فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (49- 51):

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}.
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}؟ أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: {لا ضَيْرَ} أي: لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أي: المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي: ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر، {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.

.تفسير الآيات (52- 59):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)}.
لما طال مُقام موسى، عليه السلام، ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى، عليه السلام، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى، عليه السلام، ما أمره به ربه عز وجل. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم، فيما ذكر غير واحد من المفسرين، وقت طلوع القمر.
وذكر مجاهد، رحمه الله، أنه كُسِف القمر تلك الليلة، فالله أعلم، وأن موسى، عليه السلام، سأل عن قبر يوسف، عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه، عليهما السلام، وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال:
حدَّثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن ابن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعاهدنا. فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حاجتك؟» قال ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي، فقال: «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟» فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال: «إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف. فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي. قال لها: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة. فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها. قال: فانطلقت معهم إلى بحيرة- مستنقع ماء- فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوه قالت: احتفروا، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار».
هذا حديث غريب جدًا، والأقرب أنه موقوف، والله أعلم.
فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي: مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ}- يعني: بني إسرائيل- {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي: لطائفة قليلة.
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي: كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.
قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا.
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5، 6].

.تفسير الآيات (60- 68):

{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}.
ذكر غير واحد من المفسرين: أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير، وهو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فأمَّا ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات، من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خيل دُهْم، وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم، ففي ذلك نظر. والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل، والله، سبحانه وتعالى، أعلم. والذي أخبر به هو النافع، ولم يعين عدتهم؛ إذ لا فائدة تحته، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، وذلك أنه انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده، فلهذا قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله، سبحانه، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد.
وكان هارون، عليه السلام، في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، ومؤمن آل فرعون وموسى، عليه السلام، في الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى، عليه السلام: يا نبي الله، هاهنا أمرك الله أن تسير؟ فيقول: نعم، واقترب فرعون وجنوده، ولم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، وقال: انفلق بإذن الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد، حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام: أن موسى، عليه السلام، لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء، والكائن قبل كل شيء، اجعل لنا مخرجًا. فأوحى الله إليه: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}.
وقال قتادة: أوحى الله تلك الليلة إلى البحر: أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع، فبات البحر تلك الليلة، وله اضطراب، ولا يدري من أيّ جانب يضربه موسى، فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون: يا نبي الله، أين أمرك ربك؟ قال: أمرني أن أضرب البحر. قال: فاضربه.
وقال محمد بن إسحاق: أوحى الله- فيما ذكر لي- إلى البحر: أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب بعضه بعضًا، فرقا من الله تعالى، وانتظارًا لما أمره الله، وأوحى الله إلى موسى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}، فضربه بها وفيها، سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق.
وذكر غير واحد أنه كناه فقال: انفلق عليّ أبا خالد بحول الله.
قال الله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي: كالجبل الكبير. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومحمد بن كعب، والضحاك، وقتادة، وغيرهم.
وقال عطاء الخراساني: هو الفَجّ بين الجبلين.
وقال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط طريق- وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حيله كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يَبَسا كوجه الأرض، قال الله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77].
وقال في هذه القصة: {وأزلفنا} أي: هنالك {الآخرين}.
قال ابن عباس، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي: {وأزلفنا} أي: قربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم إليه.
{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي: أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل إلا هلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا شبابة، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله- هو ابن مسعود- أن موسى، عليه السلام، حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك، فأمر بشاة فذبحت، ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط. فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر، فقال له: انفرق. فقال البحر: لقد استكبرت يا موسى، وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأنفرق لك؟ قال: ومع موسى رجل على حصان له، فقال له ذلك الرجل: أين أمرتَ يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه يعني: البحر، فأقحم فرسه، فسبح به فخرج، فقال: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه. قال: والله ما كَذَبت ولا كُذبت. ثم اقتحم الثانية فسبح، ثم خرج فقال: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه؟ قال: والله ما كَذَبت ولا كُذبت. قال: فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه موسى بعصاه، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر طريقًا، لكل سبط طريق يتراءون، فلما خرج أصحاب موسى وتَتَامّ أصحابُ فرعون، التقى البحر عليهم فأغرقهم.
وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: فلما خَرَج آخر أصحاب موسى، وتكامل أصحاب فرعون، اضطم عليهم البحر، فما رُئِيَ سواد أكثر من يومئذ، وغرق فرعون لعنه الله.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين؛ لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.

.تفسير الآيات (69- 77):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)}.
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، أمر الله رسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، أن يتلوه على أمته، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل، وعبادة الله وحده لا شريك له، والتبرؤ من الشرك وأهله؛ فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من صغره إلى كبره، فإنه من وقت نَشَأ وشَب، أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله، عز وجل، فقال: {لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}؟
أي: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟
{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي: مقيمين على عبادتها ودعائها.
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يعني: اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون، فهم على آثارهم يُهرعون. فعند ذلك قال لهم إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي: إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها. وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] وقال هود، عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54- 56] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26- 28] يعني: لا إله إلا الله.