فصل: تفسير الآيات (28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجد الحرام، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر، رضي الله عنهما، عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا.
وقال عبد الرازق: أخبرنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} إلا أن يكون عبدًا، أو أحدا من أهل الذمة.
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حُسَين حدثنا شريك، عن الأشعث- يعني: ابن سَوَّار- عن الحسن، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل العهد وخدمهم».
تفرد به أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}
وقال عطاء: الحرم كله مسجد، لقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت على طهارة المؤمن، ولما ورد في الحديث الصحيح: «المؤمن لا ينجس» وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم.
وقال أشعث، عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، فنزلت {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} من وجه غير ذلك- {إِنْ شَاءَ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب، من الجزية.
وهكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَير، وقتادة والضحاك، وغيرهم.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أي: بما يصلحكم، {حَكِيم} أي: فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك وتعالى؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد، صلوات الله عليه، لأن جميع الأنبياء الأقدمين بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا به، وهو أشرف الرسل، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ وحر، وخرج، عليه السلام، يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله.
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشباههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي، وأحمد- في المشهور عنه- وقال أبو حنيفة، رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ، ومجوسي، ووثني، وغير ذلك، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا، والله أعلم.
وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} أي: إن لم يسلموا، {عَنْ يَدٍ} أي: عن قهر لهم وغلبة، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه».
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين صالح نصارى من أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما اليهود فقالوا في العُزَير: إنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم، حتى سقطت جفون عينيه، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة، وإذ امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وامطعماه! واكاسياه! فقال لها ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله. قال: فإن الله حي لا يموت! قالت: يا عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به. ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه، وصَلِّ هناك ركعتين، فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما أمر به، فإذا شيخ فقال له: افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة، ثلاث مرات، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: يا عُزَير، ما كنت كَذَّابا. فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما، وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء، وأخبروا بشأن عزير، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوها بها، فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم، {يضاهئون} أي: يشابهون {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} وقال ابن عباس: لعنهم الله، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؟ أي: كيف يضلون عن الحق، وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل؟
وقوله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي، ما تقول؟ أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يُفرك؟ أيفرّك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون».
وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله حل، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

.تفسير الآيات (32- 33):

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أي: ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، بمجرد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فكذلك ما أرسل الله به رسوله لابد أن يتم ويظهر؛ ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ومنه سمي الليل كافرا؛ لأنه يستر الأشياء، والزارع كافرا؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]
ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} فالهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة، والإيمان الصحيح، والعلم النافع- ودين الحق: هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن أبي يعقوب: سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قَبِيصة- أو: قبيصة بن مسعود- يقول: صلى هذا الحي من مُحَارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا سليم بن عامر، عن تميم الداري، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر»، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني ابن جابر، سمعت سليم بن عامر قال: سمعت المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر، إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها».
وفي المسند أيضا: حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي حذيفة، عن عدي بن حاتم سمعه يقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدي، أسلم تسلم». فقلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك». فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم، ألست من الرَّكُوسِيَّة، وأنت تأكل مرباع قومك؟». قلت: بلى. قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك». قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العرب، أتعرف الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد سمعت بها. قال: «فوالذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز». قلت: كسرى بن هرمز؟. قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد». قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وقال مسلم: حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرّقَاشِيّ، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَد اللاتُ والعُزّى». فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله، عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تام، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، عز وجل، ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كلّ من كان في قلبه مثقال حَبَّة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم».