت‏:‏ اليوم أدرك ثأري منه -قال‏:‏ فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائمًا، عليه درع بيضاء كأنها فضة، يكشف عنها العجاج، فقلت‏:‏ عَمُّه ولن يخذله -قال‏:‏ فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت‏:‏ ابن عمه ولن يخذله‏.‏ فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسَوّره سورة بالسيف، إذ رفع لي شُوَاظ من نار بيني وبينه، كأنه برق، فخفت أن تَمْحَشَني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقري، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏يا شيبَ، يا شيب ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فرفعت إليه بصري، ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال‏:‏ ‏"‏يا شيب قاتل الكفار‏"‏‏.‏ رواه البيهقي من حديث الوليد، فذكره ثم روى من حديث أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش، فقلت وأنا واقف معه‏:‏ يا رسول الله، إني أرى خيلا بُلقا، فقال‏:‏ ‏"‏يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر‏"‏‏.‏ فضرب بيده في صدري، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم، اهد شيبة‏"‏، ثم ضربها الثانية، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم، اهد شيبة‏"‏، ثم ضربها الثالثة ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم اهد شيبة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليَّ منه، وذكر تمام الحديث، في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني والدي إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن جُبَير بن مطعم، رضي الله عنه، قال‏:‏ إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البِجَاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة‏.‏ وقال سعيد بن السائب بن يسار، عن أبيه قال‏:‏ سمعت يزيد بن عامر السُّوَائي -وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد -فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّسْت فيطنّ، فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا‏.‏ وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق أنبأنا مَعْمَر، عن هَمَّام قال‏:‏ هذا ما حدثنا أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم‏"‏ ‏(‏ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏)‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏(‏ ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏)‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد‏:‏ هذه أول آية نزلت من ‏[‏سورة‏]‏ ‏"‏براءة‏"‏‏.‏

يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعَددهم ولا بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حُنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أنزل ‏[‏الله‏]‏ نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت يونس يحدث عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي ثم قال‏:‏‏}‏ هذا حديث حسن غريب، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم، وإنما روي عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏

وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره، عن أكثم بن الجون، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه والله أعلم‏.‏

وقد كانت وقعة‏:‏ ‏"‏حُنين‏"‏ بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك لما فرغ عليه السلام من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أنهوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جُشم وبنو سعد بن بكر، وأوزاع من بني هلال، وهم قليل، وناس من بني عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم، وجاءوا بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين أيضا، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له ‏"‏حنين‏"‏، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم ملكهم‏.‏ فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين، كما قال الله، عز وجل وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير، وهو ينوه باسمه، عليه الصلاة والسلام، ويدعو المسلمين إلى الرجعة ‏[‏ويقول‏]‏ أين يا عباد الله‏؟‏ إليَّ أنا رسول الله‏"‏، ويقول في تلك الحال‏:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ومنهم من قال‏:‏ ثمانون، فمنهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، والعباس وعلي، والفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وغيرهم، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس -وكان جهير الصوت -أن ينادي بأعلى صوته‏:‏ يا أصحاب الشجرة -يعني شجرة بيعة الرضوان، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على ألا يفروا عنه -فجعل ينادي بهم‏:‏ يا أصحاب السمرة ويقول تارة‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون‏:‏ يا لبيك، يا لبيك، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع، لبس درعه، ثم انحدر عنه، وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلما رجعت شرذمة منهم، أمرهم عليه السلام أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره، وقال‏:‏ ‏"‏اللهم أنجز لي ما وعدتني‏"‏ ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار أبي همام، عن أبي عبد الرحمن الفهري -واسمه يزيد بن أسيد، ويقال‏:‏ يزيد بن أنيس، ويقال‏:‏ كُرْز -قال‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه، فقلت‏:‏ السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، حان الرواح‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أجل‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا بلال‏"‏ فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر، فقال‏:‏ لبيك وسعديك، وأنا فداؤك فقال‏:‏ ‏"‏أسرج لي فرسي‏"‏‏.‏ فأخرج سرجا دفتاه من ليف، ليس فيهما أشرٌ ولا بَطَر‏.‏

قال‏:‏ فأسرج، فركب وركبنا، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا، فتشامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين، كما قال الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏يا معشر المهاجرين، أنا عبد الله ورسوله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه فأخذ كفا من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني‏:‏ أنه ضرب به وجوههم، وقال‏:‏ ‏"‏شاهت الوجوه‏"‏‏.‏ فهزمهم الله عز وجل‏.‏ قال يعلى بن عطاء‏:‏ فحدثني أبناؤهم، عن آبائهم، أنهم قالوا‏:‏ لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض، كإمرار الحديد على الطست الجديد‏.‏

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في ‏"‏دلائل النبوة‏"‏ من حديث أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة به‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر عن عبد الله قال‏:‏ فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل، فاشتدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين، لا يُقْبِل أحد عن أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول‏:‏ ‏"‏أيها الناس هلموا إليَّ أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله‏"‏ فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال‏:‏ ‏"‏يا عباس، اصرخ‏:‏ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة‏"‏‏.‏ فأجابوه‏:‏ لبيك، لبيك، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه في عنقه، ويأخذ سيفه وقوسه، ثم يَؤُمَّ الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار، ثم جعلت آخرًا بالخزرج وكانوا صُبُرًا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مُجتَلَد القوم، فقال‏:‏ ‏"‏الآن حمي الوَطيس‏"‏‏:‏ قال‏:‏ فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم‏.‏

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، رضي الله عنهما، أنه قال له رجل‏:‏ يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقال‏:‏ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو يقول‏:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

قلت‏:‏ وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى، وقد انكشف عنه جيشه، هو مع ذلك على بغلة وليست سريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله، وتوكلا عليه، وعلمًا منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ طمأنينته وثباته على رسوله، ‏{‏وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ الذين معه، ‏{‏وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ وهم الملائكة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير‏:‏ ‏[‏حدثنا القاسم قال‏]‏ حدثني الحسن بن عرفة قال‏:‏ حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف -هو ابن أبي جميلة الأعرابي -قال‏:‏ سمعت عبد الرحمن مولى ابن بُرْثُن، حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال‏:‏ لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حَلَب شاة -قال‏:‏ فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال‏:‏ فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا‏:‏ شاهت الوجوه، ارجعوا‏.‏ قال‏:‏ فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني محمد بن أحمد بن بَالُويَه، حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حَصِيرة، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال‏:‏ قال ابن مسعود، رضي الله عنه‏:‏ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فولى عنه الناس، وبقيتُ معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة‏.‏ قال‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قُدُما، فحادَت بغلته، فمال عن السرج، فقلت‏:‏ ارتفع رفعك الله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ناولني كفًا من التراب‏"‏‏.‏ فناولته، قال‏:‏ فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابًا، قال‏:‏ ‏"‏أين المهاجرون والأنصار‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ هم هناك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اهتف بهم‏"‏‏.‏ فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم‏.‏

ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان، به نحوه‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ حدثني عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهُذلي، عن عِكْرِمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان قال‏:‏ لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عَرى، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت‏:‏ اليوم أدرك ثأري منه -قال‏:‏ فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائمًا، عليه درع بيضاء كأنها فضة، يكشف عنها العجاج، فقلت‏:‏ عَمُّه ولن يخذله -قال‏:‏ فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت‏:‏ ابن عمه ولن يخذله‏.‏ فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسَوّره سورة بالسيف، إذ رفع لي شُوَاظ من نار بيني وبينه، كأنه برق، فخفت أن تَمْحَشَني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقري، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏يا شيبَ، يا شيب ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فرفعت إليه بصري، ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال‏:‏ ‏"‏يا شيب قاتل الكفار‏"‏‏.‏ رواه البيهقي من حديث الوليد، فذكره ثم روى من حديث أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال‏:‏ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش، فقلت وأنا واقف معه‏:‏ يا رسول الله، إني أرى خيلا بُلقا، فقال‏:‏ ‏"‏يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر‏"‏‏.‏ فضرب بيده في صدري، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم، اهد شيبة‏"‏، ثم ضربها الثانية، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم، اهد شيبة‏"‏، ثم ضربها الثالثة ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم اهد شيبة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليَّ منه، وذكر تمام الحديث، في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني والدي إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن جُبَير بن مطعم، رضي الله عنه، قال‏:‏ إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البِجَاد الأسود يهوي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة‏.‏

وقال سعيد بن السائب بن يسار، عن أبيه قال‏:‏ سمعت يزيد بن عامر السُّوَائي -وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد -فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّسْت فيطنّ، فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا‏.‏

وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق أنبأنا مَعْمَر، عن هَمَّام قال‏:‏ هذا ما حدثنا أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم‏"‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ قد تاب الله على بقية هوازن، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعِرَّانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما، فعند ذلك خَيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم أموالهم بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائةً مائةً من الإبل، وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النَّضْري، واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها‏:‏

ما إنْ رَأيتُ ولا سَمعتُ بمثْلِه *** في النَّاس كُلّهم بمثل مُحَمَّد

أوْفَى وأعْطَى للجزيل إذا اجتُدى *** ومَتى تَشَأ يُخْبرْكَ عَمّا في غَد

وإذَا الكتيبة عَرّدَتْ أنيابُها *** بالسَّمْهَريّ وَضَرْب كُلّ مُهَنَّد

فَكَأنَّه ليث على أشْبَاله *** وسط الهَبَاءة خَادر في مَرْصَد

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجدالحرام، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية‏.‏ وكان نزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر، رضي الله عنهما، عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين‏:‏ ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا‏.‏

وقال عبد الرازق‏:‏ أخبرنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ إلا أن يكون عبدًا، أو أحدا من أهل الذمة‏.‏

وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حُسَين حدثنا شريك، عن الأشعث -يعني‏:‏ ابن سَوَّار -عن الحسن، عن جابر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل العهد وخدمهم ‏"‏ تفرد به أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا‏.‏

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي‏:‏ كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه‏:‏ أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏}‏‏.‏

وقال عطاء‏:‏ الحرم كله مسجد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏‏.‏

ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت ‏[‏على طهارة المؤمن، ولما‏]‏ ورد في ‏[‏الحديث‏]‏ الصحيح‏:‏ ‏"‏المؤمن لا ينجس‏"‏ وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم‏.‏

وقال أشعث، عن الحسن‏:‏ من صافحهم فليتوضأ‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وذلك أن الناس قالوا‏:‏ لتنقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، فنزلت ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ من وجه غير ذلك -‏{‏إِنْ شَاءَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب، من الجزية‏.‏وهكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة والضحاك، وغيرهم‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بما يصلحكم، ‏{‏حَكِيم‏}‏ أي‏:‏ فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك وتعالى؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة، فقال‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد، صلوات الله عليه، لأن جميع الأنبياء ‏[‏الأقدمين‏]‏ بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا به، وهو أشرف الرسل، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ وهذه الآية الكريمة ‏[‏نزلت‏]‏ أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو ‏[‏من‏]‏ ثلاثين ألفا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ وحر، وخرج، عليه السلام، يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله‏.‏

وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشباههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي، وأحمد -في المشهور عنه -وقال أبو حنيفة، رحمه الله‏:‏ بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب‏.‏

وقال الإمام مالك‏:‏ بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ، ومجوسي، ووثني، وغير ذلك، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ‏}‏ أي‏:‏ إن لم يسلموا، ‏{‏عَنْ يَدٍ‏}‏ أي‏:‏ عن قهر لهم وغلبة، ‏{‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ذليلون حقيرون مهانون‏.‏ فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه‏"‏ ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال‏:‏ كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم‏.‏

قال‏:‏ فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه‏:‏ ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق‏.‏