فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (25):

{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}
هذا حال الأشقياء وصفاتهم، وذكر مآلهم في الدار الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهؤلاء {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} كما ثبت في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية: «وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجر».
ولهذا قال: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وهي الإبعاد عن الرحمة، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهي سوء العاقبة والمآل، ومأواهم جهنم وبئس القرار.
وقال أبو العالية في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية، قال: هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظَّهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظَّهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا.

.تفسير الآية رقم (26):

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ (26)}
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتره على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل. وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].
ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ}
كما قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] وقال {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة.
ورواه مسلم في صحيحه.
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بِجَدْيٍ أسكَّ ميتٍ- والأسك الصغير الأذنين- فقال: «والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه».

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}
يخبر تعالى عن قيل المشركين: {لَوْلا} أي: هلا {أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} كما قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة، وإن الله قادر على إجابة ما سألوا. وفي الحديث: «إن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبًا، وأن يجري لهم ينبوعًا، وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك، فإن كفروا فإني أعذبهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة، فقال: بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة»؛ ولهذا قال لرسوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: هو المضل والهادي، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا، أو لم يجبهم إلى سؤالهم؛ فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه، كما قال: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] وقال {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97] وقال {وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]؛ ولهذا قال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: ويهدي من أناب إلى الله، ورجع إليه، واستعان به، وتضرع لديه.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرًا؛ ولهذا قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: هو حقيق بذلك.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: فرح وقُرة عين.
وقال عِكْرِمة: نعم مالهم.
وقال الضحاك: غبطة لَهُم.
وقال إبراهيم النَّخعي: خير لهم.
وقال قتادة: هي كلمة عربية يقول الرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيرًا.
وقال في رواية: {طُوبَى لَهُمْ} حسنى لهم.
{وَحُسْنُ مَآبٍ} أي: مرجع.
وهذه الأقوال شيء واحد لا منافاة بينها.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {طُوبَى لَهُمْ} قال: هي أرض الجنة بالحبشية.
وقال سعيد بن مَسْجُوح: طوبى اسم الجنة بالهندية.
وكذا روى السدي، عن عِكْرِمة: {طُوبَى لَهُمْ} أي: الجنة. وبه قال مجاهد.
وقال العوفي، عن ابن عباس: لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} وذلك حين أعجبته.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: {طُوبَى} شجرة في الجنة، كل شجر الجنة منها، أغصانها من وراء سور الجنة.
وهكذا رُوي عن أبي هريرة، وابن عباس، ومغيث بن سُمَىّ، وأبي إسحاق السَّبِيعي وغير واحد من السلف: أن طوبى شجرة في الجنة، في كل دار منها غصن منها.
وذكر بعضهم أن الرحمن، تبارك وتعالى، غرسها بيده من حبة لؤلؤة، وأمرها أن تمتد، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة، من عسل وخمر وماء ولبن.
وقد قال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، أن درَّاجا أبا السَّمْح حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، مرفوعا: «طوبى: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت عبد الله بن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج أبو السمح، أن أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني». قال له رجل: وما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها».
وروى البخاري ومسلم جميعًا، عن إسحاق بن راهويه، عن مغيرة المخزومي، عن وَهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» قال: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزّرَقي، فقال: حدثني أبو سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجَوَاد المضمَّرَ السريع مائة عام ما يقطعها».
وفي صحيح البخاري، من حديث يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيْج، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}» أخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة، سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين- أو: مائة- سنة هي شجرة الخلد».
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر سدرة المنتهى، قال: «يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة- أو: قال-: يستظل في الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال». رواه الترمذي.
وقال إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى، فتفتح له أكمامها، فيأخذ من أي ذلك شاء، إن شاء أبيض، وإن شاء أحمر، وإن شاء أصفر، وإن شاء أسود، مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن».
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن أشعث بن عبد الله، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: طوبى شجرة في الجنة، يقول الله لها: «تَفَتَّقي لعبدي عَمّا شاء؛ فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها، وعن الإبل بأزمتها، وعما شاء من الكسوة».
وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرًا غريبًا عجيبا، قال وهب، رحمه الله: «إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، وَوحَلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المْرعِزّي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال: فيركبونها، فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجيا من غير مَهَنَة، يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى، ولا بَرك راحلة برك الأخرى، حتى إن شجرة لتتنحَّى عن طريقهم، لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم، أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام. قال: فيقول تعالى عند ذلك أنا السلام ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري».
قال: فيقولون: ربنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا في السجود قُدامك قال: فيقول الله: «إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار مُلْك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته» فيسألونه، حتى أن أقصرهم أمنية ليقول: رب، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتنى مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى: «لقد قصرت بك أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني، وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا تَصريد». قال: ثم يقول: «اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال». قال: «فيعرضون عليهم حتى تَقْصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقْرنة، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مُفرَّغة، في كل قبة منها فرش من فُرش الجنة مُتظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ولا ريح طيبة إلا قد عبقتا به ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما، كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى هو لهما مثل ذلك، ويدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعتنقانه به، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة، حتى ينتهى بكل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له».
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده، عن وهب بن منبه، وزاد: فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم، فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مُسَخر، إذًا لالتمع الأبصارَ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض، فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر، فهو مفروش بالأرجوان الأصفر منزه بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشُرُفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غُرَف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم، قُرّبت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تَجنَبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة بِرْذَون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء، منظومة بالدر والياقوت، سُرُوجها سُرُرٌ موضونة، مفروشة بالسندس والإستبرق. فانطلقت بهم تلك البراذين تَزَف بهم ببطن رياض الجنة. فلما انتهوا إلى منازلهم، وجدوا الملائكة قُعُودًا على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامَةَ ربهم. فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تَطَاول به عليهم وما سألوا وتمنوا، وإذا على باب كلّ قصر من تلك القصور أربعة جنان، جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مُدْهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام، فلما تَبَيَّنُوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم: هل وجدتم ما وعدتكم حقا؟ قالوا: نعم ورَبِّنَا. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا، رضينا فارض عنا قال: برضاي عنكم حللتم داري، ونظرتم إلى وجهي، وصافحتكم ملائكتي، فهنيئًا هنيئًا لكم، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ليس فيه تنغيص ولا تصريد. فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وأدخلنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إن ربنا لغفور شكور.
وهذا سياق غريب، وأثر عجيب ولبعضه شواهد، ففي الصحيحين: «أن الله تعالى يقول لذلك الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة: تمن»، فيتمنى حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى: «تمن من كذا وتمن من كذا»، يذكره، ثم يقول: «ذلك لك، وعشرة أمثاله».
وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، عز وجل: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر»، الحديث بطوله.
وقال خالد بن مَعْدَان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، لها ضروع، كلها ترضع صِبيَان أهل الجنة، وإن سَقَط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة، يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم.