فصل: تفسير الآيات (9- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (9- 16):

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}
يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم اليقين، وهم يشكون فيه، ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال متوعدا لهم ومتهددًا: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}.
قال سليمان بن مِهْرَان الأعمش، عن أبي الضُّحَى مسلم بن صُبَيْح، عن مسروق قال: دخلنا المسجد- يعني مسجد الكوفة- عند أبواب كندة، فإذا رجل يقص على أصحابه: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام. قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعًا ففزع فقعد، وقال إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم سأحدثكم عن ذلك، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان- وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد- قال قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت. فاستسقى لهم فَسُقُوا فأنزل الله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قال: ابن مسعود: فيكشف العذاب عنهم يوم القيامة، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}، قال: يعني يوم بدر.
قال ابن مسعود: فقد مضى خمسة: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللِّزام. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة، عن الأعمش، به وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} قال: كان يوم فتح مكة.
وهذا القول غريب جدًا بل منكر.
وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما تقدم من حديث أبي سَرِيحة حذيفة بن أسيد الغفاري، رضي الله عنه، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس- أو: تحشر الناس-: تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن الصياد: «إني خبأت لك خَبْأ» قال: هو الدُّخ. فقال له: «اخسأ فلن تعدو قدرك» قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}.
وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يُقَرطمون العبارة؛ ولهذا قال: «هو الدُّخ» يعني: الدخان. فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية، فقال له: «اخسأ فلن تعدو قدرك».
ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رَوَّاد بن الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، حدثنا منصور بن المعتمر، عن رِبْعِي بن حِرَاش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الآيات الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، والدخان- قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}- يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره».
قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة؛ لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث: هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا قال: فقلت: أقرأته عليه؟ قال: لا قال: فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به؟ فقال: لا فقلت له: فمن أين جئت به؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي، وقالوا لي: اسمعه منا. فقرءوه عليَّ ثم ذهبوا به، فحدثوا به عني، أو كما قال.
وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا، فإنه موضوع بهذا السند، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير، وفيه منكرات كثيرة جدًا، ولاسيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خليل، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه».
ورواه سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري موقوفًا.
ورواه عوف، عن الحسن قوله.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرعَة، عن شُريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال».
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد، عن محمد بن إسماعيل بن عياش، به وهذا إسناد جيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ.
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن ابن عمر قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الرَّضف.
ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس، رضي الله عنهما، ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن ابن عمر، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.
وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين أجمعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن.
قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود، رضي الله عنه: إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.
وهكذا قوله: {يَغْشَى النَّاسَ} أي: يتغشاهم ويَعُمهم، ولو كان أمرا خياليًّا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: {يَغْشَى النَّاسَ}
وقوله: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 13، 14]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].
وكذا قوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]، وهكذا قال هاهنا: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}
يقول: كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون. وهذا كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23، 24]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 51- 54].
وقوله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه يقوله تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وكقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم، كقوله تعالى: {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، ولم يكن العذاب باشرهم، واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه ووصوله عليهم، ولا يلزم أيضًا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارًا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّه مِنْهَا} [الأعراف: 88، 89]، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم.
وقال قتادة: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى عذاب الله.
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضًا عن ابن عباس وجماعة من رواية العوفي، عنه.
وعن أبي بن كعب وجماعة، وهو محتمل.
والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة.
وهذا إسناد صحيح عنه، وبه يقول الحسن البصري، وعكرمة في أصح الروايتين، عنه.

.تفسير الآيات (17- 33):

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33)}
يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} يعني: موسى كليمه، عليه السلام، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ}، كقوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47].
وقوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي: مأمون على ما أبلغكموه.
وقوله: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أي: لا تستكبروا عن اتباع آياته، والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
{إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: بحجة ظاهرة واضحة، وهي ما أرسله الله به من الآيات البينات والأدلة القاطعة.
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} قال ابن عباس، وأبو صالح: هو الرجم باللسان وهو الشتم.
وقال قتادة: هو الرجم بالحجارة.
أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إليَّ بسوء من قول أو فعل.
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي: فلا تتعرضوا إليَّ، ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم، كما قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 88، 89].
وهكذا قال هاهنا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه؛ ولهذا قال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} كما قال: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77].
وقوله هاهنا: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} وذلك أن موسى، عليه السلام، لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، ليصير حائلا بينهم وبين فرعون، فلا يصل إليهم. فأمره الله أن يتركه على حاله ساكنًا، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه، وأنه لا يخاف دركًا ولا يخشى.
قال ابن عباس: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} كهيئته وامضِهْ.
وقال مجاهد {رهوا} طريقًا يبسًا كهيئته، يقول: لا تأمره يرجع، اتركه حتى يرجع آخرهم.
وكذا قال عكرمة، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة، وابن زيد وكعب الأحبار وسِمَاك بن حرب، وغير واحد.
ثم قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} وهي البساتين {وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} والمراد بها الأنهار والآبار، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} وهي المساكن الكريمة الأنيقة والأماكن الحسنة.
وقال مجاهد، وسعيد بن جبير: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} المنابر.
وقال ابن لَهِيعة، عن وهب بن عبد الله المعافري، عن عبد الله بن عمرو قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلَّلَهُ له، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونًا، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله، أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال في قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} قال:، كانت الجنان بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعًا، ما بين أسوان إلى رشيد، وكان له تسعة خلج: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعًا، لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} أي: عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة، وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] وقال في موضع أخر: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
وقال هاهنا: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} وهم بنو إسرائيل، كما تقدم.
وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} أي: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم.
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أحمد بن إسحاق البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني يزيد الرقاشي، حدثني أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه» وتلا هذه الآية: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} وذُكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم. ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب، ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي.
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن طلحة، حدثني عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا. ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} ثم قال: «إنهما لا يبكيان على الكافر».
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد- يعني الزبيري- حدثنا العلاء بن صالح، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل عليًّا رضي الله عنه: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ علي، رضي الله عنه {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا طلق بن غَنَّام، عن زائدة، عن منصور، عن منهال، عن سعيد بن جبير قال: أتى ابنَ عباس رجلٌ فقال: يا أبا عباس أرأيت قول الله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
وروى العوفي، عن ابن عباس، نحو هذا.
وقال سفيان الثوري، عن أبي يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحًا.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وغير واحد.
وقال مجاهد أيضا: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا، قال: فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد، كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟
وقال قتادة: كانوا أهون على الله من أن تبكي عليهم السماء والأرض.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد السلام بن عاصم، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا المستورد بن سابق، عن عبيد المكتب، عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد: أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟ قال: ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء؟ قلت لا قال: تحمر وتصير وردة كالدهان، إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دمًا. وإن حسين بن علي لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو- زُنَيج- حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل حسين بن علي، رضي الله عنهما، احمرت آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها.
وهكذا قال السدي الكبير.
وقال عطاء الخراساني: بكاؤها: أن تحمر أطرافها.
وذكروا أيضًا في مقتل الحسين أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عَبِيط، وأنه كسفت الشمس، واحمر الأفق، وسقطت حجارة. وفي كل من ذلك نظر، والظاهر أنه من سُخْف الشيعة وكذبهم، ليعظموا الأمر- ولا شك أنه عظيم- ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه، وقد وقع ما هو أعظم من ذلك- قتل الحسين رضي الله عنه- ولم يقع شيء مما ذكروه، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب، وهو أفضل منه بالإجماع ولم يقع شيء من ذلك، وعثمان بن عفان قتل محصورًا مظلومًا، ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قتل في المحراب في صلاة الصبح، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك، ولم يكن شيء من ذلك. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس: الشمس خسفت لموت إبراهيم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف، وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته.
وقوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} يمتن عليهم تعالى بذلك، حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة.
وقوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي: مستكبرًا جبارًا عنيدًا، كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4].
وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46]، وقوله {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39]، فكان فرعون سِرفًا في أمره، سخيف الرأي على نفسه.
وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال مجاهد: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} على من هم بين ظهريه.
وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك. وكان يقال: إن لكل زمان عالما. وهذه كقوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] أي: أهل زمانه، وكقوله لمريم: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] أي: في زمانها؛ فإن خديجة أفضل منها، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، أو مساوية لها في الفضل، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ} أي: من الحجج والبراهين وخوارق العادات {مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ} أي: اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.