فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 18):

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)}
يقول تعالى- متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به-: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: باطلة عند الله، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أي: منه، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: يوم القيامة.
قال ابن عباس، ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله، ليصدوهم عن الهدى، وطمعوا أن تعود الجاهلية.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا لهم: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، وأولى بالله منكم. وقد كذبوا في ذلك.
ثم قال: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني: الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه {والميزان}، وهو: العدل والإنصاف، قاله مجاهد، وقتادة. وهذه كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7- 9].
وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا.
وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي: يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29]، وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا، وكفرا وعنادا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: خائفون وجلون من وقوعها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها.
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر، في الصحاح والحسان، والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: «هاؤم». فقال: متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك، إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حُب الله ورسوله. فقال: «أنت مع من أحببت».
فقوله في الحديث: «المرء مع من أحب»، هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} أي: يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها، {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: في جهل بين؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

.تفسير الآيات (19- 22):

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدا منهم، سواء في رزقه البرّ والفاجر، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] ولها نظائر كثيرة.
وقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يوسع على من يشاء، {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أي: لا يعجزه شيء.
ثم قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أي: عمل الآخرة {نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همَّة البتة بالكلية، حَرَمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.
والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في سبحان وهي قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 18- 21].
وقال الثوري، عن مُغيرة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر هذه الأمة بالسَّنَاء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب».
وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة يَجُر قُصْبَه في النار» لأنه أول من سيب السوائب. وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حَمَل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لعوجلوا بالعقوبة، لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
ثم قال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي: في عرصات القيامة، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة، هذا حالهم يوم معادهم، وهم في هذا الخوف والوجل، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فأين هذا من هذا:
أين من هو في العَرَصَات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال: الحسن بن عرفة: حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طَيْبَة، قال: إن الشَّرْب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمْطِرُكُم. قال: فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا.
رواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، به.
ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي: الفوز العظيم، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.

.تفسير الآيات (23- 24):

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)}
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: هذا حاصل لهم كائن لا محالة، ببشارة الله لهم به.
وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوسا عن ابن عباس: أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
انفرد به البخاري.
ورواه الإمام أحمد، عن يحيى القطان، عن شعبة به.
وهكذا روى عامر الشعبي، والضحاك، وعلي بن أبي طلحة، والعَوْفي، ويوسف بن مِهْران وغير واحد، عن ابن عباس، مثله. وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي أياس، حدثنا شريك، عن خُصَيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تَوَدّوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم».
وروى الإمام أحمد، عن حسن بن موسى: حدثنا قَزَعَة يعني ابن سُوَيد- وابن أبي حاتم- عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قَزَعة بن سويد- عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلا أن تُوَادوا الله، وأن تقربوا إليه بطاعته».
وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري، مثله.
وهذا كأنه تفسير بقول ثان، كأنه يقول: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى.
وقول ثالث: وهو ما حكاه البخاري وغيره، رواية عن سعيد بن جبير، ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي: تحسنوا إليهم وتبروهم.
وقال السدي، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرني الفتنة. فقال له علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ آل حم. قال: ما قرأت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}؟ قال: وإنكم أنتم هم؟ قال: نعم.
وقال: أبو إسحاق السَّبِيعيّ: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال: قربى النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن جرير.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام، حدثني يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس- أو: العباس، شك عبد السلام-: لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟» قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «أفلا تجيبوني؟» قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أو لم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. قال: فنزلت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن علي بن الحسين، عن عبد المؤمن بن علي، عن عبد السلام، عن يزيد بن أبي زياد- وهو ضعيف- بإسناده مثله، أو قريبا منه.
وفي الصحيحين- في قسم غنائم حنين- قريب من هذا السياق، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية.
وذكر نزولها في المدينة فيه نظر؛ لأن السورة مكية، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجل سماه، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: «فاطمة وولدها، عليهم السلام».
وهذا إسناد ضعيف، فيه مبهم لا يعرف، عن شيخ شيعي مُتَخَرّق، وهو حسين الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحل.
وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد؛ فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة.
والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس، كما رواه عنه البخاري رحمه الله ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها؟ قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: «والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله».
ثم قال أحمد حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تُحدث، فإذا رأونا سكتوا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَرّ عِرْقُ بين عينه، ثم قال: «والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي».
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد، حدثنا شعبة، عن واقد قال: سمعتُ أبي يحدّث عن ابن عمر، عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال: ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته.
وفي الصحيح: أن الصديق قال لعلي، رضي الله عنهما: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.
وقال عمر بن الخطاب للعباس، رضي الله عنهما: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب.
فحال الشيخين، رضي الله عنهما، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك؛ ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين، رضي الله عنهما، وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي حَيّان التيمي، حدثني يزيد ابن حيان قال: انطلقت أنا وحُسَيْن بن مَيْسَرة، وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيتَ يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه. لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا ابن أخي، والله كَبُرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تُكَلّفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فينا، بماء يدعى خُمّا- بين مكة والمدينة- فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: «أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
وهكذا رواه مسلم في فضائل والنسائي من طرق عن يزيد بن حَيّان به.
وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا علي بن المنذر الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد- والأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي: أهل بيتي، ولن يَتَفَرَّقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».
تفرد بروايته الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال الترمذي أيضا حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي: أهل بيتي».
تفرد به الترمذي أيضا، وقال: حسن غريب. وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد.
ثم قال الترمذي: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا يحيى بن مَعِين، حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي».
ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه.
وقد أوردنا أحاديث أُخَر عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، بما أغنى عن إعادتها هاهنا، ولله الحمد والمنة.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سويد بن سَعِيد، حدثنا مفضل بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن حَنَش قال: سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مثل أهل بيتي فيكم مَثَل سفينة نوح، من دخلها نجا، ومن تخلف عنها هلك».
هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي: ومن يعمل حسنة {نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي: أجرا وثوابا، كقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
وقال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر، ويضاعف فيشكر.
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي: لَطَبَعَ على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47] أي: لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} ليس معطوفا على قوله: {يختم} فيكون مجزوما، بل هو مرفوع على الابتداء، قاله ابن جرير، قال: وحذفت من كتابته الواو في رسم المصحف الإمام، كما حذفت في قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] وقوله: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11].
وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} معطوف على {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} أي: يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته، أي: بحججه وبراهينه، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر.