فصل: سورة مريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة مريم:

وهي مكية.
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}.
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة.
وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا.
وقرأ يحيى بن يعمر {ذَكَّرَ رحمة ربك عَبْدَهُ زَكَريَّا}.
و{زَكَرِيَّا}: يمد ويقصر قراءتان مشهورتان. وكان نبيًّا عظيمًا من أنبياء بني إسرائيل. وفي صحيح البخاري: أنه كان نجارًا، أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة.
وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}: قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه، لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي.
وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}: إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي.
وقال بعض السلف: قام من الليل، عليه السلام، وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب، يا رب، يا رب فقال الله: لبيك، لبيك، لبيك.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: ضعفت وخارت القوى، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أي اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دُرَيد في مقصورته:
إمَّا تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ ** طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى

واشْتَعَل المُبْيَض في مُسْوَدّه ** مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جمر الغَضَا

والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة.
وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك.
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}: قرأ الأكثرون بنصب الياء من {الْمَوَالِيَ} على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر:
كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ ** أيدي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ

وقال الآخر:
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها ** أو القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا

ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تَغَاير الشَّعرُ فيه إذ سَهرت لَهُ ** حَتَّى ظَنَنْتُ قوافيه ستَقتتلُ

وقال مجاهد، وقتادة، والسدي: أراد بالموالي العصبة.
وقال أبو صالح: الكلالة.
وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه كان يقرؤها: {وإني خَفَّت الموالي من ورائي} بتشديد الفاء بمعنى: قلت عصباتي من بعدي.
وعلى القراءة الأولى، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفًا سيئًا، فسأل الله ولدا، يكون نبيًّا من بعده، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه. فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلي ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد، فيحوز ميراثه دونه دونهم. هذا وجه.
الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالا ولاسيما الأنبياء، عليهم السلام، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورَث، ما تركنا فهو صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» وعلى هذا فتعين حمل قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} على ميراث النبوة؛ ولهذا قال: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، كما قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] أي: في النبوة؛ إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة».
قال مجاهد في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: كان وراثته علمًا وكان زكريا من ذرية يعقوب.
وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: قد يكون نبيًّا كما كانت آباؤه أنبياء.
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن: يرث نبوته وعلمه.
وقال السُّدِّي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وعن مالك، عن زيد بن أسلم: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: نبوتهم.
وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة.
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله زكريا، وما كان عليه من ورثة، ويرحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد».
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك- هو ابن فضالة- عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}».
وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم.
وقوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.

.تفسير الآية رقم (7):

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}.
هذا الكلام يتضمن محذوفًا، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى}، كما قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38، 39]
وقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال قتادة، وابن جريج، وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وقال مجاهد: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي: شبيهًا.
أخذه من معنى قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي: شبيهًا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي لم تلد العواقر قبله مثله.
وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام، كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم وسارة، عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما لا لعقرهما؛ ولهذا قال: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} [الحجر: 54] مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة. وقالت امرأته: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73].

.تفسير الآيات (8- 9):

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)}.
هذا تعجب من زكريا، عليه السلام، حين أجيب إلى ما سأل، وبُشِّر بالولد، ففرح فرحًا شديدًا، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقرًا لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومع أنه قد كبر وعتا، أي عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع.
تقول العرب للعود إذا يبس: عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا، وعَسا يَعْسو عُسوا وعِسيا.
وقال مجاهد: {عِتِيًّا} بمعنى: نحول العظم.
وقال ابن عباس وغيره: {عِتِيًّا} يعني: الكبر.
والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أو عسيا.
ورواه الإمام أحمد عن سُرَيْج بن النعمان، وأبو داود، عن زياد بن أيوب، كلاهما عن هشيم، به.
{قَالَ} أي الملك مجيبًا لزكريا عما استعجب منه: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها {هَيِّنٌ} أي: يسير سهل على الله.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه، فقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]

.تفسير الآيات (10- 11):

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
يقول تعالى مخبرًا عن زكريا، عليه السلام، أنه {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة ودليلا على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم، عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية [البقرة: 260]. {قَالَ آيَتُكَ} أي: علامتك {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي: أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ووهب بن منبه، والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي: متتابعات.
والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في أول آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [آل عمران: 41].
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} من غير خرس.
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها {إِلا رَمْزًا} أي: إشارة؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أي: الذي بشر فيه بالولد، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار إشارة خفية سريعة: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، وشكرًا لله على ما أولاه.
قال مجاهد: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار. وبه قال وهب، وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي.

.تفسير الآيات (12- 15):

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}.
وهذا أيضا تضمن محذوفًا، تقديره: أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي: تعلم الكتاب {بِقُوَّةٍ} أي: بجد وحرص واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث السن.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: ما للعب خلقت، قال: فلهذا أنزل الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.
وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا.
وقال مجاهد: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} وتعطفًا من ربه عليه.
وقال عكرمة: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} قال: محبة عليه.
وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة.
وقال عطاء بن أبي رباح: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، قال: تعظيمًا من لدنا.
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما حنانًا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، فقال: سألت عنها عباس، فلم يحر فيها شيئًا.
والظاهر من هذا السياق أن: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} معطوف على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: وآتيناه الحكم وحنانا، {وَزَكَاةً} أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة حَنَّة من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر:
تَحنَّنْ عَلَي هَدَاكَ المليكُ ** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا

وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه قال: «يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان».
وقد يُثنَّي ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا ** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض

وقوله: {وَزَكَاةً} معطوف على {وَحَنَانًا} فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب.
وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس: {وَزَكَاةً} قال: بركة {وَكَانَ تَقِيًّا} طهر، فلم يعمل بذنب.
وقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما، قولا وفعلا وأمرًا ونهيًا؛ ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}
رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {جَبَّارًا عَصِيًّا}، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا». قال قتادة: ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل.
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا» ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى».
وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة: أن حسن قال: إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي فأنت خير مني. فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما.