فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 35):

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}.
يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي: يا محمد، {الْخُلْدَ} أي: في الدنيا بل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر، عليه السلام، مات وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}.
وقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ} أي: يا محمد، {فَهُمُ الْخَالِدُونَ}؟! أي: يؤملون أن يعيشوا بعدك، لا يكون هذا، بل كل إلى فناء؛ ولهذا قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وقد روي عن الشافعي، رحمه الله، أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فَتلْكَ سَبيل لَسْت فيهَا بأوْحد

فقُلْ للَّذي يَبْغي خلاف الذي مضى ** تَهَيَّأ لأخْرى مثْلها فكَأن قد

وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {ونبلوكم}، يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال.
وقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: فنجازيكم بأعمالكم.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}.
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: كفار قريش كأبي جهل وأشباهه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي: يستهزئون بك وينتقصونك، يقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يعنون: أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم، قال تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أي: وهم كافرون بالله، ومع هذا يستهزئون برسول الله، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 41، 42].
وقوله: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] أي: في الأمور.
قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار، من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم يبلغ أسفله قال: يا رب، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه
الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي- وقبض أصابعه قَلَّلَها- فسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه»
. قال أبو سلمة: فقال عبد الله بن سلام: قد عرفت تلك الساعة، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، وهي التي خلق الله فيها آدم، قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.
والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر؛ ولهذا قال: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}.
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضًا بوقوع العذاب بهم، تكذيبًا وجحودًا وكفرًا وعنادًا واستبعادًا، فقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} أي: لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا، به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، وقال في هذه الآية: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} وقال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50]، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: لا ناصر لهم كما قال: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد: 34].
وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} أي: تأتيهم النار بغتة، أي: فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} أي: تذعرهم فيستسلمون لها حائرين، لا يدرون ما يصنعون، {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أي: ليس لهم حيلة في ذلك، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.

.تفسير الآيات (41- 43):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}.
يقول تعالى مسليًا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يعني: من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام، فقال: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}؟ أي: بدل الرحمن بمعني غيره كما قال الشاعر:
جَارية لَمْ تَلْبَس المُرقَّقا ** وَلَم تَذق منَ البُقول الفُسْتُقا

أي: لم تذق بدل البقول الفستق.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي: لا يعترفون بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه، ثم قال {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي: ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا ولا كما زعموا؛ ولهذا قال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أي: هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم.
وقوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قال العوفي، عن ابن عباس: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: يجارون وقال قتادة لا يصحبون من الله بخير وقال غيره: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} يمنعون.

.تفسير الآيات (44- 47):

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}.
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء.
ثم قال واعظًا لهم: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفناه في سورة الرعد، وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاحقاف: 27].
وقال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر.
والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون.
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي: إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذركم به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إليّ، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه؛ ولهذا قال: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}.
وقوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله، ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا.
وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي: ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالَقَاني، حدثنا ابن المبارك، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟
أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر، أو حسنة؟»
قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله» فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: «فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة»، قال: «فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» قال: «ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم».
ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، به، وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، فيوضع ما أحصى عليه، فتايل به الميزان» قال: «فيبعث به إلى النار» قال: «فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان».
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو نوح قراد أنبأنا ليث بن سعد، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين، يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، إن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلا لك عليهم وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل الذي يبقى قبلك». فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما له أما يقرأ كتاب الله؟: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء- يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم».

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}.
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهما، وبين كتابيهما؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}. قال مجاهد: يعني: الكتاب.
وقال أبو صالح: التوراة، وقال قتادة: التوراة، حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل.
وقال ابن زيد: يعني: النصر.
وجامع القول في ذلك: أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نورًا في القلوب، وهداية وخوفًا وإنابة وخشية؛ ولهذا قال: {الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} أي: تذكيرًا لهم وعظة.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} كقوله {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي: خائفون وجلون.
ثم قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ} يعني: القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أي: أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟.