فصل: تفسير الآيات (42- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (42- 44):

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}
يقول تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله، أو بثماره على القول الآخر. والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته، التي اغتر بها وألهته عن الله، عز وجل {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} وقال قتادة: يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} أي: عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واستعز {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف القراء هاهنا، فمنهم من يقف على قوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ} أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه. ويبتدئ بقوله {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} ومنهم من يقف على: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} ويبتدئ بقوله: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}.
ثم اختلفوا في قراءة {الْوَلايَةُ} فمنهم من فتح الواو، فيكون المعنى: هنالك الموالاة لله، أي: هنالك كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 84] وكقوله إخبارًا عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91، 90]
ومنهم من كسر الواو من {الْوَلايَةُ} أي: هنالك الحكم لله الحق.
ثم منهم من رفع {الْحَقِّ} على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]
ومنهم من خفض القاف، على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]؛ ولهذا قال تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أي: جزاء {وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي: الأعمال التي تكون لله، عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.

.تفسير الآيات (45- 46):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46)}.
يقول تعالى: {وَاضْرِبْ} يا محمد للناس {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في زوالها وفنائها وانقضائها {كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ} أي: ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} يابسا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أي: هو قادر على هذه الحال، وهذه الحال وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} الآية [يونس: 24]، وقال في سورة الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} [الزمر: 21]، وقال في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
وفي الحديث الصحيح: «الدنيا حلوة خضرة».
وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كقوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع الحارث مولى عثمان، رضي الله عنه، يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه أنه سيكون فيه مُد، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غُفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات» قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به.
وروى مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان، عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ فقلت: الصلاة والصيام. قال لم تصب. فقلت: الزكاة والحج. فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن نافع عن سَرْجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمر، عن الحسن وقتادة في قوله: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي نصر التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقْبُرِي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منَ الباقيات الصالحات».
قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح حَدّثه، عن ابن الهيثم، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات». قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الملة». قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وهكذا رواه أحمد، من حديث دراج، به.
وبه قال ابن وهب: أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله حَدّثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي، فقال: قل له: القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها «لا حول ولا قوة إلا بالله؟» فقال: ما زلت أجعلها. قال: فراجعه مرتين أو ثلاثًا، فلم ينزع، قال فأثبت قال سالم: أجل فأثبت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول: «عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام، فقال: يا جبريل من هذا معك؟ فقال: محمد فرحب بي وسَهَّل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام، حدثني رجل من الأنصار، من آل النعمان بن بشير، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: «أما إنه سيكون بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن كثير، عن زيد، عن أبي سلام عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده». وقال: «بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب».
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوْح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه، في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه: «ائتنا بالشَّفرة نعبث بها». فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب».
ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد، بنحوه.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثنا عمر بن الحسين، عن يونس بن نفيع الجدلي، عن سعد بن جنادة، رضي الله عنه، قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، فخرجت من أهلى من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{إِذَا زُلْزِلَتِ} وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال: «هن الباقيات الصالحات». وبهذا الإسناد: «من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه، ثم قال: سبحان الله مائة مرة، والحمد لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل».
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قال: هي ذكر الله، قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله.

.تفسير الآيات (47- 49):

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}.
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9، 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105- 107] يقول تعالى: إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض {قَاعًا صَفْصَفًا} أي: سطحًا مستويًا لا عوج فيه {وَلا أَمْتًا} أي: لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} أي: بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة: لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي: وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 50، 49]، وقال: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} يحتمل أن يكون المراد: أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] ويحتمل أنهم يقومون صفوفًا صفوفا، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]
وقوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا لهم: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} أي: ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} أي: لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر {إِلا أَحْصَاهَا} أي: ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نزلنا قفرًا من الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا، من وجد عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به». قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذا؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه».
وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي: من خير أوشر كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] أي: تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء يومَ القيامة يعرف به».
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: «يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة عند استه بقدر غَدْرته، يقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان».
وقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يعفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويُخلَّد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشُر الله، عز وجل الناس يوم القيامة- أو قال: العبادَ- عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا» قلت: وما بهمًا؟ قال: «ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة». قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال: «بالحسنات والسيئات».
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة». رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] وعند قوله تعالى: {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]