فصل: تفسير الآيات (19- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 26):

{أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ}؟ وكانت اللات صخرةً بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وحكي عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس: أنهم قرؤوا {اللاتّ} بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وقال البخاري: حدثنا مسلم- هو ابن إبراهيم- حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس: {اللاتَ وَالْعُزَّى} قال: كان اللات رجلا يلت السَّويق، سويق الحاج.
قال ابن جرير: وكذا العُزَّى من العزيز.
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم».
وروى البخاري من حديث الزهري، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقَامرْك، فليتصدق».
وهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مَخْلَد، حدثنا يونس، عن أبيه، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجرا! فأتيت رسول صلى الله عليه سلم، فذكرت ذلك له، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وانفث عن شمالك ثلاثا، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم لا تعد».
وأما مناة فكانت بالمُشَلَّل- عند قُدَيد، بين مكة والمدينة- وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة.
وروى البخاري عن عائشة نحوه. وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، بها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم، عليه السلام، ومسجده. فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم.
قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها، وجعل يقول:
يا عُزَّ كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك ** إني رأيت الله قَدْ أهَانَك

وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر، أخبرنا ابن فُضَيْل، حدثنا الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْلِ قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئًا». فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنة- وهم حَجَبتها- أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون: «يا عزى، يا عزى». فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: «تلك العزى».
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب.
قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب، فهدمها. ويقال: علي بن أبي طالب.
قال: وكانت ذو الخَلَصة لدَوس وخَثعم وبَجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
قلت: وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال: وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من سَلمى وأجا.
قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمخْذَم، فَنفَّله أياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما سيفا علي.
قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام.
وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت.
قال ابن إسحاق: وكانت رُضَاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام:
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً ** فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا

قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة، وهو القائل:
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحيَاةِ وَطُولِهَا ** وَعُمّرْتُ منْ عَدَد السّنِينَ مِئِينَا

مائَةً حَدّتها بَعْدَها مائَتَان لي ** وازددت مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا

هَلْ مَا بَقِي إلا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ** يَومٌ يَمُرُّ وَلَيلةٌ تَحْدُونَا

قال ابن إسحاق: وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل، وإياد بِسَنْداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بَيْنَ الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ ** والبيت ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد

ولهذا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى}؟.
ثم قال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى}؟ أي: أتجعلون له ولدا، وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي: جورا باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها.
ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر، من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي: من تلقاء أنفسكم {مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ} أي: ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} أي: ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به، ولا انقادوا له.
ثم قال: {أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى} أي: ليس كل من تمنى خيرا حصل له، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]، ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود شيئا يحصل له.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته».
تفرد به أحمد.
وقوله: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى} أي: إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟.

.تفسير الآيات (27- 30):

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}
يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وجعلهم لها أنها بنات الله، كما قال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]؛ ولهذا قال: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم} أي: ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء، وكفر شنيع. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي: لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} أي: أعرِضْ عن الذي أعرَضَ عن الحق واهجره.
وقوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا، فذاك هو غاية ما لا خير فيه. ولذلك قال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي: طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه.
وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ علمنا».
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أي: هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته، وهو العادل الذي لا يجور أبدًا، لا في شرعه ولا في قَدَره.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}.
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي: يجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي: لا يتعاطون المحرمات والكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [النساء: 31].
وقال هاهنا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ}. وهذا استثناء منقطع؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فَزِنَا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه».
أخرجاه في الصحيحين، من حديث عبد الرزاق، به.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن ثور حدثنا مَعْمَر، عن الأعمش، عن أبي الضُّحَى؛ أن ابن مسعود قال: «زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللَّمَم».
وكذا قال مسروق، والشعبي.
وقال عبد الرحمن بن نافع- الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي- قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: {إِلا اللَّمَمَ} قال: القُبلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، وهو الزنا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِلا اللَّمَمَ} إلا ما سلف.
وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال: في هذه الآية: {إِلا اللَّمَمَ} قال: الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه، قال الشاعر:
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا ** وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله: {إِلا اللَّمَمَ} قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه، قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جما ** وأي عبد لك ما ألما

وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا.
قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما ** وأي عبد لك ما ألما

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري، عن أبي عاصم النبيل. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق.
وكذا قال البزار: لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه. وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل وفي صحته مرفوعا نظر.
ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة- أراه رفعه-: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} قال: «اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود»، قال: «ذلك الإلمام».
وحدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عَديّ، عن عوف، عن الحسن في قول الله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر، ثم لا يعود.
وحدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أبي رَجاء، عن الحسن في قول الله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا، واللمة من شرب الخمر، فيجتنبها ويتوب منها.
وقال ابن جرير، عن عطاء، عن ابن عباس: {إِلا اللَّمَمَ} يلم بها في الحين. قلت: الزنا؟ قال: الزنا ثم يتوب.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عُيَيْنَة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: {اللَّمَمَ} الذي يلم المرَّةَ.
وقال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن {اللَّمَمَ} فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب. وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها مَلَك كريم. حكاه البغوي.
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح- وهو ضعيف- عن عمرو بن شعيب؛ أن عبد الله بن عمرو قال: {اللَّمَمَ}: ما دون الشرك.
وقال سفيان الثوري، عن جابر الجُعفي، عن عطاء، عن ابن الزبير: {إِلا اللَّمَمَ} قال: ما بين الحدين: حد الدنيا وعذاب الآخرة.
وكذا رواه شعبة، عن الحكم، عن ابن عباس، مثله سواء.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله: {إِلا اللَّمَمَ} كل شيء بين الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة، تكفره الصلوات، وهو اللمم، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة.
وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي: رحمته وَسِعَت كل شيء، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض} أي: هو بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر عنكم وتقع منكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر، ثم قسمهم فريقين: فريقا للجنة وفريقا للسعير.
وكذا قوله: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله، وشقي أم سعيد.
قال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا، فسقط منا من سقط، وكنا فيمن بقي، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً، فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك. وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا- لا أبا لك- فماذا بعد هذا ننتظر؟ رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي: تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عَمْرو الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرّةَ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم». فقالوا: بم نسميها؟ قال: «سموها زينب».
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة، عن أبيه قال: مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك! قطعت عُنُقَ صاحبك- مرارًا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلانا- والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا- أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك».
ثم رواه عن غُنْدَر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، به.
وكذا رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، من طرق، عن خالد الحذاء، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري، عن منصور، به.