فصل: تفسير الآيات (47- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 48):

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ (48)}
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حَذَّر منه وأمر بالاستعداد له، فقال: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي: إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون، وليس له دافع ولا مانع.
وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي: ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه، فتغيبون عن بصره، تبارك وتعالى، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته، فلا ملجأ منه إلا إليه، {يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10- 12].
وقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} يعني: المشركين {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: لست عليهم بمصيطر.
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] وقال هاهنا: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} أي: إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
ثم قال تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أي: إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} يعني الناس {سيئة} أي: جدب ونقمة وبلاء وشدة، {فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} أي: يجحد ما تقدم من النعمة ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لأنكن تُكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت: ما رأيت منك خيرا قط» وهذا حال أكثر الناس إلا من هداه الله وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

.تفسير الآيات (49- 50):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}
يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، و{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أي: يرزقه البنات فقط- قال البغوي: ومنهم لوط، عليه السلام {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أي: يرزقه البنين فقط. قال البغوي: كإبراهيم الخليل، عليه السلام- لم يولد له أنثى،. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أي: ويعطي من يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: من هذا وهذا. قال البغوي: كمحمد، عليه الصلاة والسلام {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أي: لا يولد له. قال البغوي: كيحيى وعيسى، عليهما السلام، فجعل الناس أربعة أقسام، منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، {قَدِيرٌ} أي: على من يشاء، من تفاوت الناس في ذلك.
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى عن عيسى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21] أي: دلالة لهم على قدرته، تعالى وتقدس، حيث خلق الخلق على أربعة أقسام، فآدم، عليه السلام، مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى، وحواء عليها السلام، مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى، وعيسى، عليه السلام، من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم، عليهما السلام؛ ولهذا قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}، فهذا المقام في الآباء، والمقام الأول في الأبناء، وكل منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53)}
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله، عز وجل، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب».
وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} كما كلم موسى، عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: «ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا». الحديث، وكان أبوه قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا.
وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كما ينزل جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة على الأنبياء، عليهم السلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، فهو علي عليم خبير حكيم.
وقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} يعني: القرآن، {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ} أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أي: القرآن {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}، كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
وقوله: {وَإِنَّكَ} أي يا محمد {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهو الخلق القويم. ثم فسره بقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي} أي: شرعه الذي أمر به الله، {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي: ربهما ومالكهما، والمتصرف فيهما، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}، أي: ترجع الأمور، فيفصلها ويحكم فيها.
آخر تفسير سورة حم الشورى والحمد لله رب العالمين.

.سورة الزخرف:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ (8)}
يقول تعالى: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس؛ ولهذا قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أي: أنزلناه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: بلغة العرب فصيحا واضحا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمونه وتتدبرونه، كما قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195].
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى: {وإنه} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد، {لدينا} أي: عندنا، قاله قتادة وغيره، {لعلي} أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل، قاله قتادة {حكيم} أي: محكم بريء من اللبس والزيغ.
وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77- 80] وقال: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11- 16]؛ ولهذا استنبط العلماء، رحمهم الله، من هاتين الآيتين: أن المُحدِثَ لا يمس المصحف، كما ورد به الحديث إن صح؛ لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى، لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}
وقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} اختلف المفسرون في معناها، فقيل: معناها: أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس، ومجاهد وأبو صالح، والسدي، واختاره ابن جرير.
وقال قتادة في قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا}: والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته، وكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك.
وقول قتادة لطيف المعنى جدا، وحاصله أنه يقول في معناه: أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير والذكر الحكيم- وهو القرآن- وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قَدّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال تعالى- مسليا لنبيه في تكذيب من كذبه من قومه، وآمرا له بالصبر عليهم-: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ} أي: في شيع الأولين، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: يكذبونه ويسخرون به.
وقوله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي: فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد. كقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر: 82] والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله: {وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ} قال مجاهد: سنتهم.
وقال قتادة: عقوبتهم.
وقال غيرهما: عبرتهم، أي: جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله في آخر هذه السورة: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} [الزخرف: 56]. وكقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] وقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62].

.تفسير الآيات (9- 14):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
يقول تعالى: ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره: {مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي: ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد.
ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي: فراشًا قرارًا ثابتة، يسيرون عليها ويقومون وينامون وينصرفون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي: طرقا بين الجبال والأودية {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم.
{وَالَّذِي نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم، لأنفسكم ولأنعامكم. وقوله: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: أرضا ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.
ثم نبه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها، فقال: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
ثم قال: {وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: مما تنبت الأرض من سائر الأصناف، من نبات وزروع وثمار وأزاهير، وغير ذلك أي من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} أي: السفن {وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي: ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي: لتستووا متمكنين مرتفقين {عَلَى ظُهُورِهِ} أي: على ظهور هذا الجنس، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} أي: فيما سخر لكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي: مقاومين. ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه.
قال ابن عباس، وقتادة، والسدي وابن زيد: {مقرنين} أي: مطيقين.
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر. وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأعراف: 26].
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة:
حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا، رضي الله عنه، أتى بدابة، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال: باسم الله. فلما استوى عليها قال: الحمد لله، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ثم حمد الله ثلاثا، وكبر ثلاثا، ثم قال: سبحانك، لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم ضحك فقلت له: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: «يعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي. ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري».
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث أبي الأحوص- زاد النسائي: ومنصور- عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي، به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد قال عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن شعبة: قلت لأبي إسحاق السَّبِيعي: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال: من يونس بن خباب. فلقيت يونس بن خباب فقلت: ممن سمعته؟ فقال: من رجل سمعه من علي بن ربيعة.
ورواه بعضهم عن يونس بن خباب، عن شقيق بن عقبة الأسدي، عن علي بن ربيعة الوالبي، به.
حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا أبو بكر بن عبد الله، عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته، فلما استوى عليها كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، وحمد ثلاثا، وهلل الله واحدة. ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليه فقال: «ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت، إلا أقبل الله، عز وجل، عليه، فضحك إليه كما ضحكت إليك».
تفرد به أحمد.
حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن علي بن عبد الله البارقي، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا، ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. ثم يقول: «اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم، هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم، اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا». وكان إذا رجع إلى أهله قال: «آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون».
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث ابن جريج، والترمذي من حديث حماد بن سلمة، كلاهما عن أبي الزبير، به.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان، عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج. فقلنا: يا رسول الله، ما نرى أن تحملنا هذه! فقال: «ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عز وجل».
أبو لاس اسمه: محمد بن الأسود بن خَلَف.
حديث آخر في معناه:
قال أحمد: حدثنا عَتَّاب، أخبرنا عبد الله (ح) وعلي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله- يعني ابن المبارك- أخبرنا أسامة بن زيد، أخبرني محمد بن حمزة؛ أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «على ظهر كل بعير شيطان، فإن ركبتموها فسموا الله، عز وجل، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم».