فصل: تفسير الآيات (15- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 20):

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20)}
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله، كما ذكر الله عنهم في سورة الأنعام، في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسَّهما وأردأهما وهو البنات، كما قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21، 22].
وقال هاهنا: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}
ثم قال: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك، يقول تعالى: فكيف تأنفون أنتم من ذلك، وتنسبونه إلى الله عز وجل؟.
ثم قال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي: المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِيَّة، أوَ مَنْ يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه، ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض شعراء العرب:
وَمَا الحَلْي إلا زينَةٌ من نقيصةٍ ** يتمّمُ من حُسْن إذا الحُسْن قَصَّرا

وأمَّا إذَا كان الجمالُ موفَّرا ** كحُسْنك لم يَحْتَجْ إلى أن يزَوَّرا

وأما نقص معناها، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: «ما هي بنعم الولد: نصرها بالبكاء، وبرها سرقة».
وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أي: اعتقدوا فيهم ذلك، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك، فقال: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي: بذلك، {ويسألون} عن ذلك يوم القيامة. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي: لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله، فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ:
أحدها: جَعْلُهم لله ولدا، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني: دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كله، بلا دليل ولا برهان، ولا إذن من الله عز وجل، بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء والآباء، والخبط في الجاهلية الجهلاء.
الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرا والحجة إنما تكون بالشرع، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرًا، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، قال تعالى، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وقال في هذه الآية- بعد أن ذكر حجتهم هذه-: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي: يكذبون ويتقولون.
وقال مجاهد في قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي ما يعلمون قدرة الله على ذلك.

.تفسير الآيات (21- 25):

{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}
يقول تعالى منكرا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل شركهم، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي: فيما هم فيه، أي: ليس الأمر كذلك، كقوله: {أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] أي: لم يكن ذلك.
ثم قال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي: ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة، والمراد بها الدين هاهنا، وفي قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92].
وقولهم: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} أي: ورائهم {مهتدون}، دعوى منهم بلا دليل.
ثم بين تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم، فقالوا مثل مقالتهم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52، 53]، وهكذا قال هاهنا: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
ثم قال تعالى: {قل} أي: يا محمد لهؤلاء المشركين: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به، لما انقادوا لذلك بسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.
قال الله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب، كما فصله تعالى في قصصهم، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}؟ أي: كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجى الله المؤمنين؟.

.تفسير الآيات (26- 35):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان، فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله أي: جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم، عليه السلام، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إليها.
وقال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها.
ورُوي نحوه عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: كلمة الإسلام. وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.
ثم قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} يعني: المشركين، {وآباءهم} أي: فتطاول عليهم العمر في ضلالهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي: بين الرسالة والنذارة.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي: كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا، {وقالوا} أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس: {لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي: هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة والسدي، وابن زيد.
وقد ذكر غير واحد منهم: أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي.
وقال مالك عن زيد بن أسلم، والضحاك، والسدي: يعنون الوليد بن المغيرة، ومسعود بن عمرو الثقفي.
وعن مجاهد: عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي. وعنه أيضا: أنهم يعنون الوليد بن المغيرة، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
وعن مجاهد: يعنون عتبة بن ربيعة بمكة، وابن عبد يا ليل بالطائف.
وقال السدي: عنوا بذلك الوليد بن المغيرة، وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي.
والظاهر: أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان.
قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}؟ أي: ليس الأمر مردودا إليهم، بل إلى الله، عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا.
ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}
وقوله: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} قيل: معناه ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، قاله السدي وغيره.
وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضا. وهو راجع إلى الأول.
ثم قال: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال- هذا معنى قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وغيرهم- {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي: سلالم ودرجا من فضة- قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي: وابن زيد، وغيرهم- {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}، أي: يصعدون.
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} أي: أغلاقا على أبوابهم {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}، أي: جميع ذلك يكون فضة، {وزخرفا}، أي: وذهبا. قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
ثم قال: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح. وقد ورد في حديث آخر: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء»، أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو عدلت الدنيا جناح بعوضة، ما أعطى كافرا منها شيئا».
ثم قال: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم: فيها أحد غيرهم ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربه لما آلى من نسائه، فرآه عمر على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: «أوَ في شك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال: «أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟».
وفي الصحيحين أيضا وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة». وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي وابن ماجه، من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا»، قال الترمذي: حسن صحيح.