فصل: تفسير الآيات (42- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 43):

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم، ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله، واستكبروا عنها.
وينبه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل؛ لأنه تعالى قال: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي: من حسد وبغضاء، كما جاء في الصحيح للبخاري، من حديث قتادة، عن أبي المتوكِّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة؛ فوالذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا».
وقال السُّدِّي في قوله: {وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} الآية: إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا.
وقد روى أبو إسحاق، عن عاصم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك كما سيأتي في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73] إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقال قتادة: قال علي، رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} رواه ابن جرير.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، عن إسرائيل قال: سمعت الحسن يقول: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت: {وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}
وروى النسائي وابن مَرْدُويه- واللفظ له- من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون له شكرًا. وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني فيكون له حسرة».
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل».

.تفسير الآيات (44- 45):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}
يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} {أن} هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف، و{قد} للتحقيق، أي: قالوا لهم: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الآيات: 55- 59]
أي: ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذا تقرعهم الملائكة يقولون لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 14- 16] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر، فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة- وسمى رءوسهم-: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا».
وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قومًا قد جَيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».
وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} أي: أعلم معلم ونادى مُنَاد: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أي: مستقرة عليهم.
ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي: جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه، ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا.

.تفسير الآيات (46- 47):

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
قال ابن جرير: وهو السور الذي قال الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى: {وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ}
ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} وهو السور، وهو الأعراف.
وقال مجاهد: الأعراف: حجاب بين الجنة والنار، سور له باب. قال ابن جرير: والأعراف جمع عُرْف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفًا، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه.
وحدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن عيينة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: الأعراف هو الشيء المشرف.
وقال الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: الأعراف: سور كعُرْف الديك.
وفي رواية عن ابن عباس: الأعراف، تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وفي رواية عنه: هو سور بين الجنة والنار. وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير.
وقال السدي: إنما سمي الأعراف أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله. وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه:
حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن الحسين، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا شيخ لنا يقال له: أبو عباد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال: «أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون».
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه من وجه آخر، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: «إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله».
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا يحيى بن شِبْل، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: «هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار قتلهم في سبيل الله».
هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق، عن أبي معشر به وكذلك رواه ابنُ ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال: فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.
وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال:
حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال: قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن- وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش- وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات. فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فبينا هم كذلك، اطلع عليهم ربك فقال لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.
وقال عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103] ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فتعوذوا بالله من منازلهم. قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمة نورًا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]. وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع، فهنالك يقول الله تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فكان الطمع دخولا. قال: وقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول: هلك من غلبت واحدته أعشاره.
رواه ابن جرير وقال أيضا:
حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: الأعراف: السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: الحياة، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال: تمنوا ما شئتم فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا. فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين أهل الجنة.
وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن يحيى بن المغيرة، عن جرير، به. وقد رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، من قوله وهذا أصح، والله أعلم.
وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.
وقال سُنَيْد بن داود: حدثني جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال: «هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم». وهذا مرسل حسن وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الوليد بن موسى، عن منبه بن عثمان عن عُرْوَة بن رُوَيْم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم فقال: على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فسألناه: وما الأعراف؟ فقال: «حائط الجنة تجري فيها الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار».
رواه البيهقي، عن ابن بشران، عن علي بن محمد المصري، عن يوسف بن يزيد، عن الوليد بن موسى، به.
وقال سفيان الثوري، عن خُصَيف، عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا} في النار {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}.
وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق: وقول الجمهور مقدم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه.
وكذا قول مجاهد: إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا. والله أعلم.
وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها: أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة، دخلوا يطلعون على أخبار الناس. وقيل: هم أنبياء. وقيل: ملائكة.
وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه.
وكذا روى الضحاك، عنه.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين. وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله.
وكذا قال مجاهد، والضحاك، والسدي، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مَعْمَر، عن الحسن: إنه تلا هذه الآية: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
وقال قتادة قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.
وقوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال الضحاك، عن ابن عباس: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
وقال السُّدِّي: وإذا مروا بهم- يعني بأصحاب الأعراف- بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
وقال عكرمة: تحدد وجوههم في النار، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}