فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (42):

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
يقول تعالى موبّخًا للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما استأذنوه في ذلك، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} قال ابن عباس: غنيمة قريبة، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي: قريبا أيضا، {لاتَّبَعُوكَ} أي: لكانوا جاءوا معك لذلك، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: المسافة إلى الشام، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} أي: لكم إذا رجعتم إليهم {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي: لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم، قال الله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

.تفسير الآيات (43- 45):

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حصين بن يحيي بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة، عن مِسْعَر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} وكذا قال مُوَرِّق العِجْلي وغيره.
وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخَّص له في أن يأذن لهم إن شاء: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] وكذا رُوي عن عطاء الخراساني.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذِنُوا رسول الله فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
ولهذا قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي: في إبداء الأعذار، {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: {لا يَسْتَأْذِنُكَ} أي: في القعود عن الغزو {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}؛ لأن أولئك يرون الجهاد قربة، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} أي: في القعود ممن لا عذر له {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: شكت في صحة ما جئتهم به، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: يتحيرون، يُقَدِّمُون رجلا ويؤخرون أخرى، وليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هَلْكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.

.تفسير الآيات (46- 47):

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
يقول تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} أي: معك إلى الغزو {لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} أي: لكانوا تأهبوا له، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي: أبغض أن يخرجوا معك قَدرًا، {فَثَبَّطَهُمْ} أي: أخرهم، {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي: قدرًا.
ثم بين الله تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين. فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} أي: لأنهم جبناء مخذولون، {وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد، وزيد بن أسلم، وابن جرير: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وقال محمد بن إسحاق: كان فيما بلغني- من استأذن- من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول والجَدُّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}
ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فأخبر بأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66- 68] والآيات في هذا كثيرة.

.تفسير الآية رقم (48):

{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ} أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد تَوَجَّه. فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم؛ ولهذا قال تعالى: {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}

.تفسير الآية رقم (49):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} بالخروج معك، بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا. كما قال محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رُومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: «هل لك يا جَدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك». ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الآية، أي: إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم.
وهكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: أنها نزلت في الجد بن قيس. وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوأ من البخل، ولكن سَيِّدكم الفتى الأبيض الجَعْد بِشْر بن البراء بن مَعْرُور».
وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي: لا مَحيد لهم عنها، ولا مَحيص، ولا مَهرَب.

.تفسير الآيات (50- 51):

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}
يعلم تبارك وتعالى نبيه بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من {حَسَنَةٌ} أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء، مما يسره ويسر أصحابه، ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا، {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} فأرشد الله تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة، فقال: {قُلْ} أي: لهم {لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: نحن تحت مشيئة الله، وقدره، {هُوَ مَوْلانَا} أي: سيدنا وملجؤنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

.تفسير الآيات (52- 54):

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
يقول تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا}؟ أي: تنتظرون بنا {إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} شهادَة أو ظَفَرٌ بكم. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي: ننتظر بكم هذا أو هذا، إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا، بسبي أو بقتل، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}
وقوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي: مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين {لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}
ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك، وهو أنهم لا يتقبل منهم، {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} أي: قد كفروا والأعمال إنما تصح بالإيمان، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} أي: ليس لهم قصد صحيح، ولا همة في العمل، {وَلا يُنْفِقُونَ} نفقة {إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ}
وقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لا يمل حتى تملوا، وأنه طيب لا يقبل إلا طيبا؛ فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.

.تفسير الآية رقم (55):

{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}
يقول تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} كما قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]
وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56]
وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال الحسن البصري: بزكاتها، والنفقة منها في سبيل الله.
وقال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
واختار ابن جرير قول الحسن، وهو القول القَوي الحسن.
وقوله: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي: ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم، عياذا بالله من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.

.تفسير الآيات (56- 57):

{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
يخبر الله تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} يمينًا مؤكدة، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي: في نفس الأمر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: فهو الذي حملهم على الحلف. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يحترزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي التي في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلا} وهو السَّرَب في الأرض والنفَق. قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباس، ومجاهد، وقتادة: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغَمٍّ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}