فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (32):

{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أمّ سلمة أنها قالت: قلت: يا رسول الله.... فذكره، وقال: غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت....
ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ثم نزلت: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195].
ثم قال ابن أبي حاتم: وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ.
وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله.... وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال: نزلت هذه الآية في قول النساء: ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر- يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قال: أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: {وَلا تَتَمَنَّوْا} فإنه عدل مني، وأنا صنعته.
وقال السدي: قوله: في الآية {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} فإن الرجال قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي قال: ليس بعرض الدنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال ولا يتمنى الرجل فيقول: «ليت لو أن لي مال فلان وأهله!» فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله.
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: «لا حَسَد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل: لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء» فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: في الأمور الدنيوية، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس.
وهكذا قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون. رواه ابن جرير.
ثم قال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أي: كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير.
وقيل: المراد بذلك في الميراث، أي: كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس:
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} أي لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب.
وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد: سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج».
ثم قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح.
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: «سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج».
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي: هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي: ورثة.
وعن ابن عباس في رواية: أي عَصَبة. قال ابن جرير: والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:
مَهْلا بني عَمّنا مَهْلا مَوالينا ** لا تُظْهِرَن لنا ما كان مدفُونا

قال: ويعني بقوله: {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام: ولكلكم- أيها الناس- جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.
وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة- أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثة، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسخت، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.
ثم قال البخاري: سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} نُسخت. ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج- وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول: ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ». فنسختها هذه الآية: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75].
ثم قال: وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي، والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا: هم الحلفاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس- ورفعه- قال: «ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة».
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وحدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة» هذا لفظ ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ». قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً». قال: «ولا حِلْف في الإسلام». وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال: فقال: «ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفٍ في الإسلام».
وكذا رواه أحمد عن هشيم.
وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً».
وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال: «يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ».
ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً».
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، مثله.
ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا- وهو ابن أبي زائدة- بإسناده، مثله.
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به.
ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، قال: مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، فقال: «ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ».
وكذا رواه شعبة، عن مغيرة- وهو ابن مِقْسَم- عن أبيه، به.
وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد- وكانت يتيمة في حجر أبي بكر- فقرأت عليها {وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فقالت: لا ولكن: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت: إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.
رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة: لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل، رحمه الله.
والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} أي: ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أي: اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.
وقد قيل: إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم.
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث.
ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ} قال: كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6]. يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.
وهذا نص غير واحد من السلف: أنها منسوخة بقوله: {وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا}
وقال سعيد بن جبير: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من الميراث. قال: وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث- حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك، فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة؟! والله أعلم.