فصل: تفسير الآيات (18- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 19):

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}.
يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغِبْطة والنعمة، والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حَمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، ويَقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء.
وكذا قال أبو مالك.
وقال مجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، ومالك عن زيد بن أسلم، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وابن زيد وغيرهم: يعني: قرى الشام. يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها: بيت المقدس.
وقال العوفي، عنه أيضا: هي قرى عربية بين المدينة والشام.
{قُرًى ظَاهِرَةً} أي: بينة واضحة، يعرفها المسافرون، يَقيلون في واحدة، ويبيتون في أخرى؛ ولهذا قال: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي: جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} أي: الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا.
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، وقرأ آخرون: {بعد بين أسفارنا}، وذلك أنهم بَطروا هذه النعمة- كما قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد- وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحَرُور والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض، من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في مَنّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة؛ ولهذا قال لهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وقال في حق هؤلاء: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بكفرهم، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: جعلناهم حديثا للناس، وَسمَرًا يتحدثون به من خبرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ وتفرقوا شَذَرَ مَذَرَ.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ، قال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} إلى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} وكانت فيهم كهنة، وكانت الشياطين يسترقون السمع، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال، وإنه خُبّر أن زوال أمرهم قد دنا، وأن العذاب قد أظلهم. فلم يدر كيف يصنع؛ لأنه كان له مال كثير من عقار، فقال لرجل من بنيه- وهو أعزهم أخوالا-: إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا تناولتك فالطمني. فقال: يا أبت، لا تفعل، إن هذا أمر عظيم، وأمر شديد، قال: يا بني، قد حدث أمر لابد منه. فلم يزل به حتى وافاه على ذلك. فلما أصبحوا واجتمع الناس، قال: يا بني، افعل كذا وكذا. فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال: ابني يلطمني؟ عَلَيّ بالشفرة. قالوا: وما تصنع بالشفرة؟ قال: أذبحه. قالوا: تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال: فأبى، قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك. فأبى إلا أن يذبحه. قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه. قال: فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ولدي فيه، اشتروا مني دوري، اشتروا مني أرضي، فلم يزل حتى باع دوره وأرضيه وعقاره، فلما صار الثمن في يده وأحرزه، قال: أي قوم، إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارا جديدا، وجملا شديدا، وسفرا بعيدا، فليلحق بعمان. ومن أراد منكم الخَمْر والخَمير والعَصير- وكلمة، قال إبراهيم: لم أحفظها- فليلحق ببصْرَى، ومن أراد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل، فليلحق بيثرب ذات نخل. فأطاعه قومه فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى. وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل. قال: فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان: هذا مكان صالح، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به، فسموا لذلك خزاعة، لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة، وتوجه أهل عمان إلى عمان، وتوجهت غسان إلى بصرى.
هذا أثر غريب عجيب، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن، بسبب استشعاره بإرسال العَرم فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن- فيما حدثني أبو زيد الأنصاري-: أنه رأى جرذًا يَحفر في سد مأرب، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النَّقُلة عن اليمن فكاد قومه، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لَطَم وجهي فيها أصغر ولدي. وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غَضْبَةَ عمرو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم، وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، وكانت حربهم سجَالا. ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي:
وَعَكَ بنُ عَدنَانَ الذين تَغَلَّبُوا ** بِغَسَّانَ حتى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَد

وهذا البيت من قصيدة له.
قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جَفْنَة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مَرّا. ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عُمَان عُمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهدمَه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات.
وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق، إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه، مكان ابنه، إلى قوله: فباع ماله وارتحل بأهله، فتفرقوا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، أخبرنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر- وهو عم القوم- كان كاهنًا، فرأى في كهانته أن قومه سَيمَزّقون ويباعَدُ بين أسفارهم. فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا هَمٍّ بعيد وجمل شديد، ومَزَاد جَديد- فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومَنْ كان منكم ذا هَمّ مُدْن، وأمر دَعْن، فليلحق بأرض شَنْ. فكانت عوف بن عمرو، وهم الذين يقال لهم: بارق. ومَنْ كان منكم يريد عيشا آنيا، وحرما آمنا، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومَنْ كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكانت الأوس والخزرج، وهما هذان الحيان من الأنصار. ومَنْ كان منكم يريد خمرا وخَميرا، وذهبا وحريرا، وملكا وتأميرا، فليلحق بكُوثي وبُصرى، فكانت غسانَ بنو جَفنة ملوكُ الشام. ومَنْ كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: إنما قالت هذه المقالة طريفةُ امرأة عمرو بن عامر، وكانت كاهنة، فرأت في كهانتها ذلك، فالله أعلم أيّ ذلك كان.
وقال سعيد، عن قتادة، عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان، فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى- أعشى بني قيس بن ثعلبة- واسمه: ميمون بن قيس:
وَفي ذَاكَ للمُؤتَسي أسْوَةٌ ** ومَأربُ عَفّى عَلَيها العَرمْ

رُخَام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيرُ ** إذا جاءَ مَوَارهُ لم يَرمْ

فَأرْوَى الزُّرُوعَ وَأعنَابَها ** عَلَى سَعَة مَاؤهُمْ إذْ قُسِم

فَصَارُوا أيَادي مَا يَقْدرُو ** نَ منْه عَلَى شُرب طِفْل فُطِم

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية، عقوبةَ على ما ارتكبوه من الكفر والآثام- لعبرةً وَدَلالةً لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني، قالا أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن العَيْزَار بن حُرَيث عن عمر بن سعد، عن أبيه- هو سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حَمدَ رَبَّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حَمِد ربه وصَبَر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته».
وقد رواه النسائي في اليوم والليلة، من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي، به- وهو حديث عزيز- من رواية عمر بن سعد، عن أبيه. ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
قال عبد: حدثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال: كان مطرّف يقول: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.

.تفسير الآيات (20- 21):

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
لما ذكر الله تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالف الرشاد والهدى، فقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}.
قال ابن عباس وغيره: هذه الآية كقوله تعالى إخبارًا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم، ثم قال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 62]، ثم قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء، هبط إبليس فَرحا بما أصاب منهما، وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف. وكان ذلك ظنًّا من إبليس، فأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعدُه وأُمَنّيه وأخدعه. فقال الله: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يُغَرغِر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} قال ابن عباس: أي من حجة.
وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وقوله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي: إنما سلطناه عليهم ليظهرَ أمر مَنْ هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء، فيُحسِنَ عبادة ربه عز وجل في الدنيا، ممن هو منها في شك.
وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: ومع حفظه ضَلّ من ضَلّ من اتباع إبليس، وبحفظه وكلاءته سَلِم مَنْ سلم من المؤمنين أتباع الرسل.

.تفسير الآيات (22- 23):

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}.
بَيَّن تعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من الآلهة التي عبدت من دونه {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ}، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13].
وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي: وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه.
قال قتادة في قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}، من عون يعينه بشيء.
وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].
ولهذا ثبت في الصحيحين، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله-: أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم أن يأتي ربّهم لفصل القضاء، قال: «فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعْطَه واشفع تشفع». الحديث بتمامه.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}. وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السموات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود ومسروق، وغيرهما.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم} أي: زال الفزع عنها. قال ابن عباس، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي، وإبراهيم النَّخَعيّ، والضحاك والحسن، وقتادة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم} يقول: جُلِّى عن قلوبهم، وقرأ بعض السلف- وجاء مرفوعا-: {حَتَّى إذَا فرغ} بالغين المعجمة، ويرجع إلى الأول.
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؛ ولهذا قال: {قَالُوا الْحَقّ} أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
وقال آخرون: بل معنى قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا: ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم: الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا.
قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}: كشف عنها الغطاء يوم القيامة.
وقال الحسن: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: ما فيها من الشك والتكذيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: ما فيها من الشك، قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم، {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال: وهذا في بني آدم، هذا عند الموت، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
وقد اختار ابن جرير القول الأول: أن الضمير عائد على الملائكة. هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره:
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عِكْرِمة، سمعت أبا هُرَيرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير فيسمعها مُسْتَرق السمع، ومسترق السمع- هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بيده- فَحَرّفها وبَدّد بين أصابعه- فَيسمع الكلمة، فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيَها على لسان الساحر أو الكاهن، فَربما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كَذْبَة، فيقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء».
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه. وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة، به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، أخبرنا الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في نفر من أصحابه- قال عبد الرزاق: «من الأنصار»- فَرُميَ بنجم فاستنار، قال: «ما كنتم تقولون إذا كان مثلُ هذا في الجاهلية؟» قالوا: كنا نقول يُولَد عظيم، أو يموت عظيم- قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غُلّظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا، تبارك وتعالى، إذا قضى أمرا سبح حَمَلةُ العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يَلُونَ حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون».
هكذا رواه الإمام أحمد. وقد أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث صالح بن كَيْسَان، والأوزاعي، ويونس ومَعْقِل بن عبيد الله، أربعتهم عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار، به.
ورواه وقال يونس: عن رجال من الأنصار، وكذا رواه النسائي في (التفسير) من حديث الزبيدي، عن الزهري، به.
ورواه الترمذي فيه عن الحُسَين بن حريث؛ عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رجل من الأنصار، رضي الله عنه، والله أعلم.
حديث آخر: قال ابن أبى حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي- والسياق لمحمد بن عوف- قالا حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا الوليد- هو ابن مسلم- عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الله بن أبي زكرياء، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سَمْعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة- أو قال: رعدة- شديدة؛ من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل على الملائكة، كلما مَرّ بسماء سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال: الحقّ، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض».
وكذا رواه ابن جرير وابن خُزَيمة، عن زكريا بن أبان المصري، عن نعيم بن حماد، به.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم، رحمه الله.
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العَوفي، عن ابن عباس- وعن قتادة: أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.