فصل: تفسير الآيات (20- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 23):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله، عز وجل، وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77].
وقال ها هنا: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ} أي: مشتملة على حُكْم القتال؛ ولهذا قال: {فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. ثم قال مشجعا لهم: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي: في الحالة الراهنة، {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} أي: جد الحال، وحضر القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أي: أخلصوا له النية، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}
وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: عن الجهاد ونكلتم عنه، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}.
أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام؛ ولهذا قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال. وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طرق عديدة، ووجوه كثيرة.
قال البخاري: حدثنا خالد بن مَخْلَد، حدثنا سليمان، حدثني معاوية بن أبي مُزَرّد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل، فقال: مه! فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك. قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}».
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين، عن معاوية بن أبي مزرد، به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}» ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم».
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث إسماعيل- هو ابن عُلَية- به.
وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي، حدثنا محمد بن عباد المخزومي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره النَّساء في الأجل، والزيادة في الرزق، فليصل رحمه».
تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح.
وقال أحمد أيضا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال: «لا إذن تتركون جميعا، ولكن جُدْ بالفضل وصلهم؛ فإنه لن يزال معك ظهير من الله، عز وجل، ما كنت على ذلك».
تفرد به من هذا الوجه، وله شاهد من وجه آخر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يَعْلَى، حدثنا فِطْر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»، رواه البخاري.
وقال أحمد: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا قتادة، عن أبي ثمامة الثقفي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة كحجنة المغزل، تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو- يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم- قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحم شُجْنَة من الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته».
وقد رواه أبو داود والترمذي، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، به. وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ؛ أن أباه حدثه: أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض، فقال له عبد الرحمن: وصلتك رَحمٌ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته- أو قال: من يبتها أبته».
تفرد به من هذا الوجه.
ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن الرداد- أو أبي الردّاد- عن عبد الرحمن بن عوف، به.
ورواه أبو داود والترمذي، من رواية أبي سلمة، عن أبيه. والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن عبد الله بن علاثة، عن الحجاج بن الفُرَافِصَة، عن أبي عمر البصري، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، فما تَعارف منها ائتلف/، وما تناكر منها اختلف».
وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر القول، وخزن العمل، وائتلفت الألسنة، وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم».

.تفسير الآيات (24- 28):

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)}.
يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه، وناهيا عن الإعراض عنه، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مُطْبَقَة لا يخلص إليها شيء من معانيه.
قال ابن جرير: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها. فما زال الشاب في نفس عمر، رضي الله عنه، حتى ولي، فاستعان به.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} أي: فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي: زين لهم ذلك وحسنه، {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي: غرهم وخدعهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ} أي: مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي: يعلم ما يسرون وما يخفون، الله مطلع عليه وعالم به، كقوله: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81].
ثم قال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب، كما قال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية [الأنفال: 50]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} أي: بالضرب {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]؛ ولهذا قال ها هنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}

.تفسير الآيات (29- 31):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)}.
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} أي: اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة براءة، فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.
وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وفي الحديث: «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر». وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل، وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري، بما أغنى عن إعادته ها هنا. وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن عياض بن عياض، عن أبيه، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم». ثم قال: «قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان». حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال: «إن فيكم- أو: منكم- فاتقوا الله». قال: فمر عمر برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه، فقال: ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بعدًا لك سائر اليوم.
وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي: ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد: حتى نعلم وقوعه؛ ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا: إلا لنعلم، أي: لنرى.

.تفسير الآيات (32- 35):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)}.
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله، وخالف الرسول وشاقه، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى: أنه لن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقد قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا أبو قدامة، حدثنا وكيع، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك: أخبرني بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش، ونرجو لمن لم يصيبها.
ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال؛ ولهذا قال: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أي: بالردة؛ ولهذا قال بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، كقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية.
ثم قال لعباده المؤمنين: {فَلا تَهِنُوا} أي: لا تضعفوا عن الأعداء، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي: المهادنة والمسالمة، ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكُمْ؛ ولهذا قال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ} أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.
وقوله: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا.