فصل: تفسير الآيات (47- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 48):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)}.
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي: هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16].
وقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي: الذي قد وَعَد، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه.
قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا عمرو، وهل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا. فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، أومَا سمعتَ قول الشاعر:
لا يُرْهِبُ ابنَ العم منى سَطْوَتي ** ولا أخْتَتِي من سَطْوة المُتَهَدّد

فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه ** لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي

وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي: هو تعالى لا يَعجَل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى؛ ولهذا قال بعد هذا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عَرَفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام».
ورواه الترمذي والنسائي، من حديث الثوري، عن محمد بن عمرو، به.
وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير، عن أبي هريرة موقوفا، فقال: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن سُمَيْر بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم. قلت: وما نصف يوم؟ قال: أوَما تقرأ القرآن؟. قلت: بلى. قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، عن شُرَيح بن عُبَيد، عن سعد بن أبي وَقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها، أن يؤخرهم نصف يوم». قيل لسعد: وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} قال: من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
رواه ابن جرير، عن ابن بَشّار، عن ابن مهدي. وبه قال مجاهد، وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الردّ على الجهمية.
وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عارم- محمد بن الفضل- حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن عَتِيق، عن محمد بن سيرين، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وجعل أجل الدنيا ستة أيام، وجعل الساعة في اليوم السابع، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}، فقد مضت الستة الأيام، وأنتم في اليوم السابع. فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها، في أية لحظة ولدت كان تماما.

.تفسير الآيات (49- 51):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وُقُوعَ العذاب، واستعجلوه به: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: إنما أرسلني الله إليكم نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، و{لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] و{إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حَسَنةٌ على القليل من حسناتهم.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ: إذا سمعتَ الله تعالى يقول: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فهو الجنة.
وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}: قال مجاهد: يُثَبّطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين.
وقال ابن عباس: {مُعَاجِزِينَ}: مراغمين.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، أجارنا الله منها.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].

.تفسير الآيات (52- 54):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}.
قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى} قال: فألقى الشيطان على لسانه: «تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى». قالوا: ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
رواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، به نحوه، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- فيما أحسب، الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم، حتى انتهى إلى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى}، وذكر بقيته. ثم قال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور. وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
ثم رواه ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، وعن السدي، مرسلا.
وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، مرسلا أيضا.
وقال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نَعَس، فألقى الشيطان على لسانه: «وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى»، فحفظها المشركون. وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} الآية، فدَحَرَ الله الشيطان.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي، حدثنا محمد بن فُلَيْح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هُداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى} ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: «وإنهن لهن الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى». وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدا، قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع على كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين- ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي ألقى الشيطان في مسامع المشركين- فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}، فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، نحوه. وقد رواه الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة، ساقه في مغازيه بنحوه، قال: وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.
قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، فالله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ، وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض، رحمه الله، في كتاب الشفاء لهذا، وأجاب بما حاصله.
وقوله: {إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، هذا فيه تسلية له، صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يَهيدنّك ذلك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
قال البخاري: قال ابن عباس: {فِي أُمْنِيَّتِهِ} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقال مجاهد: {إِذَا تَمَنَّى} يعني: إذا قال.
ويقال: {أُمْنِيَّتِهِ}: قراءته، {إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، يقولون ولا يكتبون.
قال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تَمَنَّى} أي: تلا وقرأ كتاب الله، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:
تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة ** وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادرِ

وقال الضحاك: {إِذَا تَمَنَّى}: إذا تلا.
قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}، حقيقة النسخ لغة: الإزالة والرفع.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي فيبطل الله- سبحانه وتعالى- ما ألقى الشيطان.
وقال الضحاك: نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ (4)}، أي: بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، {حَكِيمٌ} أي: في تقديره وخلقه وأمره، له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح، وإنما كان من الشيطان.
قال ابن جريج: {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هم: المنافقون {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}: المشركون.
وقال مقاتل بن حيان: هم الكافرون اليهود.
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي: من الحق والصواب.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب حكيم، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} أي: يصدقوه وينقادوا له، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: تخضع وتذل، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.