فصل: تفسير الآيات (24- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 25):

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}.
يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على عظمته أنه {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة، أو صواعق متلفة، وتارة ترجون وَمِيضَه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه؛ ولهذا قال: {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. وفي ذلك عبرة ودَلالَة واضحة على المعاد وقيام الساعة؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ثم قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} كقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41]. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي: هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بُدلت الأرض غير الأرض والسموات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم؛ ولهذا قال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 52].
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]، وقال: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
يقول تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: ملكه وعبيده، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: خاضعون خاشعون طوعًا وكرهًا.
وفي حديث دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، مرفوعا: «كل حَرْف في القرآن يُذكَرُ فيه القنوت فهو الطاعة».
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: أيسر عليه.
وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البَدَاءة، والبداءة عليه هَيْنٌ.
وكذا قال عكرمة وغيره.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، أخبرنا أبو الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: كَذبَني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهونَ عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد».
انفرد بإخراجه البخاري كما انفرد بروايته- أيضا- من حديث عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، به. وقد رواه الإمام أحمد منفردا به عن حسن بن موسى، عن ابن لهِيعة، حدثنا أبو يونس سليم بن جُبَيْر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، أو مثله.
وقال آخرون: كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء.
قال العَوْفي، عن ابن عباس: كل عليه هين.
وكذا قال الربيع بن خُثَيْم. ومال إليه ابن جرير، وذكر عليه شواهد كثيرة، قال: ويحتمل أن يعود الضمير في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إلى الخلق، أي: وهو أهون على الخلق.
وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقال قتادة: مَثَله أنه لا إله إلا هو، ولا رب غيره، وقال مثل هذا ابن جرير.
وقد أنشد بعض المُفَسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف:
إذَا سَكَن الغَديرُ على صَفَاء ** وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ

ترى فيه السَّمَاء بَلا امْترَاء ** كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ

كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي ** يُرَى في صَفْوها اللهُ العَظيمُ

{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد غلب كل شيء، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه، {الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقواله، شَرْعًا وقَدَرا.
وعن مالك في تفسيره المروي عنه، عن محمد بن المنْكَدِر، في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى}، قال: لا إله إلا الله.

.تفسير الآيات (28- 29):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي: لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال.
قال أبو مِجْلَز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له.
والمعنى: أن أحدكم يأنف من ذلك، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه. وهذا كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] أي: من البنات، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله، وقد كان أحدهم إذا بُشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، فهم يأنفون من البنات. وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر.
وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك، أن يكون عبدهُ شريكَه في ماله، يساويه فيه. ولو شاء لقاسمه عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال الطبراني: حدثنا محمود بن الفرج الأصبهاني، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، حدثنا حماد بن شعيب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فأنزل الله: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى، قال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سَفَهًا من أنفسهم وجهلا {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: المشركون {أَهْوَاءَهُمْ} أي: في عبادتهم الأنداد بغير علم، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي: فلا أحد يهديهم إذا كتب الله إضلالهم، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير، ولا محيد لهم عنه؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

.تفسير الآيات (30- 32):

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: «إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم». وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية.
وقوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها. فيكون خبرا بمعنى الطلب، كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وهذا معنى حسن صحيح.
وقال آخرون: هو خبر على بابه، ومعناه: أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك؛ ولهذا قال ابن عباس، وإبراهيم النَّخَعي، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، وعِكْرِمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد في قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله.
وقال البخاري: قوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: لدين الله، خَلْقُ الأولين: دين الأولين، والدين والفطرة: الإسلام.
حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجسانه، كما تَنْتِج البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيْلي، عن الزهري، به. وأخرجاه- أيضا- من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة، فمنهم الأسودُ بن سَرِيع التميمي. قال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن عن الأسود بن سَرِيع التميمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه، فأصبت ظهرا، فقتل الناس يومئذ، حتى قتلوا الولدان. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟». فقال رجل: يا رسول الله، أما هم أبناء المشركين؟ فقال: «ألا إنما خياركم أبناء المشركين». ثم قال: «لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية». وقال: «كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يُعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها».
ورواه النسائي في كتاب السير، عن زياد بن أيوب، عن هُشَيْم، عن يونس- وهو ابن عبيد- عن الحسن البصري، به.
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري، قال الإمام أحمد:
حدثنا هاشم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن الحسن، عن جابر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يُعرب عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورا».
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي، قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم». أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليَشْكُرِي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا بذلك.
وقد قال أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا حماد- يعني ابن سلمة- أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: أتى عليَّ زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين، وأولاد المشركين مع المشركين. حتى حدثني فلان عن فلان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». قال: فلقيت الرجل فأخبرني. فأمسكت عن قولي.
ومنهم عياض بن حِمار المجاشعي، قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن مُطَرّف، عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: «إن ربي، عز وجل، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله، عز وجل، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان.
ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: يا رب إذًا يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خبُزَةً. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نَغْزُك، وأنفق عليهم فسننفق عليك. وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بِمَنْ أطاعك مَنْ عصاك»
. قال: «وأهل الجنة: ثلاثة ذو سلطان مُقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير متصدق. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تَبَعًا، لا يبتغون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» وذكر البخيل، أو الكذاب، والشنظير: الفحاش.
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من طرق عن قتادة، به.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القويم المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي: فلهذا لا يعرفه أكثر الناس، فهم عنه ناكبون، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 116].
وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن زيد، وابن جُرَيْج: أي راجعين إليه، {وَاتَّقُوهُ} أي: خافوه وراقبوه، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وهي الطاعة العظيمة، {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: بل من الموحدين المخلصين له العبادة، لا يريدون بها سواه.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر، رضي الله عنه، بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهن من المنجيات: الإخلاص، وهي الفطرة، فطرة الله التي فَطرَ الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة. فقال عمر: صدقت.
حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة: أن عمر، رضي الله عنه، قال لمعاذ: ما قوام هذا الأمر؟ فذكره نحوه.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي: بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقرأ بعضهم: {فارقوا دينهم} أي: تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعَبَدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة، مما عدا أهل الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء وملَل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل، عليه السلام عن الفرقة الناجية منهم، فقال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي».