فصل: تفسير الآيات (62- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (62- 70):

{أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}
يقول الله تعالى: أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ- خير ضيافة وعطاء {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أي: التي في جهنم.
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة، كما قال بعضهم من أنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن.
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر، يقال له: الزقوم، كقوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون: 20]، يعني الزيتونة. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة: 51، 52].
وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}، قال قتادة: ذكرت شجرة الزقوم، فافتتن بها أهل الضلالة، وقالوا: صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} غذت من النار، ومنها خلقت.
وقال مجاهد: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} قال أبو جهل- لعنه الله-: إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.
قلت: ومعنى الآية: إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا تختبر به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].
وقوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي: أصل منبتها في قرار النار، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} تبشيع لها وتكريه لذكرها.
قال وهب بن منبه: شعور الشياطين قائمة إلى السماء.
وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين؛ لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر.
وقيل: المراد بذلك ضرب من الحيات، رءوسها بشعة المنظر.
وقيل: جنس من النبات، طلعه في غاية الفحاشة.
وفي هذين الاحتمالين نظر، وقد ذكرهما ابن جرير، والأول أقوى وأولى، والله أعلم.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}، ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها، ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها، لأنهم لا يجدون إلا إياها، وما في معناها، كما قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6، 7].
وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وقال: «اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟».
ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} قال ابن عباس: يعني شرب الحميم على الزقوم.
وقال في رواية عنه: {شَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} مزجا من حميم.
وقال غيره: يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق، مما يسيل من فروجهم وعيونهم.
وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح الحضرمي، حدثنا بَقيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، أخبرني عبيد بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: «يقرب- يعني إلى أهل النار- ماء فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه. فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا يعقوب بن عبد الله، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير قال: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فيها. فلو أن مارا يمر بهم يعرفهم لعرف وجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل- وهو الذي قد انتهى حره- فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود، ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم، ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله، يدعون بالثبور.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} أي: ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فتارة في هذا وتارة في هذا، كما قال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]. هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية، وهو تفسير حسن قوي.
وقال السدي في قراءة عبد الله: {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} وكان عبد الله يقول: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. ثم قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24].
وروى الثوري، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء. قال سفيان: أراه، ثم قرأ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا}، ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم.
قلت: على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر.
وقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} أي: إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك، من غير دليل ولا برهان؛ ولهذا قال: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال مجاهد: شبيهة بالهرولة.
وقال سعيد بن جبير: يسفهون.

.تفسير الآيات (71- 74):

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى.
وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين، ينذرون بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته، ممن كفر به وعبد غيره، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم. فأهلك المكذبين ودمرهم، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم، ولهذا قال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}

.تفسير الآيات (75- 82):

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82)}
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا، عليه السلام، وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة، فدعى ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه عليهم؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي: فلنعم المجيبون له. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، وهو التكذيب والأذى، {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام.
وقد روى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال: «سام، وحام ويافث».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم».
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد- وهو ابن أبي عروبة-
عن قتادة، به.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: وقد روي عن عمران بن حُصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأوَل، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام. ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة، فولد سامُ العربَ وفارسَ والروم، وولد يافثُ الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وولد حامُ القبطَ والسودان والبربر. وروي عن وهب بن منبه نحو هذا، والله أعلم.
وقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}، قال ابن عباس: يذكر بخير.
وقال مجاهد: يعني لسان صدق للأنبياء كلهم.
وقال قتادة والسدي: أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. قال الضحاك: السلام والثناء الحسن.
وقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله، نجعل له لسانَ صدْق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك.
ثم قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي المصدقين الموحدين الموقنين، {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي: أهلكناهم، فلم تبْق منهم عين تطرف، ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ} يقول: من أهل دينه.
وقال مجاهد: على منهاجه وسنته.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال ابن عباس: يعني شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن عَوْف: قلت لمحمد بن سِيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعانا.
وقوله: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}: أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال قتادة: يعني: ما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم غيره؟!

.تفسير الآيات (88- 98):

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ (98)}
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجُهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فَهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه، {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم: يعني قتادة: أنه نظر في السماء متفكرا فيما يلهيهم به، فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: ضعيف.
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62]، وقوله في سارة: هي أختي» فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال: «ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى، فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقال {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقال للملك حين أراد المرأة: هي أختي».
قال سفيان في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} يعني: طعين. وكانوا يفرون من المطعون، فأراد أن يخلو بآلهتهم.
وكذا قال العوفي عن ابن عباس: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}، فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج. فقال: إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: رأى نجما طلع فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} كابد نبي الله عن دينه {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}.
وقال آخرون: فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} بالنسبة إلى ما يستقبل، يعني: مرض الموت.
وقيل: أراد {إِنِّي سَقِيمٌ} أي: مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم، فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم.
ولهذا قال تعالى: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي: إلى عيدهم، {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}، وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتُبرّك لهم فيه.
قال السدي: دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه صنم آخر أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا: إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام، إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: {أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}؟!
وقوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}: قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين.
وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.
وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.
قوله هاهنا: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}: قال مجاهد وغير واحد: أي يسرعون.
وهذه القصة هاهنا مختصرة، وفي سورة الأنبياء مبسوطة، فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم، عليه السلام، هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم، فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}؟! أي: أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم؟! {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يحتمل أن تكون ما مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم وعملكم. ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره: والله خلقكم والذي تعملونه. وكلا القولين متلازم، والأول أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد، عن علي بن المديني، عن مروان بن معاوية، عن أبي مالك، عن ربْعِيّ بن حراش، عن حذيفة مرفوعا قال: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته». وقرأ بعضهم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}
فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر، فقالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونجاه الله من النار وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها؛ ولهذا قال تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ}