فصل: تفسير الآيات (33- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (33- 41):

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى (41)}.
يقول تعالى ذَامًّا لمن تولى عن طاعة الله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32]، {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه.
وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد. قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرًا، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون: أكدينا، ويتركون العمل.
وقوله: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي: أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده، حتى قد أمسك عن معروفه، فهو يرى ذلك عيانا؟! أي: ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا؛ ولهذا جاء في الحديث: «أنفق بلالا ولا تَخْشَ من ذي العرش إقلالا»، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
وقوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال سعيد بن جبير، والثوري أي بلّغ جميع ما أمر به.
وقال ابن عباس: {وَفَّى} لله بالبلاغ.
وقال سعيد بن جُبَير: {وَفَّى} ما أمر به.
وقال قتادة: {وَفَّى} طاعة الله، وأدى رسالته الى خلقه. وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يُقتَدى به في جميع أحواله وأفعاله وأقواله، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا آدم بن أبي أياس العسقلاني، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال: «أتدري ما وفى؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار».
ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير، وهو ضعيف.
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أبو جعفر السّمْناني، حدثنا أبو مُسْهِر، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن جبير بن نُفَير، عن أبي الدرداء وأبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، عز وجل، أنه قال: «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره».
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن قائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} [الروم: 17] حتى ختم الآية».
ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن رِشْدِين بن سعد، عن زَبَّان، به.
ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، كما قال: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} أي: كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي، رحمه الله، ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه». والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم} الآية [يس: 12]. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».
وقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي: يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [التوبة: 105] أي: فيخبركم به، ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهكذا قال هاهنا: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى} أي: الأوفر.

.تفسير الآيات (42- 55):

{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)}
يقول تعالى مخبرا {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي: المعاد يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سُوَيد بن سَعيد، حدثنا مسلم بن خالد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون الأوْديّ قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}، قال: لا فكرةَ في الرب.
قال البغوي: وهذا مثل ما رُوي عن أبي هريرة مرفوعا: «تفكَّروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفِكْرة».
كذا أورده، وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَه».
وفي الحديث الآخر الذي في السنن: «تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله، فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مَسِيرة ثلاثمائة سنة» أو كما قال.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي: خلق في عباده الضحك، والبكاء وسببهما وهما مختلفان.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}، كقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاة} [الملك: 2]، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}، كقوله: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36- 40].
وقوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى} أي: كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: مَلَّك عباده المال، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم، لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم. وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين، منهم أبو صالح، وابن جرير، وغيرهما.
وعن مجاهد: {أَغْنَى}: مَوَّل، {وَأَقْنَى}: أخدم.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس ومجاهد أيضا: {أَغْنَى}: أعطى، {وَأَقْنَى}: رَضّى.
وقيل: معناه: أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه، قاله الحضرمي بن لاحق.
وقيل: {أَغْنَى} من شاء من خلقه و{وَأَقْنَى}: أفقر من شاء منهم، قاله ابن زيد. حكاهما ابن جرير وهما بعيدان من حيث اللفظ.
وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم: هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له: مِرْزَم الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه.
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى} وهم: قوم هود. ويقال لهم: عاد بن إرم بن سام بن نوح، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 6- 8]، فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله وعلى رسوله، فأهلكهم الله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 6، 7].
وقوله: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}، أي: دمرهم فلم يبق منهم أحدا، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْل} أي: من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} أي: أشد تمردا من الذين من بعدهم، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يعني: مدائن لوط، قَلَبها عليهم فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} يعني: من الحجارة التي أرسلها عليهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين} [الشعراء: 173].
قال قتادة: كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان، فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقَطِران كفم الأتون. رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن محمد بن وهب بن عطية، عن الوليد بن مسلم، عن خليد، عنه به. وهو غريب جدا.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي: ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟ قاله قتادة.
وقال ابن جُرَيج: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} يا محمد. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.

.تفسير الآيات (56- 62):

{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى (56) أَزِفَتِ الآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}
{هَذَا نَذِيرٌ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم {مِنَ النُّذُرِ الأولَى} أي: من جنسهم، أرسل كما أرسلوا، كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل} [الأحقاف: 9].
{أَزِفَتِ الآزِفَة} أي: اقتربت القريبة، وهي القيامة، {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي: لا يدفعها إذًا من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم: {تَعْجَبُونَ (1)} من أن يكون صحيحا، {وَتَضْحَكُونَ (2)} منه استهزاء وسخرية، {وَلا تَبْكُونَ} أي: كما يفعل الموقنون به، كما أخبر عنهم: {وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وقوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الغناء، هي يمانية، اسْمِد لنا: غَنّ لنا.
وكذا قال عكرمة.
وفي رواية عن ابن عباس: {سَامِدُونَ}: معرضون.
وكذا قال مجاهد، وعكرمة.
وقال الحسن: غافلون. وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وفي رواية عن ابن عباس: تستكبرون. وبه يقول السدي.
ثم قال آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أي: فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا.
قال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
انفرد به دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة، عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسَجَد من عنده، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي في الصلاة، عن عبد الملك بن عبد الحميد، عن أحمد بن حنبل، به.
ذكر حديث له مناسبة بما تقدم من قوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى. أَزِفَتِ الآزِفَة}، فإن النذير هو: الحذر لما يعاين من الشر، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم، كما قال: {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد} [سبأ: 46]. وفي الحديث: «أنا النذير العُريان» أي: الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئًا، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك، فجاءهم عُريانا مسرعا مناسب لقوله: {أَزِفَتِ الآزِفَة} أي: اقتربت القريبة، يعني: يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، قال الإمام أحمد:
حدثنا أنس بن عياض، حدثني أبو حازم- لا أعلم إلا عن سهل بن سعد- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خُبْزَتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه».
وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال أبو ضَمْرَة: لا أعلم إلا عن سهل بن سعد- قال: «مثلي مثل الساعة كهاتين» وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل فَرسَي رِهَان»، ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أتيتم أتيتم». ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ذلك». وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحِسان. ولله الحمد والمنة، وبه الثقة والعصمة.
آخر تفسير سورة النجم ولله الحمد والمنة.