فصل: تفسير الآيات (19- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 20):

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}.
يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شَقِي تَقْدر تُنْقذُه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله؛ لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له.
ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ}، أي: طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لغرفًا يُرَى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها» فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام».
ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقال: حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن مُعانق- أو: أبي مُعَانق- عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لغرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام».
تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن مُعَانق الأشعري، عن أبي مالك، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء». قال: فحدثتُ بذلك النعمان بن أبي عياش، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: «كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي».
أخرجاه في الصحيحين، من حديث أبي حازم، وأخرجاه أيضًا في الصحيحين من حديث مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا فَزارة، أخبرني فُلَيح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات». فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ فقال: «بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل».
ورواه الترمذي عن سُويد، عن ابن المبارك عن فُلَيح به وقال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدَلَّة- مولى أم المؤمنين- أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد. قال: «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم» قلنا: يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي- وكان ثقة- عن أبي المُدَلِّه- وكان ثقة- به.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا، {وَعَدَ اللَّهُ} أي: هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}

.تفسير الآيات (21- 22):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)}.
يخبر تعالى: أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى: {وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار، بحسب الحاجة إليها؛ ولهذا قال: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ}.
قال ابن أبي حاتم- رحمه الله-: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ}، قال: ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ}، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده.
وكذا قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي: أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء.
وقال سعيد بن جبير: أصله من الثلج يعني: أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها.
وقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي: ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي: أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه، {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: بعد نضارته وشبابه يكتهل {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}، قد خالطه اليُبْس، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: ثم يعود يابسا يتحطم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} أي: الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا، تكون خَضرةً نضرةً حسناء، ثم تعود عَجُوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا قد خالطه اليبس، وبعد ذلك كله الموت. فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير، وكثيرًا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء، وينبت به زروعا وثمارا، ثم يكون بعد ذلك حُطاما، كما قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟! كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]؛ ولهذا قال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

.تفسير الآية رقم (23):

{اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
هذا مَدْحٌ من الله- عز وجل- لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم، قال الله تعالى: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} قال مجاهد: يعني القرآن كله متشابه مثاني.
وقال قتادة: الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف.
وقال الضحاك: {مَثَانِيَ} ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل.
وقال عكرمة، والحسن: ثنَّى الله فيه القضاء- زاد الحسن: تكون السورة فيها آية، وفي السورة الأخرى آية تشبهها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {مَثَانِيَ} مُرَدَّد، رُدِّد موسى في القرآن، وصالح وهود والأنبياء، عليهم السلام، في أمكنة كثيرة.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {مَثَانِيَ} قال: القرآن يشبه بعضه بعضا، ويُرَدُّ بعضه على بعض.
وقال بعض العلماء: وُيرْوى عن سفيان بن عيينة معنى قوله: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} أنّ سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد، فهذا من المتشابه، وتارةً تكونُ بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين، وكصفة الجنة ثم صفة النار، وما أشبه هذا، فهذا من المثاني، كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14، 13]، وكقوله {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]، إلى أن قال: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18]، {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49]، إلى أن قال: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55]، ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني، أي: في معنيين اثنين، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، ذاك معنى آخر.
وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد. والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه:
أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات، من أصوات القَيْنات.
الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2- 4] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم أي يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا له.
الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة.
قال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمَر قال: تلا قتادة، رحمه الله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.
وقال السُّدِّي: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: إلى وعد الله. وقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: هذه صفة من هداه الله، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33].

.تفسير الآيات (24- 26):

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}.
يقول تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ويُقْرَعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، كمن يأتي آمنا يوم القيامة؟! كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، وقال: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]، وقال تعالى {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40]، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر، كقول الشاعر:
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا ** أريدُ الخيرَ أيّهما يَليني

يعني: الخير أو الشر.
وقوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} يعني: القرون الماضية المكذبة للرسل، أهلكهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق.
وقوله: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم، فليحذر المخاطبون من ذلك، فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل، وخاتم الأنبياء، والذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظمُ مما أصابهم في الدنيا؛ ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.