فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (18):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)}
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح؛ فانهارت وعَدِمُوها أحوج ما كانوا إليها، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} أي: مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء، فلم يجدوا شيئًا، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصَّل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي: ذي ريح عاصفة قوية، فلا يقدرون على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران: 117]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].
وقال في هذه الآية: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي: سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما هم إليه، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.

.تفسير الآيات (19- 20):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}
يقول تعالى مخبرًا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات، والحركات المختلفات، والآيات الباهرات، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد، وبرارى وصحارى وقفار، وبحار وأشجار، ونبات وحيوان، على اختلاف أصنافها ومنافعها، وأشكالها وألوانها؛ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 77- 83].
وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي: بعظيم ولا ممتنع، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره، أن يذهبكم ويأتي بآخرين على غير صفتكم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15- 17]، وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].

.تفسير الآية رقم (21):

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
يقول: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} أي: برزت الخلائق كلها، برها وفاجرها لله وحده الواحد القهار، أي: اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا.
{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين استكبروا عن عبادة.
الله وحده لا شريك له، وعن موافقة الرسل، فقالوا لهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: فهل تدفعون عنا شيئًا من عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا؟ فقالت القادة لهم: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} ولكن حق علينا قول ربنا، وسبق فينا وفيكم قدر الله، وحقت كلمة العذاب على الكافرين.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي: ليس لنا خَلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله، عز وجل، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}
قلت: والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47، 48]، وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 38، 39]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66- 68].
وأما تخاصمهم في المحشر، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31- 33].

.تفسير الآيات (22- 23):

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ (23)}
يخبر تعالى عما خطب به إبليس لعنه الله أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس- لعنه الله- حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغَبنا إلى غبْنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي: على ألسنة رسله، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقا، وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم، كما قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120].
ثم قال: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه، {فَلا تَلُومُونِي} اليوم، {وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فإن الذنب لكم، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي: بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}
قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل.
وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكا لله، عز وجل.
وهذا الذي قال هو الراجح كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]، وقال: {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82].
وقوله: {إِنَّ الظَّالِمِينَ} أي: في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
والظاهر من سياق الآية: أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار، كما قدمنا. ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم- وهذا لفظه- وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين الحَجْري، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، فقضى بينهم، ففرغ من القضاء، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم- وذكر نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى- فيقول عيسى: أدلكم على النبي الأمي. فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط، حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكافرون هذا: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط، ثم يعظم نحيبهم {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}».
وهذا سياق ابن أبي حاتم، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن دُخَيْن عن عُقْبَة، به مرفوعا.
وقال محمد بن كعب القُرظي، رحمه الله: لما قال أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} قال لهم إبليس: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} الآية، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فنودوا: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10].
وقال عامر الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس، يقول الله لعيسى ابن مريم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 116، 119]، قال: ويقوم إبليس- لعنه الله- فيقول: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} الآية.
ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنَّكَال. وأن خطيبهم إبليس، عطف بحال السعداء وأنهم يدخلون يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا {خَالِدِينَ فِيهَا} ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر: 73]، وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24] وقال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان: 75]، وقال: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

.تفسير الآيات (24- 26):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً} شهادة أن لا إله إلا الله، {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهو المؤمن، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يقول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وهكذا قال الضحاك، وسعيد بن جُبَير، وعِكْرِمة وقتادة وغير واحد: إن ذلك عبارة عن المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كالشجرة من النخل، لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء.
وهكذا رواه السُّدِّي، عن مُرَّة، عن ابن مسعود قال: هي النخلة.
وشعبة، عن معاوية بن قُرَة، عن أنس: هي النخلة.
وحماد بن سلمة، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع بُسْر فقال: {ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} قال: «هي النخلة».
وروي من هذا الوجه ومن غيره، عن أنس موقوفا وكذا نص عليه مسروق، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة وغيرهم.
وقال البخاري: حدثنا عُبَيدُ بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني عن شجرة تشبه- أو: كالرجل- المسلم، لا يتحات ورقها ولا ولا ولا تؤتي أكلها كل حين». قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة». فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتا، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا. قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا.
وقال أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: صحبت ابن عمر إلى المدينة، فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا- قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار. فقال: «من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم». فأردت أن أقول: هي النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، فسكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» أخرجاه.
وقال مالك وعبد العزيز، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه: «إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها، مثل المؤمن». قال: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» أخرجاه أيضا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان- يعني ابن زيد العطار- حدثنا قتادة: أن رجلا قال: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور! فقال: «أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا، فركب بعضها على بعض أكان يبلغ السماء؟ أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء؟». قال: ما هو يا رسول الله؟ قال: «تقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله عشر مرات في دبر كل صلاة، فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء».
وعن ابن عباس {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: هي شجرة في الجنة.
وقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قيل: غُدوة وعَشيا. وقيل: كل شهر. وقيل: كل شهرين.
وقيل: كل ستة أشهر. وقيل: كل سبعة أشهر. وقيل: كل سنة.
والظاهر من السياق: أن المؤمن مثله كمثل شجرة، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء، أو ليل أو نهار، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين.
{بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي: كاملا حسنا كثيرا طيبا، {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
وقوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هذا مثل كفر الكافر، لا أصل له ولا ثبات، وشبه بشجرة الحنظل، ويقال لها: الشريان. رواه شعبة، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك: أنها شجرة الحنظل.
وقال أبو بكر البزار الحافظ: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس- أحسَبه رفعه- قال: مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة، قال: «هي النخلة»، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} قال: «هي الشّرْيان».
ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن معاوية، عن أنس موقوفا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد- هو ابن سلمة- عن شعيب بن الحَبْحاب عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هي الحنظلة». فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: هكذا كنا نسمع.
ورواه ابن جرير، من حديث حماد بن سلمة، به ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال:
حدثنا غسان، عن حماد، عن شعيب، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع عليه بُسْر، فقال: ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فقال: «هي النخلة» {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} قال: «هي الحنظل» قال شعيب: فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كنا نسمع.
وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي: استؤصلت {مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي: لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل، ولا يتقبل منه شيء.