فصل: تفسير الآيات (84- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 86):

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي: فإن الله كاف من توكل عليه، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتوكل، كما في قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9]، وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك، فقالوا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تظفرهم بنا، وتسلطهم علينا، فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل، فيفتنوا بذلك. هكذا روي عن أبي مِجْلَز، وأبي الضُّحى.
وقال ابن أبي نَجِيح وغيره واحد، عن مجاهد: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سُلِّطنا عليهم، فيفتنوا بنا.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عُيَيْنَةَ، عن ابن نَجِيح، عن مجاهد: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تسلطهم علينا، فيفتنونا.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} أي: خلصنا برحمة منك وإحسان، {مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: الذين كفروا الحق وستروه، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا علي.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون، عليهما السلام {أَنْ تَبَوَّءَا} أي: يتخذا لقومهما بمصر بيوتا.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فقال الثوري وغيره، عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: أمرُوا أن يتخذوها مساجد.
وقال الثوري أيضا، عن ابن منصور، عن إبراهيم: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه زيد بن أسلم: وكأن هذا- والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 156]. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. أخرجه أبو داود. ولهذا قال تعالى في هذه الآية: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بالثواب والنصر القريب.
وقال العوفي، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية قال: قالت بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة.
وقال مجاهد: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًا.
وكذا قال قتادة، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: يقابل بعضها بعضا.

.تفسير الآيات (88- 89):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)}
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى، عليه السلام، على فرعون وَمَلَئه، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين، ظلما وعلوا وتكبرًا وعتوا، قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً} أي: من أثاث الدنيا ومتاعها، {وأموالا} أي: جزيلة كثيرة، {فِي} هذه {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}- بفتح الياء- أي: أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم، كما قال تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}
وقرأ آخرون: {لِيُضِلُّوا} بضم الياء، أي: ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم.
{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} قال ابن عباس، ومجاهد: أي: أهلكها.
وقال الضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس: جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت.
وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة.
وقال محمد بن كعب القُرَظي: اجعل سُكَّرهم حجارة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، عن أبي مَعْشَر، حدثني محمد بن قيس: أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ} إلى قوله: {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} إلى آخرها فقال له: عمر يا أبا حمزة أي شيء الطمس؟ قال: عادت أموالهم كلها حجارة فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: ائتني بكيس. فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض، قد قطع حول حجارة.
وقوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال ابن عباس: أي اطبع عليها، {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ}
وهذه الدعوة كانت من موسى، عليه السلام، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح، عليه السلام، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى، عليه السلام، فيهم هذه الدعوة، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون، فقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}
قال أبو العالية، وأبو صالح، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس: دعا موسى وأمَّنَ هارون، أي: قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون.
وقد يحتج بهذه الآية من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنزل منزلة قراءتها؛ لأن موسى دعا وهارون أمن.
وقال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي: كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري.
قال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس: {فَاسْتَقِيمَا} فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.
وقال محمد بن علي بن الحسين: أربعين يوما.

.تفسير الآيات (90- 92):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى، عليه السلام، وهم- فيما قيل- ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا، فخرجوا به معهم، فاشتد حَنَق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر، وأدركهم فرعون، ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى، عليه السلام، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا، {كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] أي: كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص، نفذ القدر، واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل، عليه السلام، على فرس- وديق حائل- فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله، فاقْتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا، فتجلد لأمرائه، وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم، لا يترك أحدا منهم، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه وتكاملوا، وهم أولهم بالخروج منه، أمر اللهُ القدير البحرَ أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فآمن حيث لا ينفعه الإيمان، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84، 85].
وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي: في الأرض الذين أضلوا الناس، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41]
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهْران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} قال: قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وقد أخذت حالا من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة».
ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم، من حديث حماد بن سلمة، به وقال الترمذي: حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة». وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا، وابن جرير أيضا، من غير وجه، عن شعبة، به وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
ووقع في رواية عند ابن جرير، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن عطاء وعَدِيّ، عن سعيد، عن ابن عباس، رفعه أحدهما- وكأن الآخر لم يرفعه، فالله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن عبد الله بن يَعْلَى الثقفي، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون، أشار بأصبعه ورفع صوته: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.
وكذا رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبي خالد، به موقوفا.
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا، فقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام، عن عَنْبَسة- هو ابن سعيد- عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطّه وأدس من الحال في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له» يعني: فرعون.
كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين: لا أعرفه، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم: مجهول، وباقي رجاله ثقات.
وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف: قتادة، وإبراهيم التيمي، وميمون بن مِهْران. ونقل عن الضحاك بن قيس: أنه خطب بهذا للناس، فالله أعلم.
وقوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح، وعليه درعه المعروفة به على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} أي: نرفعك على نَشز من الأرض، {بِبَدَنِك} قال مجاهد: بجسدك.
وقال الحسن: بجسم لا روح فيه.
وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا، أي: لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه.
وقال أبو صخر: بدرعك.
وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي: لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء؛ ولهذا قرأ بعض السلف: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي: لا يتعظون بها، ولا يعتبرون. وقد كان إهلاك فرعون وملئه يوم عاشوراء، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه».