فصل: تفسير الآيات (10- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 11):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}.
يقول تعالى مخبرًا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت الإيمان في قلوبهم، بأنهم إذا جاءتهم فتنة ومحنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام؛ ولهذا قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}.
قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله.
وكذا قال غيره من علماء السلف. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
ثم قال: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي: ولئن جاء نصر قريب من ربك- يا محمد- وفتح ومغانم، ليقولن هؤلاء لكم: إنا كنا معكم، أي كنا إخوانكم في الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141]، وقال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52].
وقال تعالى مخبرا عنهم هاهنا: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}، ثم قال تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أي: أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنُّه ضمائرهم، وإن أظهروا لكم الموافقة؟
وقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أي: وليختبرَنّ الله الناس بالضراء والسراء، ليتميز هؤلاء من هؤلاء، ومن يطيع الله في الضراء والسراء، إنما يطيعه في حظ نفسه، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى بعد وقعة أحد، التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية [آل عمران: 179]، والله أعلم.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}.
يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش: أنهم قالوا لِمَنْ آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا، واتبعوا سبيلنا، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي: وآثامكم- إن كانت لكم آثام في ذلك- علينا وفي رقابنا، كما يقول القائل: «افعل هذا وخطيئتك في رقبتي». قال الله تكذيبا لهم: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: فيما قالوه: إنهم يحملون عن أولئك خطاياهم، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، وقال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10، 11].
وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}: إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يوم القيامة يحملون أوزار أنفسهم، وأوزارًا أخَر بسبب مَنْ أضلوا مِنَ الناس، من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا، كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
وفي الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» وفي الصحيح: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سَنّ القتل».
وقوله: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون ويختلقون من البهتان.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية، حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به، ثم قال: «إياكم والظلم، فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي لا يجوزني اليوم ظلم! ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان ابن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الله الرحمن عز وجل ثم يأمر المنادي فينادي من كانت له تِبَاعة- أو: ظُلامة- عند فلان ابن فلان، فهلمّ. فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي. فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول لهم: خذوا لهم من حسناته. فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى له حسنة، وقد بقي من أصحاب الظلامات، فيقول: اقضوا عن عبدي. فيقولون: لم يبق له حسنة. فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه». ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا أبو بشر الحذاء، عن أبي حمزة الثمالي، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى عن كُحْل عينيه، وعن فتات الطينة بإصبعيه، فلا ألْفَيَنَّكَ تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك».

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}.
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، يخبره عن نوح عليه السلام: أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وسرا، وجهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق، وإعراضا عنه وتكذيبا له، وما آمن معه منهم إلا قليل؛ ولهذا قال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار، فأنت- يا محمد- لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك، ولا تحزن عليهم؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97]، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك، ويذل عدوّك، ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين.
قال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهَك، عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين عاما، حتى كثر الناس وفشوا.
وقال قتادة: يقال إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة.
وهذا قول غريب، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما.
وقال عون بن أبي شداد: إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة.
وهذا أيضا غريب، رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وقول ابن عباس أقرب، والله أعلم.
وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه؟ قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما. قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا.
وقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي: الذين آمنوا بنوح عليه السلام. وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة هود، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: وجعلنا تلك السفينة باقية، إما عينها كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق، كيف نجاهم من الطوفان، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 41- 44]، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11، 12]، وقال هاهنا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]
أي: وجعلنا نوعها، فإن التي يرمى بها ليست هي التي زينة للسماء.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13]، ولهذا نظائر كثيرة.
وقال ابن جرير: لو قيل: إنّ الضمير في قوله: {وَجَعَلْنَاهَا}، عائد إلى العقوبة، لكان وجهًا، والله أعلم.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)}.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيده في الشكر، فإنه المشكور على النعم، لا مُسْدٍ لها غيره، فقال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أي: أخلصوا له العبادة والخوف، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة.
ثم أخبرهم أن الأصنام التي يعبدونها والأوثان، لا تضر ولا تنفع، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء، سميتموها آلهة، وإنما هي مخلوقة مثلكم. هكذا روى العوفي عن ابن عباس. وبه قال مجاهد، والسدي.
وروى الوالبي، عن ابن عباس: وتصنعون إفكا، أي: تنحتونها أصناما. وبه قال مجاهد- في رواية- وعكرمة، والحسن، وقتادة وغيرهم، واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وهي لا تملك لكم رزقا، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} وهذا أبلغ في الحصر، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، ولهذا قال: {فَابْتَغُوا} أي: فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي: لا عند غيره، فإن غيره لا يملك شيئا، {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: كلوا من رزقه واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم، {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} يعني: إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة، والله يضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء.
وقال قتادة في قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال: يُعزي نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول، واعترض بهذا إلى قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}.
وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضا.
والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل، عليه السلاملقومه يحتج عليهم لإثبات المعاد، لقوله بعد هذا كله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}، والله أعلم.

.تفسير الآيات (19- 23):

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}.
يقول تعالى مخبرًا عن الخليل عليه السلام، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته؛ فإنه سهل عليه يسير لديه.
ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السموات وما فيها من الكواكب النيرة: الثوابت، والسيارات، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال، وأودية وبرارٍ وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء: كن، فيكون؛ ولهذا قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
ثم قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي: يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وكقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36].
وقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} أي: هو الحاكم المتصرف، الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فله الخلق والأمر، مهما فعل فَعَدْلٌ؛ لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن: «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم». ولهذا قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي: ترجعون يوم القيامة.
وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي: لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه، بل هو القاهر فوق عباده، وكل شيء خائف منه، فقير إليه، وهو الغني عما سواه.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أي: جحدوها وكفروا بالمعاد، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي: لا نصيب لهم فيها، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع في الدنيا والآخرة.