فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (37):

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم- وهو عمير بن قيس المعروف- بجذل الطعان:
لَقَدْ عَلمت مَعد أنَّ قَومِي ** كرَامُ النَّاس أنَّ لَهُمْ كِراما

ألسْنا الناسئينَ على مَعد ** شُهُورَ الحِل نَجْعلُهَا حَرَاما

فأيّ النَّاسِ لَم تُدْرَك بوتْر ** وأيّ النَّاس لم نُعْلك لجاما

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} قال: النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثُمَامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب، ألا وإن صفر العام الأول حلال. فيحله للناس، فيحرم صفرا عاما، ويحرم المحرم عاما، فذلك قول الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الكافرين} وقوله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه.
وروى العوفي عن ابن عباس نحوه.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له، فيقول: يا أيها الناس، إني لا أعاب ولا أجاب، ولا مَرَدّ لما أقول، إنا قد حَرَّمنا المحرم، وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر، وأخرنا المحرم. فهو قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} قال: يعني الأربعة {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} لتأخير هذا الشهر الحرام.
وروي عن أبي وائل، والضحاك، وقتادة نحو هذا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: القَلَمَّس، وكان في الجاهلية، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده، فلما كان هو، قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم! قال: ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين. قال: ففعل ذلك، فلما كان عام قابل قال: لا تغزُوا في صفر، حرموه مع المحرم، هما محرمان.
فهذه صفة غريبة في النسيء، وفيها نظر؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر، فأين هذا من قوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}.
وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا، فقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: فرض الله، عز وجل، الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوالا وذا القعدة. وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون شوالا رمضان، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».
وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة، وأنى هذا؟ وقد قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الآية [التوبة: 3]، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره، من دوران السنة عليهم، وحجهم في كل شهر عامين؛ فإن النسيء حاصل بدون هذا، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا، وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه، وبعده صفر، وربيع وربيع إلى آخرها فيحلونه عاما ويحرمونه عاما؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، أي: في تحريم أربعة أشهر من السنة، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم، وتارة ينسئونه إلى صفر، أي: يؤخرونه. وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر»، أي: أن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي، لا كما يعتمده جهلة العرب، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: «وإنما النسيء من الشيطان، زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما». فكانوا يحرمون المحرم عاما، ويستحلون صفر ويستحلون المحرم، وهو النسيء.
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلامًا جيدًا ومفيدًا حسنًا، فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله، عز وجل، القَلمَّس، وهو: حذيفة بن عبد مُدْرِكة فُقَيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبًا، فحرم رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عاما، ويجعل مكانه صفر، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله، فيحل ما حرم الله، يعني: ويحرم ما أحل الله.

.تفسير الآيات (38- 39):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارَّة القيظ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ} أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة.
ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} كما قال الإمام أحمد.
حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع؟» وأشار بالسبابة.
انفرد بإخراجه مسلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحِمْصي، حدثنا الربيع بن رَوْح، حدثنا محمد بن خالد الوهبي، حدثنا زياد- يعني الجصاص- عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول: سمعت نبي الله يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}
فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل.
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش في الآية: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} قال: كزاد الراكب.
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه، أنظر إليه فلما وضع بين يديه نَظَر إليه فقال: أمَا لي من كَبِير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لك من دار. إن كان كثيرُك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور.
ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القَطْر فكان عذابهم.
{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: {إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
{وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي: ولا تضروا الله شيئًا بتوليكم عن الجهاد، ونُكُولكم وتثاقلكم عنه، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
وقد قيل: إن هذه الآية، وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وقوله {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إنهن منسوخات بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] رُوي هذا عن ابن عباس، وعِكْرِمة، والحسن، وزيد بن أسلم. ورده ابن جرير وقال: إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، فتعين عليهم ذلك، فلو تركوه لعوقبوا عليه.
وهذا له اتجاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

.تفسير الآية رقم (40):

{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}.
يقول تعالى: {إِلا تَنْصُرُوهُ} أي: تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي: عام الهجرة، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيرا نحو المدينة، فجعل أبو بكر، رضي الله عنه، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد، فيخلص إلى الرسول، عليه السلام منهم أذى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا ثابت، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. قال: فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
أخرجاه في الصحيحين.
ولهذا قال تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: تأييده ونصره عليه، أي: على الرسول في أشهر القولين: وقيل: على أبي بكر، وروي عن ابن عباس وغيره، قالوا: لأن الرسول لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال؛ ولهذا قال: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي: الملائكة، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}
قال ابن عباس: يعني {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الشرك و{كَلِمَةُ اللَّهِ} هي: لا إله إلا الله.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي: في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يُضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، {حَكِيمٌ} في أقواله وأفعاله.

.تفسير الآية رقم (41):

{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح: هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} أول ما نزل من سورة براءة.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا، فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} الآية.
أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحَتَّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر، فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا}
وقال علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: كهولا وشَبَابًا ما أسمع الله عَذَر أحدًا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل.
وفي رواية: قرأ أبو طلحة سورة براءة، فأتى على هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا جهزوني يا بَنِيَّ. فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها.
وهكذا روي عن ابن عباس، وعِكْرِمة وأبي صالح، والحسن البصري، وشَمْر بن عطية، ومقاتل بن حَيَّان، والشعبي وزيد بن أسلم: أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قالوا: كهولا وشبابا وكذا قال عِكْرِمة والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغير واحد.
وقال مجاهد: شبابا وشيوخا، وأغنياء ومساكين.
وكذا قال أبو صالح، وغيره.
وقال الحكم بن عُتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} يقول: انفروا نشاطا وغير نشاط.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مُجاهد: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قالوا: فإن فينا الثقيل، وذا الحاجة، والضيعة والشغل، والمتيسر به أمر، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا: في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دُروب الروم نفرَ الناس إليها خفافا وركبانا، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة. وهذا تفصيل في المسألة.
وقد روي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
وقال السدي قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} يقول: غنيًا وفقيرًا، وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ، زعموا أنه المقداد، وكان عظيما سمينًا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فأبى فنزلت يومئذ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91].
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدًا قال: وكان أبو أيوب يقول: قال الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السَّكُوني، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا حَرِيز، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فضل عنها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة البعوث: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا}.
وبه قال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليا على حمص قِبَل الأفسُوس، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هما، وقد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. فأقبلت إليه فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله، عز وجل.
ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وتَكفَّل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة».
ولهذا قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن حميد، عن أنس؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم». قال: أجدني كارها. قال: «أسلم وإن كنت كارها».