فصل: كتاب فضائل القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.كتاب فضائل القرآن:

قال البخاري، رحمه الله:

.كيف نزول الوحي وأول ما نزل:

قال ابن عباس: المهيمن الأمين القرآن، أمين على كل كتاب قبله: حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال: أخبرتني عائشة وابن عباس قالا لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا.
ذكر البخاري، رحمه الله، كتاب فضائل القرآن بعد كتاب التفسير؛ لأن التفسير أهم ولهذا بدأ به، ونحن قدمنا الفضائل قبل التفسير وذكرنا فضل كل سورة قبل تفسيرها ليكون ذلك باعثا على حفظ القرآن وفهمه والعمل بما فيه والله المستعان.
وقول ابن عباس في تفسير المهيمن إنما يريد به البخاري قوله تعالى في المائدة بعد ذكر التوراة والإنجيل: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله:
حدثنا المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية عن علي- يعني ابن أبي طلحة- عن ابن عباس في قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: المهيمن: الأمين. قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. وفي رواية: شهيدا عليه. وقال سفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عن أبي إسحاق السبيعي، عن التميمي، عن ابن عباس: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: مؤتمنا. وبنحو ذلك قال مجاهد والسدي وقتادة وابن جريج والحسن البصري وغير واحد من أئمة السلف. وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن هيمنة وهو عليه مهيمن، وفي أسماء الله تعالى: المهيمن، وهو الشهيد على كل شيء، والرقيب: الحفيظ بكل شيء.
وأما الحديث الذي أسنده البخاري: أنه، عليه السلام، أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا، فهو مما انفرد به البخاري دون مسلم، وإنما رواه النسائي من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن، عن يحيى وهو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا} [الإسراء: 106]. هذا إسناد صحيح. أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ما لا خلاف فيه، وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة؛ لأنه، عليه الصلاة والسلام، أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشرة اختصارا في الكلام؛ لأن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور في كلامهم، أو أنهما إنما اعتبرا قرن جبريل، عليه السلام، به عليه السلام. فإنه قد روى الإمام أحمد أنه قرن به، عليه السلام، ميكائيل في ابتداء الأمر، يلقى إليه الكلمة والشيء، ثم قرن به جبريل.
ووجه مناسبة هذا الحديث بفضائل القرآن: أنه ابتدئ بنزوله في مكان شريف، وهو البلد الحرام، كما أنه كان في زمن شريف وهو شهر رمضان، فاجتمع له شرف الزمان والمكان؛ ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن في شهر رمضان؛ لأنه ابتدئ نزوله فيه؛ ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان، فلما كان في السنة التي توفى فيها عارضه به مرتين تأكيدا وتثبيتًا.
وأيضا في هذا الحديث بيان أنه من القرآن مَكِّي ومنه مدني، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان، حتى ولو كان بمكة أو عرفة. وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من المدني، واختلفوا في أخر، وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر، ولكن قال بعضهم: كل سورة في أولها شيء من الحروف المقطعة فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، كما أن كل سورة فيها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مدنية وما فيها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا، والغالب أنه مكي. وقد يكون مدنيا كما في البقرة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 20]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
قال أبو عبيد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة: كل شيء في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه أنزل بالمدينة، وما كان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فإنه أنزل بمكة. ثم قال: حدثنا علي بن معبد، عن أبي الملَيْح، عن ميمون بن مِهْران، قال: ما كان في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} و{يَا بَنِي آدَمَ} فإنه مكي، وما كان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه مدني.
ومنهم من يقول: إن بعض السور نزل مرتين، مرة بالمدينة ومرة بمكة، والله أعلم. ومنهم من يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني، كما في سورة الحج وغيرها.
والحق في ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح، فالله أعلم. وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة، قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، والفتح، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والحواريون، والتغابن، و{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} و{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} والفجر، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و{إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} و{إِذَا زُلْزِلَتِ} و{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} وسائر ذلك بمكة.
وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور، وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير، وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر، وفاته الحجرات والمعوذات.
الحديث الثاني: وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: أنبئت أن جبريل، عليه السلام، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» أو كما قال، قالت: هذا دحية الكلبي، فلما قام قلت: والله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر خَبر جبريل. أو كما قال، قال أبي: فقلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ فقال: من أسامة بن زيد. وهكذا رواه أيضا في علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي، ومسلم في فضائل أم سلمة عن عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن عبد الأعلى كلهم عن معتمر بن سليمان به.
والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو وجاهة وجلالة ومكانة كما قال: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193، 194]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} الآيات [التكوير: 19- 22]. فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وسنستقصي الكلام على تفسير هذا الكتاب في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وفي الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة، رضي الله عنها- كما بينه مسلم رحمه الله- لرؤيتها لهذا الملك العظيم، وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي، وذلك أن جبريل، عليه السلام، كان كثيرا ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة، رضي الله عنه، وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كلهم ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة من قضاعة، وقضاعة قيل: إنهم من عدنان، وقيل: من قحطان، وقيل: بطن مستقل بنفسه، والله أعلم.
الحديث الثالث: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
ورواه أيضا في كتاب الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم والنسائي عن قتيبة جميعا، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه- واسمه كيسان المقبري- به.
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء، وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث: ما من نبي إلا أعطى من المعجزات ما آمن عليه البشر، أي: ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا إلى الناس بالتواتر، ففي كل حين هو كما أنزل، فلهذا قال: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا»، وكذلك وقع، فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة، واستمرار معجزته؛ ولهذا قال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقصر التحدي على هذا المقام في السور المكية كما ذكرنا وفي المدنية أيضا كما في سورة البقرة، حيث يقول تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24] فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله، وأنهم لا يفعلون ذلك في المستقبل أيضا، وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد من البشرية من الكلام الفصيح البليغ، الوجيز، المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة والمحكمة، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115].
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق قال: ذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله الأعور قال: قلت: لآتين أمير المؤمنين، فلأسألنه عما سمعت العشية قال فجئته بعد العشاء، فدخلت عليه، فذكر الحديث. قال: ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني جبريل فقال: يا محمد، أمتك مختلفة بعدك». قال: «فقلت له: فأين المَخْرَج يا جبريل؟» قال: فقال: «كتاب الله به يَقْصِم الله كلَّ جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك، مرتين، قول فَصْل وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا تفنى عجائبه، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما هو كائن بعدكم» هكذا رواه الإمام أحمد. وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا حسين بن علي الجعفي، حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت علَى علِيّ فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة» فقلت: ما المَخْرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكْم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تَلْتَبِس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1، 2]، من قال به صَدق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عَدَل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم». خذها إليك يا أعور، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال.
قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن الحارث الأعور، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث إلا أنه إمام في القراءة والحديث، مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما إنه تعمد الكذب في الحديث فلا والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، وقد وَهِم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن: حدثنا أبو اليقظان، حدثنا عمار بن محمد الثوري أو غيره عن أبي إسحاق الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر». وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق الهجري، واسمه إبراهيم بن مسلم، وهو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا.
وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفَّاع كثير الوهم. قلت: فيحتمل، والله أعلم، أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما هو من كلام ابن مسعود، ولكن له شاهد من وجه آخر، والله أعلم.
وقال أبو عبيد أيضا: حدثنا حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله.
الحديث الرابع: قال البخاري: حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أنس بن مالك أن الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد. وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هذا- وهو الناقد- وحسن الحلواني وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق ابن منصور الكوسج، أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري به.
ومعناه: أن الله تعالى تابع نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد شيء كل وقت بما يحتاج إليه، ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فإنه استلبث الوحي بعدها حينا يقال: قريبا من سنتين أو أكثر، ثم حمي الوحي وتتابع، وكان أول شيء نزل بعد تلك الفترة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2].
الحديث الخامس: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبا يقول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا تركك، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1- 3].
وقد رواه البخاري في غير موضع أيضا، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق أخر عن سفيان- وهو الثوري- وشعبة بن الحجاج كلاهما عن الأسود بن قيس العبدي، عن جندب بن عبد الله البجلي، به. وسيأتي الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة الضحى إن شاء الله تعالى.
والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن: أن الله تعالى له برسوله عناية عظيمة ومحبة شديدة، حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه؛ ولهذا إنما أنزل عليه القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والإكرام.
قال البخاري، رحمه الله: نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قرآنا عربيا، بلسان عربي مبين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري: أخبرني أنس بن مالك قال: فأمر عثمان بن عفان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم، ففعلوا.
هذا الحديث قطعة من حديث سيأتي قريبا والكلام عليه ومقصود البخاري منه ظاهر، وهو أن القرآن نزل بلغة قريش، وقريش خلاصة العرب؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد، حدثنا يزيد، حدثنا شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا يملى في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف. وهذا إسناد صحيح. وقال أيضا: حدثنا إسماعيل بن أسد، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن عبد الله بن فضالة، قال: لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192- 195]، وقال تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الآية [فصلت: 44]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم ذكر البخاري، رحمه الله، حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي. فذكر الحديث الذي سأل عمن أحرم بعمرة وهو متمطخ بطيب وعليه جبة، وقال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم فجأه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أي: تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال: «أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟» فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب.
وهذا الحديث رواه جماعة من طرق عديدة والكلام عليه في كتاب الحج، ولا تظهر مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة، ولا يكاد، ولو ذكر في الترجمة التي قبلها لكان أظهر وأبين، والله أعلم.