فصل: تفسير الآيات (99- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (99- 101):

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101)}.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قَصَصْنَا عليك خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا} أي: عندنا {ذِكْرًا} وهو القرآن العظيم، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسليما، كتابًا مثله ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه؛ ولهذا قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أي: كذب به وأعرض عن اتباعه أمرًا وطلبًا، وابتغى الهدى في غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم؛ ولهذا قال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي: إثمًا، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضَلَّ وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة؛ ولهذا قال: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ} أي: لا مَحِيد لهم عنه ولا انفكاك {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} أي: بئس الحمل حملهم.

.تفسير الآيات (102- 104):

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104)}.
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الصُّور، فقال: «قَرنٌ يُنفَخ فيه».
وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة: أنه قرن عظيم، الدَّارة منه بقدر السماوات والأرض، ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام. وجاء في الحديث: «كيف أنعَمُ وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له» فقالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا».
وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} قيل: معناه زُرْق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} قال ابن عباس: يتسارّون بينهم، أي: يقول بعضهم لبعض: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا}
أي: في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها.
قال الله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي: في حال تناجيهم بينهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي: العاقل الكامل فيهم، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد؛ لأن الدنيا كُلَّها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد؛ ولهذا تستقصر مدة الحياة الدنيا يوم القيامة: وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم، لقصر المدة؛ ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم: 55، 56]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]، وقال تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112- 114] أي: إنما كان لُبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قَدَّمتُم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.

.تفسير الآيات (105- 108):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108)}
يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرًا.
{فَيَذَرُهَا} أي: الأرض {قَاعًا صَفْصَفًا} أي: بساطًا واحدًا.
والقاع: هو المستوي من الأرض. والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل: الذي لا نبات فيه. والأول أولى، وإن كان الآخر مرادًا أيضًا باللازم؛ ولهذا قال: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} أي: لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابية، ولا مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا، كذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة، وغير واحد من السلف.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال، يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم، كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38]، وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8].
قال محمد بن كعب القُرَظِي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوي السماء، وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت فيأتونه فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ}.
وقال قتادة: {لا عِوَجَ لَهُ} لا يميلون عنه.
وقال أبو صالح: {لا عِوَجَ لَهُ} لا عوج عنه.
وقوله: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}: قال ابن عباس: سكنت: وكذا قال السدي.
{فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني: وطء الأقدام.
وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}: الصوت الخفي. وهو رواية عن عكرمة، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}: الحديث، وسره، ووطء الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع. وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105].

.تفسير الآيات (109- 112):

{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)}.
يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أي: عنده {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38].
وفي الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال: «آتي تحت العرش، وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع». قال: «فيحد لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود»، فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
وفي الحديث أيضًا: «يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فَيُخْرِجُون خلقا كثيرا، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرّة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّة من إيمان». الحديث.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: يحيط علما بالخلائق كلهم، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قال ابن عباس، وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم: الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به.
وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي: يوم القيامة، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.
وفي الحديث: «يقول الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم».
وفي الصحيح: «إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة». والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو مشرك به؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} لما ذكر الظالمين ووعيدهم، ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يُظْلَمُون ولا يُهضَمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغير واحد. فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم: النقص.

.تفسير الآيات (113- 114):

{وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}
يقول: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة، أنزلنا القرآن بشيرًا ونذيرًا، بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عيّ، {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتركون المآثم والمحارم والفواحش، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات. {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي: تنزه وتقدس الملك الحق، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، والنار حق، وكل شيء منه حق. وعدله تعالى ألا يعذب أحدًا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16- 19]، وثبت في الصحيح عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدّة، فكان مما يحرّك لسانه، فأنزل الله هذه الآية يعني: أنه، عليه السلام، كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه، من شدّة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛ لئلا يشق عليه. فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي: أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئًا، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وقال في هذه الآية: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي: بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: زدني منك علمًا.
قال ابن عُيَيْنَة، رحمه الله: ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة من العلم حتى توفاه الله عز وجل.
ولهذا جاء في الحديث: «إن الله تابع الوحي على رسوله، حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال».
وأخرجه الترمذي، عن أبي كُرَيْب، عن عبد الله بن نُمَيْر، به. وقال: غريب من هذا الوجه.
ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس، عن أبي عاصم، عن موسى بن عبيدة، به. وزاد في آخره: «وأعوذ بالله من حال أهل النار».

.تفسير الآيات (115- 122):

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي.
وكذا رواه علي بن أبي طلحة، عنه.
وقال مجاهد والحسن: تَرَكَ.
وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه، وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلا.
وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف وسيأتي في آخر سورة ص إن شاء الله تعالى. يذكر فيها تعالى خَلْقَ آدم وأَمْرَه الملائكة بالسجود له تشريفًا وتكريمًا، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديمًا؛ ولهذا قال تعالى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى} أي: امتنع واستكبر. {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} يعني: حواء، عليهما السلام {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي: إياك أن يسعى في إخراجك منها، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، لا كلفة ولا مشقة.
{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} إنما قرن بين الجوع والعُرْي؛ لأن الجوع ذُلّ الباطن، والعري ذُلّ الظاهر.
{وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وهذان أيضًا متقابلان، فالظمأ: حر الباطن، وهو العطش. والضحى: حر الظاهر.
وقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} قد تقدم أنه {دَلاهُمَا بِغُرُور} [الأعراف: 22]؛ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. وقد تقدم أن الله تعالى أوحى إلى آدم وزوجته أن يأكلا من كل الثمار، ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة. فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها، وكانت شجرةَ الخلد- يعني: التي من أكل منها خلد ودام مكثه. وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحاك سمعت أبا هريرة يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها وهي شجرة الخلد».
ورواه الإمام أحمد.
وقول: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} قال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق. فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته. فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذتْ شعرَه شجرة، فنازعها، فنادى الرحمن: يا آدم، منِّي تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا ولكن استحياء أرأيت إن تبت ورجعت، أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم» فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}
وهذا منقطع بين الحسن وأُبيّ بن كعب، فلم يسمعه منه، وفي رفعه نظر أيضًا.
وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب.
وكذا قال قتادة، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر، عن عون، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} قال: ينزعان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما.
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني- أو: قدره الله عليّ قبل أن يخلقني-» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى».
وهذا الحديث له طرق في الصحيحين، وغيرهما من المسانيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أنس بن عياض، عن الحارث بن أبي ذُبَابَ، عن يزيد بن هرمز قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَجَّ آدمُ وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نَجِيًّا، فبكم وجدتَ الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدتَ فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فحج آدم موسى».
قال الحارث: وحدثني عبد الرحمن بن هُرْمزُ بذلك، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.