فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (2):

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
قال ابن جُرَيج: قال ابن عباس: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}: هذا الكتاب.
وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسديّ ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وابن جريج: أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
و{الْكِتَابُ} القرآن. ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به.
والرّيب: الشك، قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد.
وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا.
وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني ** فقلت كلانا يا بثين مريب

واستعمل- أيضًا- في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كل ريب ** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب- وهو القرآن- لا شك فيه أنه نزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: {الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1، 2].
وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه.
ومن القراء من يقف على قوله: {لا رَيْبَ} ويبتدئ بقوله: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} والوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: {هُدًى} صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فِيهِ هُدًى}.
و{هُدًى} يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.
وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقد قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يعني: نورًا للمتقين.
وقال الشعبي: هدى من الضلالة.
وقال سعيد بن جبير: تبيان للمتَّقين. وكل ذلك صحيح.
وقال السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} قال: هم المؤمنون.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {لِلْمُتَّقِينَ} أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: {لِلْمُتَّقِينَ} قال: المؤمنين الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.
وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قوله: {لِلْمُتَّقِينَ} قال: اتَّقوا ما حرّم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.
وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتَّقين، قال: فأجبته. فقال لي سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك. ولم ينكره.
وقال قتادة {لِلْمُتَّقِينَ} هم الذين نعتهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} الآية والتي بعدها [البقرة: 3، 4].
واختار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.
وقد روى الترمذي وابن ماجه، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس، عن عطية السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس». ثم قال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان، يعني الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة، قال: كنت جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل، يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتَّقون؟ قال: قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة.
وأصل التقوى: التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد

وقال الآخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت ** بأحسن موصولين كف ومعصم

وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها ** وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر ** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة ** إن الجبال من الحصى

وأنشد أبو الدرداء يومًا:
يريد المرء أن يؤتى مناه ** ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي ** وتقوى الله أفضل ما استفادا

وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله».

.تفسير الآية رقم (3):

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، {يُؤْمِنُونَ} يصدقون.
وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: {يُؤْمِنُونَ} يخشون.
قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12]، وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {بِالْغَيْبِ} قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله تعالى.
وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.
وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: بغيب الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1- 5].
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي معنى هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد بن عبد الرحمن، عن خالد بن دُرَيك، عن ابن مُحَيريز، قال: قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدثك حديثًا جيدًا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: «نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني».
طريق أخرى: قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن صالح بن جُبَيْر، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا» مرتين.
ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير، عن أبي جمعة، بنحوه.
وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا.
وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟». قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟». قالوا: فالنبيون. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟». قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟». قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها».
قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني جعفر بن محمود، عن جدته تويلة بنت أسلم، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.
قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومما رزقناهم ينفقون 3}
قال ابن عباس: أي: يقيمون الصلاة بفروضها.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.
وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.
وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: زكاة أموالهم.
وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة.
وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المُثْبَتَات.
وقال قتادة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.
قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت». والأحاديث في هذا كثيرة.
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:
لها حارس لا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها ** وإن ذُبحَتْ صلى عليها وزَمْزَما

وقال أيضًا وقابلها الريح في دَنّها ** وصلى على دَنّها وارتسم

أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.
وقال الآخر- وهو الأعشى أيضًا-:
تقول بنتي وقد قَرَّبتُ مرتحلا ** يا رب جنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا

عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي ** نوما فإن لِجَنب المرء مُضْطجعا

يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها المشروعة المشهورة.
وقال ابن جرير: وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته.
وقيل: هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند الركوع، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر، وقيل: هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: {لا يَصْلاهَا} أي: يلزمها ويدوم فيها {إِلا الأشْقَى} [الليل: 15] وقيل: مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم.
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.